طماطم وبطاطا وبصل على الطاولة السداسية
أحمد عمر
يسبق الرئيس التركي رجل طيب أردوغان خصومه في الحكمة والأدب والخطابة والسداد وحفظ النفس والمال والعرض والدين والعقل، وما يزال يسبقهم في الأصوات من غير حسم، وقد بنى للأتراك أمّة، وصنع لهم هيبة لم تكن لهم في القرن العشرين من قبل، شعباً وقادة، وشاد لهم عزّاً ومجداً، وحدائق غلبا، ووضع تركيا في الصف الأول من الأمم.
أنشأ لهم طائرات مسيّرة تدك الحصون و"تحيّد" الإرهابيين، ويكثر عليها الطلب في سوق السلاح العالمي، وحاملات طائرات، وأقنية تحت البحر، وطرقاً ممهدة مثل ألواح الحلاوة، وسيارة فاخرة، لكن كل هذا مهدد بقنبلتين نوويتين صامتتين تباعان في محلات الخضار؛ هما السيدة الحمراء ذات التاج: السيدة طماطم، والسيدة المليحة في الخمار الأسمر: السيدة بطاطا!
سخر المتذكرون الأوفياء، أنصار رجب طيب أردوغان، من خصومه، أنصار الطاولة السداسية، فأحضروا ورقة انتخابية ووزعوا للمرشحين للرئاسة جوائز من الخضروات هي أثمانهم البخسة: بطاطا لأوغان، بصل لمحرم إنجه، خيار لكمال كليتشدار أوغلو.
يمكن تسمية تحالف الطاولة السداسية اسماً جديداً أنسب من السابق وهو: تحالف طبق السَلَطَة. وهي سخرية طريفة وسديدة ومفعمة بالإيحاء والإغضاء بل والحطّ، لكن هذا لا يغني عن المعدة شيئاً، فأنصار أردوغان هم من المؤمنين والأتقياء وأصحاب الرأي، وخصومه من محبّي السلطة.
وكان أردوغان هو الذي سمح لحزب الشعب الجمهوري بالنشاط، وهو الذي أعاد للكرد حقهم فنسوا، وهو الذي خفض سن الانتخاب من 21 سنة إلى 18 سنة، فخسر أصواتهم، فالشباب شعلة من الجنون، وهم غرائز صافية، وإن يتبعون إلا أهواءهم، وهم مباحون لوسائل التواصل الاجتماعي الفتّاكة بصورها ووساوسها وشواظ نيرانها، فهي إمام العصر والزمان. الكرد يريدون كياناً سياسياً، والشباب يريدون إشباع غرائزهم في الشارع والنادي.
أول أسباب عدم حسم أردوغان الانتخابات في الجولة الأولى هو النسيان، فالمرء ينسى بسرعة، وكان أول مرض ابتلي به الإنسان هو النسيان، وهو نعمة أحياناً، لكن ليس في موضع الشكر، "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما"، فالنسيان أول ما ابتلي به أبونا آدم عليه السلام. يطلق النسيان على ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره. لكن نسيان المصوّتين لحزب العدالة والتنمية هو نسيان جحود، فقد ألِفَ النعمة وازدراها ويريد المزيد.
وثاني الأسباب هو الاستعلاء القومي والمذهبي والعصبية والطائفية، وقد علا القوميون على السوريين، وانتخب أنصار سنان أوغان مرشحهم الجعفري والقومي وقد جمع البلاءين، وأول من أصيب بمرض الاستعلاء إبليس الذي قال لربه جاحداً: خلقتني من نار وخلقته من طين.
ثالث الأسباب هو السأم والملل، قال بعض المؤوّلين إن آدم أكل من الشجرة المحرّمة دفعاً للملل كما قال صاحب رواية السأم، إلبرتو مورافيا، وفي الرواية يعزو الكاتب كل الاختراعات والإنشاءات البشرية إلى الملل والسأم، والجيل الشاب يظن أنّ الملك والسلطان ثوب أو فيلم أو مقطع تيك توك يمكن تغييره بسرعة ويريد وجوهاً جديدة في المشهد السياسي.
أما أقوى الأسباب في تراجع التصويت لصاحب النعمة المنسيّة فهي الغريزة، وللمرء غريزتان هما غريزتا ما بين اللحيين؛ غريزتا الطعام والإتيان. فأردوغان تقيّ ورع، بنى دولة قوية للأجيال القادمة ولم يحصّنها بعد بسور الدستور، ويريد بعث سلطان الخلافة العظيم الذي دان له الشرق والغرب مدة طويلة، ويبغي التحرر من الهيمنة الدولية، ويماطل في دفع الجزية المتحصلة من الفوائد الربوية، وقد يضطر إليها في جولة الإعادة.
والشباب، وكان منح حق التصويت في سن الثامنة عشرة بدلاً من الحادية والعشرين، ينزعون إلى الغريزة، وإشباعها. ويعرف القارئ أنّ التضخم فشا في العالم، وكان لتركيا منه نصيب كبير، حتى صارت البندورة والبطاطا والخيار التي سخر منها عقلاء في حزب العدالة والتنمية شأنا أهم من قناة إسطنبول وطائرات بيرقدار وحاملة الطائرات "ت سي جي" أناضول. لقد صعد كليتشدار أوغلو إلى رتبة قريبة من أردوغان بطبق غير فضائي أسرع من طائرة بيرقدار، هو طبق السَلَطة.
والبرهان الذي نسوقه في أثر الطعام على الإنسان من القرآن الكريم، فأول خطيئة بشرية كانت الأكل من الثمرة المحرّمة، أي أن المعدة هي التي أخرجت الإنسان من الجنة، ويمكن تذكّر نصوص شهيرة من الأدب العربي والعلمي، مثل رواية الحرام ليوسف إدريس، وفيها ضحّت عزيزة -بطلة القصة- بشرفها من أجل ثمرة بطاطا، ورواية المرأتان لألبرتو مورافيا، وقصة "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر، الذي خضع من أجل الرغيف.
أحجية الأميرة المريضة من الأحاجي غير الشهيرة، وهي حزورة تقول إنّ ثلاثة أصحاب اجتمعوا على الساحل ولكل منهم متاع، وكان للأول مرآة سحرية (من نوع سامسونج) فنظر فيها فوجد أميرة مريضة على الطرف الآخر من الجزيرة، والثاني كان له قارب، وكان الثالث يصطحب زوادته، فعبر بهم صاحب القارب بقاربه، ومثلوا بين يدي الملك، وتقدم الثالث بثمار الطماطم دواءً، فأكلتها الأميرة، فبرئت من ساعتها، وكان سؤال الحزورة:
مَن مِنَ الفرسان سيتزوج الأميرة؟ صاحب المرآة أم صاحب القارب أم صاحب الدواء، وجواب الحزورة أنها من نصيب كليتشدار أوغلو صاحب الطماطم، وليس بيرقدار الطائرة المسيّرة، ولا أردوغان صاحب المرآة.
قبل أن أذكر العبرة من الحكاية، وقد انجلت، نذكر بفضيلة غير منكرة لرئيس مصر الفيلسوف السيسي، الذي قال في أول لقاء بعد فوزه إنه سيقدم لكل خريج جامعي عربة خضار، ويتبين لكل ذي عينين أنه كان يعرف من أين تؤكل الطماطم.
في القصة "النباتية" عبرة وعظة، ومطالب ثلاثة في الحياة هي على التوالي: الطعام، ثم المرأة، ثم الإمارة، وهي المكافأة الكبرى.
سقطت امرأة في قصة "الحرام" في سبيل حبة بطاطا، أما الساقط في الانتخابات التركية، إن سقط، فهي أمّة كاملة.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق