الثلاثاء، 9 مايو 2023

الذكاء الاصطناعي.. صناعة الخوف الثالث

 

الذكاء الاصطناعي.. صناعة الخوف الثالث

النزعة في تحجيم دور البشر لحساب الذكاء الاصطناعي 

ليست وليدة اللحظة، بل كانت ملاذا للكثير من السلطويين والشموليين

دُعي زعيم الطريقة الكركرية الصوفية إلى إلقاء محاضرة في جامعة شيكاغو حول التصوف والذكاء الاصطناعي، مدار حديثه كان حول العلاقة الروحانية للإنسان والعالم المادي الذي ترتكز عليه شهواته وملذاته، في السياق نفسه ومع تفاوت الوعي بقيمة الذكاء الاصطناعي، ظلت التحذيرات مستمرة ومربكة من رواد الصناعات التكنولوجية، كان رأس ذلك الصرح الذي بدأ يبث أسافين الرعب في العالم، رَجُلا الأعمال والتكنولوجيا إيلون ماسك وبيل غيتس، اللذين سارعا إلى دق أجراس الحضارة البشرية التي "يتهددها" التنامي المخيف والمرعب للآلة، وكانت أمام الطلائع التي تقود حملة الهلع والخوف من الذكاء الاصطناعي، وسائل الأعلام التي أعادت إنتاج صيغ مختلقة تم تداولها كونها حقائق هيستيرية، بعيدا عن التمحيص والتحليل اللذين يمنحان القدرة على الإحاطة بمدى خطورة فكرة "سيطرة الذكاء الاصطناعي" على العالم البشري، وأهمية معرفة كيفية "صناعة الخوف الثالث" بوصفه فضاء تدور رحاه على استضافة قمعية للهيمنة على الإنسان، وما ستبحث فيه هذه الأسطر الموجزة، متعلق بـ"الأزمة الحضارية" التي تعيشها الإمبراطورية في سبيل الهيمنة وهوسها بالسيطرة على مستقبل البشرية، وحيث السؤال يفرض ذاته تلقائيا من واقع تتجاذبه الحروب والأزمات وسطوة الطبيعة، كان لزاما علينا أن نعيد التفكير بعيدا عن "السردية المضللة" المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بوصفه تحدّيا لا تهديدا للحضارة.

وُصف الذكاء الاصطناعي بأشد العبارات دلالة، وهي قدرته على تحريك عجلة التفكير نحو المستقبل، وإمكانية توظيف العمليات التحليلية في تقييم الفعل البشري الذي تتخلله الإرهاصات المستقبلية واستلاب الماضي وحالة اللاشعور المفضية إلى خلخلة المعيار المادي الذي تقوم عليه الحضارة.

الذكاء والخوف

تعتبر العمليات العقلية في البحث والتحليل وإنتاج المعرفة أهم سمات الذكاء المرتبطة بالنشاط البشري، إذ يحاول العقل البشري التعرف على عوالم مختلفة ومصطنعة، وبه تتم معالجة أهم القضايا والظواهر اليومية المبتذلة، ومع أنّ البشر يمتلكون القدرة على صناعة ما يفوق قدراتهم الجسمانية، فإنّهم يتمثلون الإبداع الكوني في إنتاج نماذج تتشابك مع الطبيعة والتأله، وذلك لم يكن مصادفة أو استثناء حضاريا اليوم، بل ترجع أصول ذلك إلى نشأة البشرية وارتباطها مع الحضارة في تحديد معالم السيطرة على الخوف، ولعل الآلة -بوصفها حدثا صناعيا مهما في تطوير الحضارة- شراستها ازدادت مع الألفية الأخيرة والتطور المتسارع في التكنولوجيا واستخداماتها المثيرة والمرعبة، وهنا كان السؤال عن إمكانية التوظيف الإيجابي/السلبي لها، يتأسس مع الحالة الانفلاتية للعالم من القيم الأخلاقية ورغبة الإمبراطورية للهيمنة عليه، لتبدأ عملية التسارع ليس على التسلح فحسب، بل بالحصول على التكنولوجيا اللازمة لردع القوى الداعية لتعدد المركزيات.

ويحدث أن يوصف الذكاء الاصطناعي بأشد العبارات دلالة، وهي قدرته على تحريك عجلة التفكير نحو المستقبل، وإمكانية توظيف العمليات التحليلية في تقييم الفعل البشري الذي تتخلله الإرهاصات المستقبلية واستلاب الماضي وحالة اللاشعور المفضية إلى خلخلة المعيار المادي الذي تقوم عليه الحضارة. إنّ الفعل الأداتي للآلة تشكلت معه مفاهيم قاصرة حول الأدائية التي يراد للآلة القيام بها، إلى جانب تحديد الكيف والزمان الخاصين بها، وعلى هذا تنبري الخطورة في تمييز التهديد الحاصل عن "فعل الذكاء الاصطناعي" مقابل "الاستغلال الوحشي للآلة" في استحالة الاستخدامات الرشيدة للذكاء الاصطناعي بالمطلق، بعيدا عن التشوّهات التي يفرضها الهلع المستمر منه.

بالإمكان وصف الخوف وارتباطه بحالات الوعي لدى البشر، لكن ليس بمقدور الكثيرين فهم آليات العقل في تحييد المخاوف عن أسطورتها وتخيلاتها، إذ كان للخوف السبق في تشكيل بنية اجتماعية تتخللها الفراغات الروحانية والأخلاقية، التي تحول دون التشبث بالقيم الاستهلاكية والصور النمطية الملفقة والمختلقة من المؤسساتية المعولمة، وما من شك أنّ الخوف حالة طبيعية مكتسبة يزيد تصلبها مع تراجع الوعي به، فالخوف من الطبيعة والموت يفضيان إلى العلاقة المربكة بين الحضارة والإنسان، وهل زوال الحضارة متعلق بفناء الإنسان؟ إذ لا يمكن للعالم البشري أن يتجاوز "ماهية مركزية الحضارة" ما لم يتم تخليصه من "عُقد الإمبراطورية" التي يروّج حرّاسها ترويضها للطبيعة عبر التقنيات الحديثة، إلى جانب تفعيل القيم التي تسهم في استمرارية الشرط الإنساني.

يستعيد الخوف المصطنع من الإمبراطورية تمثلاته العديدة في وقت تدق فيه أجراس التحرر والرفض لفكرة الإنسان الاستهلاكي المادي، عبر صبها في قالب ثالث تتجرع الإنسانية مرارته على أنّه ترياق نجاتها، ذلك "الخوف الثالث" الذي يتم صناعته للحيلولة دون التمرد على المانيفستو الإمبراطوري، راح ينفخ في "الخوف من الذكاء الاصطناعي" كي يعيد صياغة مجتمعات بعضها يكافح لنيل عيشها الكريم، وأخرى غارقة في نظامها المؤسساتي المهمين على القيم والثروة على حد سواء، ولعل الهوس بصراع الحضارات، والإسلاموفوبيا، وأسطورة سكان الفضاء التي تروج لها الإمبراطورية بترسانة سينمائية هائلة، والفوضى الخلاقة والاستغلال المتوحش لجائحة كورونا، ليس بدعا من أن يكون الصراخ في آخر النفق على نقد فكرة تنامي خطر الذكاء الاصطناعي علامة على خوف الإمبراطورية من فقدان/تراجع قوتها ومركزيتها، فما من شك أنّ الإطاحة ببرنامج إيران النووي يحتاج إلى تقنيات عالية التطور للحيلولة دون امتلاك الجمهورية الإسلامية سلاحا ردعيا، لكن ومع ذلك، فإن الاتهامات تطارد (إسرائيل) في استخدام القوة العسكرية لاغتيال العلماء والمبرمجين، كل ذلك يظهر مدى الحرص على عدم "انفلات التطور التكنولوجي" عن مركزيته الإمبراطورية، كي يكون ملاذا آخر لقوى التغيير التي تناهض وإن بشكل متموّج حالة التسيّد اللاأخلاقي.

ما يفتقده "الذكاء الاصطناعي" هو الكثير من المهام التي أنيطت بالبشر منذ نشأتهم، ولعل صناعة روبوتات بإمكانها إشباع الغريزة البشرية من الجنس؛ تصوَّر على أنّها "علاقة حميمية" بإمكانها صياغة الروابط الاجتماعية والتواصلية بين العقل البشري والعقل الاصطناعي

الحضارة الآمنة

وبالعودة إلى محاضرة شيخ الطريقة الكركرية عن الذكاء الاصطناعي وتعلقه بالإنسان، فإنّ من الجوانب التي تملي علينا التأمل في رمزية استضافة جامعة شيكاغو أحد رواد الطريقة الصوفية؛ أنّ أحد الإشكالات المتعلقة به هو افتقاده للحس الوجداني الذي تفتقده الحضارة الغربية اليوم، أي أنّ التشابه بين المادية الغربية ونمط إنتاجها الاستهلاكي بعيدا عن القيم الأخلاقية، هو من حدد الطريقة التي يمكن للذكاء الاصطناعي الاستعانة بها، وإنّ حركة رأس المال المعولم هي من ستكفل التخلي عن وظائف الملايين من البشر، في الوقت الذي تراهن فيه الحضارة على استمراريتها من خلال بنيتها التصادمية.

ما يفتقده "الذكاء الاصطناعي" هو الكثير من المهام التي أنيطت بالبشر منذ نشأتهم، ولعل صناعة روبوتات بإمكانها إشباع الغريزة البشرية من الجنس؛ تصوَّر على أنّها "علاقة حميمية" بإمكانها صياغة الروابط الاجتماعية والتواصلية بين العقل البشري والعقل الاصطناعي، ومكامن هذه الفكرة ترجع إلى حالة الفوضى الأخلاقية التي تعيشها الحضارة، إذ ما من قيم تحكم مع هذا التوحش المادي الآخذ في التصادم بكل ما هو أخلاقي، وطبيعي، وتاريخي، وإنساني.

إنّ النزعة في تحجيم دور البشر لحساب الذكاء الاصطناعي ليست وليدة اللحظة، بل كانت ملاذا للكثير من السلطويين والشموليين، لكنها بدأت تأخذ مسلكا خطيرا يتعلق بالأوهام التي تبثها الحضارة في العالم الإنساني، تلك الحضارة التي تلاشت قيمها الروحية في سبيل استبداد رأس المال، سرعان ما ستتداعى أبراجها العالية على مسوخها المتكررة.

وقد بدأت عمليات النفخ في الخوف من الذكاء الاصطناعي تزاحم قضايا أكثر فظاعة ووحشية، تعايشها وتراقبها الحضارة اليوم بأسمائها المستعارة كالتدخل الإنساني والديمقراطية والحقوق العامة، فهي في قمة إخفاقها الأخلاقي مع أصغر تحد لها حينما تنبري شعوب بأكملها نحو الحرية، بل إنّ الخوف هز عرشها حينما استيقظت على تسريبات جوليان أسانج، والتي رسمت خرائط القرصنة المناهضة للإمبراطورية، فهشاشة فكرة تسيّد الذكاء الاصطناعي على العالم البشري، صاغها قرار ترحيل أسانج الذي يواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى 175 عاما إلى الولايات المتحدة الأميركية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق