غزة.. ورائحة الخبز من أفران القاهرة!
بينما تسير في شوارع المحروسة، لا تغادر أنفك رائحةٌ مميّزة، من أوّل نزولك من المطار إلى البلاد، وحتى تغادرها، رائحة دافئة، ساخنة، نشطة، تتخلّل الطريق إلى الرئتين، وتنفض عنهما غبار سنوات عمرك الفائتة، تذكّرك بمدى دقّة مسمّى "العيش" عند المصريين حين يطلقونه على الخبز لديهم، فالعيش في مصر يستحيل من دون العيش، كأنّ البلاد تقوم على أعمدة مجوّفة، داخل كلّ تجويفٍ منها فرنٌ بلديّ، يصنع ما يكفي مائة مليون فمٍ مفتوحٍ كلّ صباح.
تلك الرائحة الشهية، والسحابة المميّزة التي تغطي مصر كأنها رغيف خبزٍ كبير، مصنوع من الرَّدّة والهواء، يبلغ أقصى أفق يراه المقيمون والعابرون، حتى لتشعر كأنّه لا شاغل للمصريين سواه، لا شيء يعكّر صفوهم غير السعي إليه، ولا شيء يهدّئ بالهم كما الحصول عليه، حتى إذا حقد أحدهم على الآخر ردّ عليه: "هتبص لي في لقمة عيشي؟"، وإذا نصح أحدهم الآخر، قال له: "كُل عيش"، وحين زلزلوا الملك وهزّوا العرش وفجّروا البركان، كانت أول كلمة في هتافهم "عيش".
تلك الرائحة تكاد تشمها مما وراء الحدود، تتسلّل مع الرياح إلى الإخوة في الجوار، تكاد تصل إلى أنفك وأنت تسير في شوارع غزة، التي تصطفّ هي الأخرى على المخابز، بينما يسمع الناس ضجيجًا ولا يرون طحينًا، حرفيًّا، لأنّه لا شيء يصل إلى غزة منذ ثلاثين يومًا، حين فعل الشبان فعلتهم، وصفعوا قفا إسرائيل، وأذلّوا رأسها في التراب، ولم يلتفت إليهم أحد إلا الشبان مثلهم في الوطن العربيّ الكبير، لأنّ الحكام خجلوا، أحرجهم ذلك مع الاحتلال، كما يُحرج الأولاد الصغار الكبارَ أمام الأغراب، فيحدّقون بهم، ويتمنون لو أنهم يلقنونهم "عَلقة موت"، حتى لا يكرّروا فعلتهم المتهوّرة.
حُوصرت غزة، النبيلة الشريفة الجريئة المقدامة المعطاءة، فوق حصارها، الذي كان يسمح يوميًّا رغم أنفه بخمسمائة شاحنة من البضائع، تمدّ مليوني إنسان بأدنى احتياجاتهم الأساسية يوميًّا، من غذاء ووقود وأدوية ومياه، ثم حين أرادوا الانتقام قطعوا عنها كلّ ذلك، غافلين عن فتحةٍ لهم في الجنوب، طاقة هواء في باب السجن الكبير، بالتأكيد سيتسلّل من خلالها الطعام والماء كلّ يوم، ناهيك بأنّ مفتاح الباب مع الجارة العظمى، والأخت الكبرى، مصر.
اكتشف الفلسطينيون، أن ذلك "الحارس" لا يحرس بلاده، ولا يحرسهم، وإنّما يحرس فتحةً ضيقةً لا يريدها الاحتلال إلا ورقة مساومة
ولكن، لا، لم يكن الاحتلال غافلًا عن الجنوب، بل كان منتبهًا أنّ من يمسك المفتاح (وهم لا يسمحون بإعطاء المفتاح لأي أحد) لا يستطيع أن يديره في الباب بسهولة، إلا من خلال إذن ورقيّ مكتوب مختوم ممهور منهم، حتى ولو كان صاحب المفتاح، ومالك الباب، وباني السور "سيد قراره" كما يقول، لكن الحقيقة المرّة، كمرارة حلوق أهل غزة، أنّ ذلك الحارس، اكتشف الفلسطينيون فجأةً أنّه لا يحرس بلاده، ولا يحرسهم، وإنّما يحرس فتحةً ضيقةً لا يريدها الاحتلال إلا ورقة مساومة، على الحياة، والمقاومة، والأرض، والجهاد، ومن يستطيع فعل ذلك بالوكالة من أجله، إلا حارسٌ، يساعد "إسرائيل" في أخذ اللقطة أمام العالم، بإدخال الفتات من عقب الباب كلّ يوم، بينما ينصب الحواجز الإسمنتية التي تمنع حتى تسلّل الهواء مع الغذاء!
بحجة الخوف من تصفية القضية الفلسطينية، يصفّي أهلها، وبحجة رفض مخطّط التهجير يفرض مخطّط التجويع، لا لشيء، إلا لأنّ ذلك يروق للاحتلال الإسرائيلي أكثر، فلتبقَ القضية قائمة يا سيدي، لا بأس، هل ستحاربنا الشعارات بدون من يحملها؟ لتبقَ قائمةً إذًا ولكن من دون أهلها، نجوّعهم، نسقيهم الرماد والبارود كلّ يوم، من دون أن تدخل إليهم نقطة مياه "يبلّعون" بها الموت الذي يتجرعونه ليل نهار، ومن دون لقمة خبز واحدة، يصبِّرون بها أنفسهم على تَمَزُّقِ أحشائهم، وإذا سألك الناس فلتقل: "حتى لا ينجح مخطط التهجير"؛ فإنّنا سنقضي على من نظن أنهم قد يهاجرون ذات يوم. مع أنّه لا أحد سيهاجر ولو فتحت لهم الباب على مصراعيه، ولو هدمت السور.
ثلاثون يومًا، وغزة واقفة على باب المخبز، تحمل في يدٍ جثة طفلها، وفي اليد الأخرى عملات معدنية باقية من بيتها المهدوم، ترجو بأدبٍ وعزة نفس من الخبّاز أن يعجّل دورها، ويسرّع عمله، حتى تستطيع دفن وليدها قبل أن يجنّ الليل، وهي واقفة منذ 720 ساعة، لا ينالها إلا لقيمات وفُتات، لا تستطيع إطعام ولو واحدًا بالمائة من صغارها الباقين، بينما كلّ ساعةٍ يُقتل منهم عشرون آخرون، كانوا ينتظرون سدّ رمقهم قبل الموت، وهم لا ينتظرون شيئًا، ولا يشتهون شيئًا، إلا ما يسدّ جوعهم، الذي تحفّزه رائحة الخبز القادمة مع الهواء والبارود من أفران القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق