طالبان على أبواب الإمارة الثانية | (1) الصفقة
محمود عبد الهادي
كيف وصلت طالبان إلى أبواب الإمارة الإسلامية الثانية في أفغانستان، لتعلن نهاية فصل دامٍ من فصول الصراع على السلطة، والمستمر منذ الانقلاب على الملك محمد ظاهر شاه عام 1973؟ هل انتصرت طالبان على الولايات المتحدة الأميركية، على غرار انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفياتي وإجباره على الانسحاب من أفغانستان عام 1989 بعد 10 سنوات من الاحتلال الإجرامي البشع؟ أم أن الولايات المتحدة سلّمت أفغانستان لطالبان؟ ولماذا قامت بذلك؟ هل هناك صفقة سرية تم إبرامها بين الطرفين تحقق مصالح كل منهما لدى الآخر، وتفتح الباب لمرحلة جديدة تغيّرت فيها القيادات والإدارات والأهداف التكتيكية، وتنوعت فيها المعلومات والخبرات والعلاقات، ولكن الإستراتيجيات ظلت على حالها لم تتغير؟
المشاهد والتطورات الدرامية المتلاحقة في أفغانستان ينبغي ألا تأخذنا بعيدا عن حقيقة ما يدور، ولا عن موقع ما يدور في سلسلة الأحداث وخضوعه للقواعد السياسية، فالسياق الدولي الراهن يفرض بقوة على الأنظمة الحاكمة أن تتعاون مع النظام الدولي وقواه المتحكمة، بل يتجاوز الأمر أحيانا حدود التعاون إلى الإذعان.
الطريقة التي تساقطت بها الولايات الأفغانية واحدة تلو الأخرى بيد حركة طالبان، ودخولها السينمائي للعاصمة كابول، وما صاحبه وأعقبه من مشاهد عالية الإثارة والتشويق، شغلت العالم أجمع بقادته وسياسييه وشعوبه وإعلامييه، وملأت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات والمشاركات، كلٌ على طريقته، وشغلت وسائل الإعلام في تغطيات متواصلة لعدة أيام، وهيَّجت عواطف المسلمين في العالم أجمع فرحا بـ"انتصار" طالبان و"هزيمة" الولايات المتحدة الأميركية.
هذه المشاهد والتطورات المتلاحقة التي تراها العين حيّة على شاشات وسائل الإعلام ينبغي ألا تأخذنا بعيدا عن حقيقة ما يدور، ولا عن موقع ما يدور في سلسلة الأحداث وخضوعه للقواعد السياسية الحاكمة، خصوصا أن هذه المشاهد والتطورات جاءت وفقا للجدول الزمني المتفق عليه بين طالبان والولايات المتحدة، بغض النظر عن التفاصيل الهوليودية التي رافقت عملية التنفيذ.
علاقات ومفاوضات متواصلة
بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان منذ استيلائها على الحكم في أفغانستان عام 1995، وهذا التواصل أمر طبيعي لا يشين حركة طالبان التي كانت على رأس السلطة، وبالتالي عليها أن تتعامل مع تحدياتها المحلية والإقليمية والدولية، والسياق الدولي الراهن يفرض بقوة على الأنظمة الحاكمة أن تتعاون مع النظام الدولي وقواه المتحكمة، بل يتجاوز الأمر أحيانا حدود التعاون إلى الإذعان، وقد تابعنا في السنوات القليلة الماضية العديد من نماذج الإذعان هذه، وتناولنا لهذه العلاقات يأتي من باب فهم ما يجري في موقعه الصحيح، بعيدا عن العواطف والانفعالات وتجاذبات التأييد والمعارضة.
العلاقات الوطيدة في ذلك الوقت بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة، أعاقت نمو العلاقات الأميركية مع طالبان بما يخدم مصالح الجانبين، وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، أصبحت طالبان في دائرة الأعداء الرئيسيين للولايات المتحدة، وتمت الإطاحة بها وإزاحتها عن السلطة وملاحقتها لفترة استمرت أكثر من 15 عاما، ومع ذلك لم تنقطع الاتصالات بين الطرفين، مباشرة أو عن طريق الوسطاء الإقليميين، وخاصة بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مايو/أيار 2011.
أثناء هذه السنوات، حدثني أكثر من مصدر إعلامي مطّلع أن الولايات المتحدة عرضت قبولها مشاركة طالبان في الحكومة الأفغانية مقابل الموافقة على امتيازات إستراتيجية معينة للولايات المتحدة، على رأسها الاحتفاظ بقاعدة باغرام الجوية شمال كابل، وعندما رفضت طالبان هذا الشرط عرضت الولايات المتحدة عليها تسليمها كامل السلطة في أفغانستان مقابل الاحتفاظ فقط بقاعدة باغرام الجوية، ولكن طالبان رفضت هذا العرض أيضا.
استمرت العلاقات بين طالبان والولايات المتحدة حتى وصلت حد التنسيق والتعاون بينهما في المعلومات والعمليات العسكرية التي استهدفت تنظيم داعش في ولاية كونر الأفغانية عام 2014، وفقا لما جاء في شهادة الجنرال فرانك ماكنزي القائد الأعلى للقوات الأميركية في أفغانستان والشرق الأوسط، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي.
استمر التواصل بين الولايات المتحدة وحركة طالبان حتى بلغ ذروته بالموافقة على الدخول في مفاوضات مباشرة في الدوحة عام 2018 لإنهاء الحرب وإحلال السلام في أفغانستان، وقد تُوّجت هذه المفاوضات -بعد 18 شهرا- بتوقيع اتفاقية إحلال السلام بينهما في نهاية فبراير 2020.
خارطة الطريق لحكم طالبان
كانت اتفاقية السلام في أفغانستان بين طالبان والولايات المتحدة في الوقت نفسه مطلباً حيوياً للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي كان يستعجل الوصول إلى اتفاق يتم على أساسه سحب القوات الأميركية من أفغانستان، للاحتفال به والاستفادة من هذا الحدث في حملته الانتخابية للفترة الرئاسية الثانية، وكان من المقرر أن يعقد مؤتمراً مع طالبان في كامب ديفيد، إلا أنه عدل عن ذلك.
هذه الاتفاقية المعلنة التي جاءت في 3 صفحات ونصف الصفحة، اشتملت على 5 مسائل تعتبر علامات بارزة في رسم ملامح المستقبل السياسي القادم في أفغانستان، وهذه المسائل هي:
1. أن الاتفاقية نصت بداية على أنها بين طرفين اثنين فقط:
إمارة أفغانستان الإسلامية والولايات المتحدة الأميركية، وقد ورد ذكر الإمارة في الاتفاقية 15 مرة، وبالرغم من أن الاتفاقية تذكرها متبوعة بعبارة "التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان"، فإنها مؤشر واضح على قبول الولايات المتحدة المبدئي بشكل الدولة التي ستترتب على هذه الاتفاقية، وهي إمارة أفغانستان الإسلامية، وهو الاسم الذي كانت تستعمله حركة طالبان قبل الاجتياح الأميركي.
2. المفاوضات
استمرت لمدة عام ونصف العام مقتصرة على طالبان والحكومة الأميركية، دون إشراك الحكومة الأفغانية أو أي طيف آخر من أطياف المجتمع الأفغاني، وهذا مؤشر بارز على قرار الولايات المتحدة المسبق والمدروس على تسليم السلطة لطالبان، التي ستقوم بتشكيل الحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة على النحو الذي يحدده الحوار بين الأفغان.
3. تلتزم طالبان بما يأتي:
- عدم استخدام الأراضي الأفغانية من قبل أي جماعة أو فرد من أفرادها أو أفراد الجماعات الأخرى، بما في ذلك القاعدة، ضد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.
- إرسال رسالة واضحة بأن أولئك الذين يشكلون تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها ليس لهم مكان في أفغانستان.
- إصدار تعليمات لأفرادها بألا يتعاونوا مع الجماعات أو الأفراد الذين يهددون أمن الولايات المتحدة وحلفائها.
- منع أي جماعة أو فرد في أفغانستان من تهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها، ومنع تجنيدهم وتدريبهم وتمويلهم واستضافتهم.
- ضمان أن سجناء طالبان المفرج عنهم سيكونون ملتزمين بالمسؤوليات المذكورة في الاتفاقية، حتى لا يشكلوا تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها.
- الالتزام بالتعامل مع طالبي اللجوء أو الإقامة في أفغانستان وفقاً لقانون الهجرة الدولي، والتعهدات الواردة في الاتفاقية حتى لا يشكل هؤلاء تهديداً على أمن الولايات المتحدة وحلفائها.
- عدم منح تأشيرات سفر، أو جوازات سفر، أو تصاريح سفر، أو أي من الوثائق القانونية الأخرى لأولئك الذين يشكلون تهديداً على أمن الولايات المتحدة وحلفائها للدخول إلى أفغانستان.
4. تلتزم الولايات المتحدة بما يأتي:
- تسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها جميع قواتهم من 5 قواعد عسكرية (وردت هكذا دون تحديد أسماء هذه القواعد).
- تستكمل الولايات المتحدة وحلفاؤها سحب جميع القوات المتبقية من أفغانستان في غضون الشهور التسعة والنصف المتبقية.
- تسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف جميع قواتهم من القواعد المتبقية.
- رفع العقوبات الأميركية المفروضة على أفراد طالبان.
- التواصل مع مجلس الأمن الدولي لرفع أفراد طالبان من قائمة العقوبات الدولية.
- تمتنع الولايات المتحدة وحلفاؤها عن التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأفغانستان أو التدخل في شؤونها الداخلية.
- مطالبة مجلس الأمن الدولي بالاعتراف بالاتفاقية وإقرارها.
- التعاون الاقتصادي من أجل إعادة الإعمار.
5. أن السلطة بيد طالبان
التي تلتزم بتشكيل حكومة تشارك فيها القوى والمكونات الأفغانية الأخرى. وأن طالبان والولايات المتحدة ستسعيان إلى إقامة علاقات إيجابية مع بعضهما، وكذلك بين الولايات المتحدة والحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة بعد التسوية التي يحددها الحوار بين الأفغان.
وكما هو واضح، فإن اتفاقية السلام المبرمة بين طالبان والولايات المتحدة العام الماضي، كانت اتفاقية تسليم أفغانستان لحركة طالبان، فما الذي دفع الولايات المتحدة إلى ذلك؟ وما الذي حصلت عليه مما لم تنص عليه الاتفاقية.
(يتبع…: الملاحق السرية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق