مَنْ يملك مصر؟
القصة الكاملة للتفريط في أصول الدولة
فريق التحرير
“إحنا لا بنبيع أرضنا لحد ولا بناخد أرض حد”، كلمات قالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه ممثلي المجتمع المصري في 13 أبريل/ نيسان 2016، وعنونتها القنوات الموالية للنظام المصري بالوصف “رسالة الرئيس إلى المشكّكين في بيع أرض مصر”.
في العام التالي، وبالتحديد في 13 يونيو/ حزيران 2017، ناقض السيسي تصريحاته حين صدّق على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي انتقلت بموجبها جزيرتا تيران وصنافير إلى التبعية السعودية، لكن حتى قبل تنفيذ الاتفاق عام 2022 كان تملُّك الأجانب للأراضي والعقارات أو النفاذ إلى أدوات الاقتصاد، يسهم في التحكم بالاقتصاد والضغط على القرار المصري.
تاريخ التفريط في الأرض
لم تكن مهمة التفريط في الأرض أو بيعها جديدة، فمصر لديها قصة لازمت الكثيرين من حكّامها منذ أكثر من قرنَين، عندما ألغى محمد علي باشا نظام “الالتزام”، وأصبحت الأرض ملكًا للسلطان يمنحها لمَن يشاء وكيفما يشاء، متناسيًا حقوق المنتفعين منها، ومع استمرار مسلسل السيطرة على الأراضي ومنحها لحاشية السلطان المصريين والأجانب، نما نمط جديد من السيطرة على الأرض بمرور السنوات.
في مارس/ آذار 1951، أصدر البرلمان قانونًا يمنع غير المصريين من تملك الأراضي الزراعية والقابلة للزراعة والصحراوية، وصدّق الملك فاروق على القانون رقم 37، لكن مادته الثانية تضمّنت بعض الاستثناءات، مثل منع تملك الأجنبي للأرض إذا حصل عليها بالوراثة، أو إذا كانت موقوفة وآلت إليه بانتهاء الوقف، ويبدو هذا الأمر آنذاك مفهومًا بالنظر إلى أعداد الأجانب الذين يمتلكون مساحات واسعة من أرض مصر.
بداية من عام 1963، وضعت السلطات المصرية قواعد صارمة لحظر تملك الأجانب للأراضي بمختلف أنواعها، وفي 19 يناير/ كانون الثاني من العام ذاته أصدر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر القانون رقم 15 لتنظيم هذا الحظر، لكنه ألغى الاستثناءات السابقة، وصادر الأراضي المملوكة للأجانب وسلمها لهيئة الإصلاح الزراعي، التي قامت بدورها بتوزيعها على صغار الفلاحين مع منح تعويضات لأصحابها من الأجانب، واستثناء الفلسطينيين بمعاملتهم معاملة المصريين فيما يتعلق بتملك الأراضي المصرية بشكل مؤقت.
المخاوف لا تنحصر فقط في شبه جزيرة سيناء، هناك أيضًا 90% من مساحة مصر صحراوية، ما يعني إمكانية بيع أغلب الأراضي.
لم يستمر الحظر المطلق لتملك الأجانب للأراضي طويلًا بعد انتهاء الفترة الناصرية، ففي 31 أغسطس/ آب 1981 أصدر الرئيس الأسبق محمد أنور السادات القانون رقم 143، الذي خفّف هذا الحظر تدريجيًّا، ووضع ضوابط واشتراطات تنظّم ملكية الأجانب للأراضي الصحراوية.
واستمر تخفيف قيود تملك الأجانب للأراضي في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي أصدر قانونًا (رقم 104 لعام 1985) ألغى بموجبه الحظر المفروض على الأجانب في عهد عبد الناصر فيما يخص تملك الأراضي الزراعية، وفي عام 1988 أصدر قانونًا آخر (رقم 56) يسمح للأجانب بتملك الأراضي والعقارات، لكن اشترط تحديد مساحات لا تزيد على 3 آلاف متر مربع للسكن، وتحويل قيمة الأراضي بالعملة الأجنبية إلى البنوك المصرية، مع السماح لرئيس الوزراء بمنح بعض الاستثناءات.
استمر هذا الوضع حتى 3 يناير/ كانون الأول الجاري، عندما أدخل السيسي تعديلات جوهرية على القانون رقم 143 لعام 1981، للسماح للعرب والأجانب -أيًّا كانت جنسيتهم- بتملك الأراضي، لمزاولتهم نشاطًا استثماريًّا أو التوسع فيه دون التقيد بالمادتَين 11 أو 12 من قانون الأراضي الصحراوية الصادر في عهد السادات.
جدل تملُّك الأراضي الصحراوية
تنص المادة 11 من القانون على “ألا تقل ملكية المصريين عن 51% من رأس مال أي شركة يساهم فيها أجانب وتمتلك أراضي صحراوية، وألا تزيد ملكية الفرد عن 20% من رأس مالها، ولا يجوز أن تؤول أراضي الجمعيات التعاونية والشركات عند انقضائها إلى غير المصريين”، أما المادة 12 فتنصّ على “اقتصار تملك الأراضي الصحراوية على المصريين دون سواهم”.
لكن التعديلات الجديدة التي وافق عليها مجلس النواب بطلب حكومي ألغت هذه القيود، وأفرغت المادة 11 من مضمونها اعتمادًا على المادة 55 من قانون الاستثمار رقم 72 لعام 2017، التي أتاحت للمستثمر المصري والأجنبي دون تمييز الحق في الحصول على العقارات والأراضي اللازمة لمباشرة نشاطه أو التوسع فيه، أيًّا كانت نسبة مشاركته أو مساهمته في رأس المال.
كما جرى تعديل المادة 12 بنص معقّد مفاده أن “الأجانب لهم الحق في تملك الأراضي الصحراوية” وفق قانون الاستثمار، بل يجوز لرئيس الجمهورية -لأسباب يقدّرها هو- معاملة حاملي الجنسيات العربية المعاملة المقررة للمستثمر الوطني، فيما يخص تمليك الأرض الصحراوية لغير أغراض الاستثمار.
الهدف المعلن من القانون بررته الحكومة بجذب الاستثمارات الأجنبية وإزالة العقبات التي تواجه المستثمرين في عملهم على الأراضي المصريين، وتوفير العملة المصرية في ظل الفجوة الدولارية المتّسعة لتسديد الديون، ففي عام 2024 يتعيّن على مصر سداد نحو 42 مليار دولار من إجمالي ديون 165 مليار دولار.
لكن تمرير القانون على عجل أثار اعتراضات عدد من نواب البرلمان، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبره الكثيرون خطرًا على أمن البلاد، خاصة في ظل الحرب الدائرة في غزة، وحديث المسؤولين الإسرائيليين عن عدة خيارات لمستقبل سكان غزة بعد الحرب أبرزها تهجيرهم إلى سيناء.
من الناحية القانونية، يحظر قانون “التنمية المتكاملة في سيناء” رقم 14 لعام 2012 وتعديلاته، والذي أصدره المجلس العسكري، تملك الأراضي في سيناء لغير المصريين أو لغير الشركات المملوكة بالكامل لمصريين، لكن السيسي أصدر قرارًا جمهوريًّا في مارس/ آذار 2022، باستثناء مدن شرم الشيخ ودهب وخليج العقبة بمحافظة جنوب سيناء من الخضوع لأحكام القانون.
بدا من هذا الاستثناء أنه إرضاء لبعض الدول، خاصة الخليجية، التي تقدمت على مدار السنوات الماضية بطلبات تملُّك الأراضي في هذه المناطق بالتحديد، ففي عام 2016 مثلًا تقدّم ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، بطلب تسجيل أراضٍ و3 فيلات باسمه في خليج نعمة بمدينة شرم الشيخ في محافظة جنوب سيناء، ومع تعارض ذلك مع القانون كان الحل عن طريق إصدار السيسي قرارًا جمهوريًّا رقم 432 لعام 2016، بمعاملة ملك البحرين مثل المصريين فيما يخص حق شراء الأراضي في سيناء.
وبخلاف تلك المناطق المستثناة من التملك للأجانب، لا يزال القانون يمنع تملك الأجانب للأراضي في سيناء، لكن مثل هذه الاستثناءات وسلطات السيسي غير المحدودة التي تسمح له بتمليك عقارات بسيناء لحاملي الجنسية العربية، تجعل ما يخالف هذا القانون أمرًا سهلًا وقابلًا للتطبيق، خاصة إذا كان “الأجنبي” من الدول الخليجية الحليفة للنظام، وهو ما حدث مع المواطن السعودي حمود بن محمد بن ناصر الصالح.
في مايو/ أيار 2016، وبعد أسابيع فقط من توقيع اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، أصدر السيسي قرارًا جمهوريًّا بمعاملة هذا المواطن معاملة المصريين، والسماح له بتملُّك قطعتَي أرض غرب طريق مصر-الإسكندرية الصحراوي، وهي المعاملة المقررة للمصريين في تطبيق المادة 12 من قانون الأراضي الصحراوية، قبل تعديلها مؤخرًا بشكل يجعل الأجنبي ليس بحاجة إلى مثل هذه الاستثناءات.
أعقب ذلك سلسلة من القرارات الجمهورية بمعاملة مواطنين خليجيين معاملة المصريين، أبرزها قرار السيسي الصادر عام 2017 بمعاملة أمير الكويت الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح معاملة المصريين، لتمكينه من توثيق ممتلكاته من الأراضي، والقرار الصادر عام 2022 بنقل ملكية أكثر من 102 فدان من الأمير السعودي ممدوح بن عبد العزيز آل سعود إلى أحفاده، وقد حصل على هذه الأراضي بموجب قرار رئاسي أصدره مبارك عام 1999، بعد تعديل أدخله على قانون الأراضي الصحراوية في أبريل/ نيسان 1988، يسمح بتملك حاملي الجنسية العربية للأراضي صحراوية.
وبحسب الخبراء، لا تنحصر المخاوف فقط في شبه جزيرة سيناء، هناك أيضًا 90% من مساحة مصر صحراوية، ما يعني إمكانية بيع أغلب الأراضي، والتي يشكّل جزء كبير منها امتدادًا لمناطق حدودية تمثّل دروعًا دفاعية تحمي وادي النيل.
وحذّر آخرون من تسهيل القانون للدور الذي تلعبه دول عربية فيما اعتبروه استيلاءً على مقدرات مصر، معربين عن تخوفهم من بيع البلاد مقابل ثمن بخس من الريالات السعودية والدراهم الإماراتية، في محاولة بائسة من السيسي للخروج من الأزمة الاقتصادية التي أدخل فيها مصر.
من بين الثغرات التي تغافلها مشروع القانون أيضًا: عدم وجود حدّ أقصى للتملك في القانون، ما يعني إمكانية تملك مدن بأكملها، خاصة أن هذا المستثمر الأجنبي ربما يكون واجهة أو غطاء لكيانات أخرى، إسرائيلية مثلًا، وبالتالي كان لا بدَّ وفق خبراء من إعطاء حق الانتفاع فقط لتبقى الأرض في يد الدولة.
للبيع طرق أخرى
مع مرور مصر بأزمة اقتصادية صعبة، بالتزامن مع الانهيار الكبير للجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، تحاول السلطات المصرية البحث عن حلول سريعة لرفد خزينة الدولة بالأموال، وأحد هذه الحلول بيع الجنسية المصرية بالدولار مقابل شراء المنشآت أو الاستثمار في الشركات أو إيداع مبالغ مالية بالدولار، رغم أن الحصول عليها لم يكن يومًا إجراءً بسيطًا، فهي ليست حقًّا يُكتسب بعد مدة إقامة معينة، بل حقًّا سياديًّا تمنحه الدولة وسلطتها لمن تراه يستحقها.
المثير للانتباه أن الجنسية المصرية كانت تُمنح -وفق مشروع القانون الصادر أواخر عام 2019- مقابل مبلغ استثمار لا يقل عن نصف مليون دولار دفعة واحدة، لكن التعديل الجديد الذي جرى في مارس/ آذار الماضي، يمنحها مقابل 300 ألف دولار في حالة شراء عقار مملوك للدولة أو لغيرها من الشخصيات الاعتبارية العامة، مع إمكانية تقسيط المبلغ خلال عام.
يتواصل مسلسل التغوُّل الإماراتي في قطاعات أخرى من خلال السيطرة على أصول استراتيجية، كان آخرها الاستحواذ على 7 من أعرق وأهم فنادق مصر التاريخية.
ليس هذا وحسب، بل خفضت الحكومة شروط وسعر الجنسية المصرية، حيث يمكن لأي شخص في العالم الحصول على الجنسية مقابل إيداع مبلغ 500 ألف دولار في البنك المركزي المصري، بصفة وديعة يمكن استردادها بعد 3 أعوام بالجنيه المصري في حال لم يرغب في الاستثمار في مصر، وفي القانون السابق كانت الوديعة بقيمة 750 ألف دولار لمدة 5 سنوات أو دفع مليون دولار لمدة 3 سنوات.
ومع ذلك، لم تجد فكرة جباية الدولارات وجلب المزيد من البشر إقبالًا، لأسباب يرجعها مراقبون إلى غياب المناخ الاستثماري والسياسي والأمني، بالإضافة إلى تناقضها مع الشكوى الدائمة من مشكلة الزيادة السكانية ودعاوى زيادة أعداد اللاجئين، كما يحتل جواز السفر المصري المرتبة 88 عالميًّا من أصل 93 وفق مؤشر “إندكس”.
وضمن محاولات تقليل فجوة الدولار، تلت إصدار هذا القانون قوانين أخرى، ففي يوليو/ تموز 2023 وافق مجلس الوزراء على إجراء تعديل تشريعي على نص المادة الثانية من القانون رقم 230 لعام 1996، الخاص بتنظيم تملك غير المصريين للعقارات المبنية والأراضي الفضاء، للسماح لهم بتملك العقارات دون سقف شريطة دفع ثمنها بالعملة الأجنبية، بهدف زيادة موارد البلاد من العملة الصعبة، بعد أن اقتصر على تملك عقارَين فقط وفي مدينتَين مختلفتَين.
وفي سياسة جديدة يتبعها نظام السيسي في السنوات الأخيرة، تُباع أصول مصرية تشمل شركات وموانئ وفنادق مميزة لدول عربية وخليجية، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وخلال النصف الأول من عام 2022 أجرت مصر 65 صفقة بقيمة 3.2 مليارات دولار لصناديق الثروة السعودية والإماراتية، ما دفع البعض لاتهام الحكومة بالتفريط في أصول وعوائد شركات ناجحة، وفقًا لموقع “ميدل إيست آي“.
السبب الأبرز الذي دفع الحكومة لبيع أصول الدولة هو حاجة مصر إلى تسديد أقساط وفوائد ديونها المستحقة، والضغوط التي تتعرض لها الحكومة من مؤسسات اقتصادية دولية للتخلي عن سيطرتها على جانب كبير من النشاط الاقتصادي، ما دفعها إلى بدء جولة جديدة لطرح عدد كبير من الشركات والأصول للبيع ضمن ما يعرف بـ”وثيقة سياسة ملكية الدولة”، التي صادق عليها السيسي نهاية عام 2022، بدعوى توسعة دور القطاع الخاص في الناتج الإجمالي القومي.
تزامن الإعلان عن الوثيقة مع حكم المحكمة الدستورية العليا بدستورية قانون تحصين العقود الحكومية، رقم 32 لسنة 2014، بعد 9 سنوات من الطعن به، والذي يمنع طعن أي طرف خارج طرفَي التعاقد على عقود البيع والاستثمار التي تبرمها الدولة مع أي جهة أو مستثمر، بما فيها قرارات تخصيص العقارات والأراضي.
يعني ذلك عدم قبول الطعون المقامة من الأفراد في المحاكم ضد الدولة والمستثمرين، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية آنذاك “تحصينًا للعقود الفاسدة”، وهي القضية التي شغلت الرأي العام لسنوات طويلة، منذ بدء عصر الخصخصة وبيع الشركات في تسعينيات القرن الماضي.
في هذا السياق، أثار الكشف عن مفاوضات أجراها مسؤولون مصريون مع مسؤولين صينيين وآخرين من دول أوروبية لمبادلة ديونهم لدى مصر بأصول استراتيجية، بينها موانئ ومطارات، مخاوف خبراء اقتصاد مصريين، ودفع إلى التحذير من أن سياسة الحكومة في رهن وبيع الأصول السيادية، تؤهّل شروطها لاحتلال اقتصادي خطير في ظل غياب تفاصيلها عن الشعب.
وفي أواخر ديسمبر/ كانون الثاني 2022، أعلنت هيئة المجتمعات العمرانية عن قرار ببدء تملك الأراضي بالأمر المباشر بعيدًا عن المزايدات والمناقشات، شريطة سداد كامل قيمة الأرض بالدولار وتحويلها من خارج مصر، ووافق مجلس الوزراء على تخصيص قطع أراضٍ لصالح الشركات الأجنبية بنظام البيع بالدولار الأمريكي، دون أن يحدد أية تفاصيل عن تلك الشركات أو المساحات التفصيلية المشمولة بالموافقة.
وبعد 6 أشهر من بدء سريان القرار، وفي يوليو/ تموز 2023، أعلن وزير الإسكان، عاصم الجزار، أنه تم بيع عقارات بما قيمته 2 مليار دولار، ومع ذلك لم يكن ذلك كافيًا لتعويض أزمة النقص الحاد في العملة الصعبة التي تعاني منها مصر في الوقت الحالي، وما يتبعها من تداعيات اقتصادية سلبية دخلت مصر إثرها في اتفاق إصلاحات مع صندوق النقد الدولي، تضمّن قرضًا ماليًّا بقيمة 3 مليارات دولار، وسط حديث عن مساعٍ مصرية لمضاعفة القرض إلى 6 مليارات.
ومنذ بدء مواجهة البلاد شحًّا في النقد الأجنبي في مارس/ آذار 2022، تسعى الحكومة لتقليص هذه الفجوة من خلال إطلاق مبادرات تتضمّن تنازلات مثيرة للجدل، منها مبادرة تسوية الموقف التجنيدي للمصريين في الخارج لمن هم في سن التجنيد مقابل دفع 5 آلاف دولار أو يورو، وإصدار أول وثيقة معاش للعاملين بالخارج بحدٍّ أدنى للقسط 500 دولار، وتيسير إجراءات استيراد السيارات للمغتربين، وطرح شهادات دولارية بفوائد عالية، بالإضافة إلى تحصيل رسوم إقامة الأجانب بالدولار أو ما يعادله من العملات الأجنبية، ومنح المخالفين لنظام الإقامة مهلة 3 أشهر لتوثيق أوضاعهم مقابل دفع 1000 دولار.
دول الخليج: “نشتري كل شيء”
الاتجاه لبيع أصول الدولة تلقّفته الدول الخليجية الداعمة للنظام، إذ اتجهت إلى الاستحواذ على قطاعات حيوية ومواقع استراتيجية مثل مشاريع منطقة قناة السويس، بعد رفضها تقديم أي دعم للسيسي مثل الدعم الذي حصل عليه خلال السنوات الماضية.
في مايو/ أيار 2022، كشف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحفي، عزم الحكومة تأسيس شركة قابضة جديدة تضمّ أكبر 7 موانئ مصرية، ليتمَّ إدراجها في البورصة لاحقًا أمام شركات القطاع الخاص المصرية والأجنبية، في محاولة للسيطرة على أزمة الدين العام وخفض عجز الموازنة.
باتت أبوظبي ثاني أكبر حكومة تمتلك أراضي في محافظة القاهرة بنسبة تزيد عن 6%، فيما تمتلك الحكومة المصرية 16%.
خطوة الحكومة التي أثارت مخاوف على الأمن القومي المصري، تأتي بعد أشهر فقط من إعلان شركة موانئ أبوظبي نيتها الاستثمار في الموانئ المصرية في ديسمبر/ كانون الأول 2021، بمشروع تبلغ قيمته 500 مليون دولار، لتكون ثاني شركة إماراتية تقتحم السوق المصري بعد موانئ دبي.
وقبل أسبوعَين فقط، وتحديدًا في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2023، سقط ميناء مصري جديد في يد الإمارات، بعد توقيع عقد نهائي يمنح مجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية -التي التقى رئيسها محمد الشامسي مع السيسي في مارس/ آذار 2023- حق إدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء سفاجا، الذي يتميز بموقعه الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر، لمدة 30 عامًا من تاريخ تسليم هيئة موانئ البحر الأحمر لأرض المشروع الذي استثمرت فيه مصر مبلغ 3.6 مليارات دولار، قبل منح إدارته لمشغّل عالمي ذي خبرة دولية.
تحت تأثير الأزمة الاقتصادية، لم يكن هذا الميناء الأول الذي تسيطر الإمارات عليه، حيث سبق لها السيطرة على ميناء العين السخنة باستثمارات بلغت 1.2 مليار دولار، واستحوذت على 70% من شركتَي نقل بحري بـ 140 مليون دولار، وتفاوضت على إدارة ميناء بورتوفيق بالسويس، وذلك جزء من سعي الإمارات للسيطرة على موانئ المنطقة عبر شركتَيها الكبيرتَين دبي العالمية للموانئ ومجموعة أبوظبي اللتين تديران أكثر من 60 ميناء حول العالم.
وظهرت المطامع الخليجية في السيطرة على الموانئ المصرية منذ سنوات في منطقة قناة السويس بشكل خاص، مستغلة سعي السيسي لجذب المزيد من الاستثمارات عبر بيع أصول الدولة، حيث وضعت قطر أعينها على منطقة غرب بورسعيد التي تمثل المدخل الشمالي للقناة، ونفّذت عملية الاستحواذ بواسطة شركة مها كابيتال التابعة لجهاز قطر للاستثمار.
وفي أول دخول لها في قطاع الموانئ المصرية، جرى توقيع مذكرة التفاهم بين البلدَين من أجل تحديث وتوسعة محطة الحاويات، بعد أقل من أسبوع من زيارة السيسي للدوحة في سبتمبر/ أيلول 2022.
ونجحت دبي في بسط سيطرتها مبكرًا، مستغلة الأزمة الخليجية والحصار الذي كان مفروضًا على قطر منذ عام 2017، وبادرت بإنشاء رصيف سفن في العين السخنة عام 2018، ثم افتتحت رصيفًا ثانيًا في المنطقة نفسها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وحصلت على عقود لإدارة ميناء العين السخنة في العام نفسه.
لم تفوّت السعودية فرصة المشاركة في سباق السيطرة على المنطقة الاستراتيجية، وفي يونيو/ حزيران 2022 وقّعت مجموعة عجلان وإخوانه السعودية اتفاقية من أجل بناء محطة متعددة الأغراض في ميناء دمياط.
سلَّط موقع “أفريقيا إنتليجانس” الاستخباراتي الفرنسي الضوء على التنافس الخليجي بهذه المنطقة الاستراتيجية في مصر، وذكر أن قناة السويس تعتبَر هدفًا مربحًا للغاية بالنسبة إلى دول الخليج التي أصبحت تميل إلى الاستثمار داخل مصر، بدلًا من إيداع مليارات الدولار في خزائنها دون أي تأكيدات على إمكانية استردادها، في حين توفر لها صفقات الاستحواذ على الموانئ المصرية أرباحًا مضمونة.
ويتواصل مسلسل التغول الإماراتي في قطاعات أخرى من خلال السيطرة على أصول استراتيجية، كان آخرها الاستحواذ على 7 من أعرق وأهم فنادق مصر التاريخية، بعد الإعلان في 12 يناير/ كانون الثاني الجاري عن توقيع شركة أبوظبي القابضة (ADQ) اتفاقًا نهائيًّا، للاستحواذ على 40.5% من شركة آيكون المصرية التابعة لمجموعة طلعت مصطفى، والتي وقّعت قبل أيام قليلة اتفاقات نهائية مع الحكومة المصرية بقيمة 800 مليون دولار، بشأن الاستحواذ على 39% من الفنادق التي تمتلك تاريخًا طويلًا وموقعًا مميزًا في القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان.
وبحسب دراسة نشرتها مؤسسة “10 طوبة” للدراسات العمرانية، باتت أبوظبي ثاني أكبر حكومة تمتلك أراضي في محافظة القاهرة بنسبة تزيد عن 6%، فيما تمتلك الحكومة المصرية 16%، وتستحوذ 10 شركات عقارية على 90% من أرباح قطاع العقارات، وتمتلك 40 ألف فدان في القاهرة الكبرى، لتكشف خريطة ملَّاك العاصمة أن الإمارات تحصل على نصيب الأسد من خلال شركات أبرزها إعمار وتحالف الدار العقارية والقابضة (ADQ).
واتسعت عمليات الاستحواذ الإماراتي في مصر خلال السنوات الأخيرة في القطاع الصحي المصري الذي كان مطمعًا للاستثمارات الإماراتية، حيث استحوذت الشركة القابضة على شركة آمون المصرية الرائدة في تصنيع وتوزيع وتصدير الأدوية.
وتحت مظلة شركة أبراج كابيتال التي بدأت أول استثماراتها في مصر عام 2008، استحوذت الإمارات أيضًا على معامل البرج والمختبر ومستشفى الكاتب والقاهرة التخصصي، وعلامة كليوباترا المالكة لأكبر مجموعة مستشفيات خاصة في مصر، واشترت مستشفى النيل بدراوي عام 2015.
كذلك امتدت يد الإمارات التي تعاني من شحّ الموارد المائية إلى الأراضي الزراعية المصرية، ومع تزايد الضغوط على مصر لتوفير إمداداتها من الحبوب بسبب أزمة العملة الأجنبية، وارتفاع أسعار الحبوب بعد رفض روسيا تمديد اتفاق الحبوب، تمكّنت من تعزيز أمنها الغذائي عبر أراضي دول أخرى، وكانت مصر واحدة من الدول النامية التي ضخّت فيها الدولة الخليجية أموالًا لشراء أراضٍ زراعية رخيصة، فقد استحوذت شركات إماراتية على أراضٍ شاسعة لزراعتها تعادل مساحة مدن.
أبرز هذه الشركات كانت شركة الظاهرة الزراعية، المملوكة لحمدان بن زايد آل نهيان شقيق رئيس الإمارات محمد بن زايد، التي بدأت في الوصول إلى الأراضي المصرية منذ عام 2006، في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي باع الفدان بـ 50 جنيهًا للشركة، بينما بلغ متوسط سعره وقتها 11 ألف جنيه.
بفضل ذلك أصبحت شركة الظاهرة تستحوذ في مصر على 116 ألف فدان، موزّعة بين توشكى وشرق العوينات والصالحية والنوبارية، وتشير تقارير إلى أن إجمالي ما تستحوذ عليه يصل إلى 400 ألف فدان، كما تدير الشركة حوالي 35 مستودعًا في مختلف المواقع، بسعة تخزينية تبلغ حوالي 210 آلاف طنّ متري.
حاول المصريون استعادة الأرض عام 2011، عن طريق رفع دعوى قضائية ضد الشركة الإماراتية للحصول على حكم ببطلان العقد، بصفته إهدارًا للمال العام وبيعًا للأراضي بغير ثمنها الحقيقي، وأصدر مجلس الدولة وقتها قرارًا ببطلان العقد، لكن النيابة العامة لم تستكمل التحقيق في القضية، وأُغلق الملف دون حكم، وواصلت الإمارات سرقة قمح المصريين حتى اليوم.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى شركة جنان للاستثمار الإماراتية، التي بدأت شراء أراض زراعية في مصر منذ عام 2007، لتستحوذ على 35 ألف فدان شرق العوينات ونحو 119 ألف فدان بمحافظة المنيا جنوب مصر، بينما تتحدث مصادر لوكالة “رويترز” في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن محادثات للاستحواذ على المزيد من الأراضي الزراعية في مصر قد تشمل 500 ألف فدان على مراحل.
بهذا الشكل، صار قمح المصريين بيد الإمارات، ففي يوليو/ تموز 2023 وقّعت وزارة التموين المصرية اتفاقية مع صندوق أبوظبي للتنمية على قرض بقيمة 400 مليون دولار لتمويل مشتريات مصر من الحبوب، تشمل الشريحة الأولى قرضًا بقيمة 100 مليون دولار تموّل بموجبها شراء حبوب مصر من شركة الظاهرة.
المثير في الأمر أن الصندوق الإماراتي الحكومي اتفق في ضوء القرض مع شركة الظاهرة على إمداد مصر بالقمح المزروع في أراضيها، وهذا يعني أن الإمارات ستدفع الـ 100 مليون دولار لمصر مقابل أن تبيع للمصريين قمحهم، المشكلة الأكبر أن الاتفاق المصري الإماراتي تزامن مع ضغوط يواجهها نظام السيسي، الذي يحتاج سنويًّا إلى 9 ملايين طن من القمح لسدّ احتياجات منظومة الخبز المدعوم.
ووفقًا لأستاذ الاقتصاد الزراعي جمال صيام، فإن هذا النوع من الاستثمار لا عائد منه إطلاقًا، لأنه يستحوذ على المياه والأراضي بأقل سعر، ويصدَّر معظم إنتاجه، كما أن رأس مال تلك الشركات ليس في مصر، ومن ثم لا يوجد عائد على الاقتصاد القومي المصري، وهو ما يمكن اعتباره شكلًا جديدًا من أشكال الاستعمار الاقتصادي، قد يؤدي في النهاية إلى الهيمنة على القرار والأمن القومي المصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق