بؤس المواطن المنقلب عليه
الخيبة والإحباط هما الشعور الغالب على مواطن ذاق طعم الحرية والديمقراطية ثم فقدهما بفعل فاعل غير حر وغير ديمقراطي، بعدهما تحل حيرة ثقيلة في النفس ويسيطر شعور بالغربة لا بفعل الانقلاب على الحرية بل بفعل سهولة انقياد الناس لمن اعتدى على حرياتهم.
تتجمع هذه المشاعر وتتكثف، فيحل بعدها سؤال مضن لا جواب له حتى الآن: هل يستحق الذين تنازلوا بسهولة عن حرياتهم أن تواصل الكفاح من أجل حرياتهم وهم يسعدون بالتخلي عنها كأنها ليست مكسبًا عزيزًا؟
وتنفتح قائمة أسئلة أكبر عن دور المثقف وعن مسؤولياته تحت الديكتاتورية الانقلابية، وكلما زادت الأسئلة وغابت الأجوبة تكثفت الخيبة والإحباط وتنغلق الدائرة دون كل أفق إلا انتظار الخلاص بملك الموت أو بكارثة طبيعية غير متوقعة لتحدث أمرًا تنجر عنه أمور تولد أملًا، وأي أمل تأتي به الكوارث؟! أزعم الكتابة عن الحالة الشعورية لمواطن عربي انْقُلِب عليه، فهو يبكي حريته ولا يجد رفيق سلاح لاستعادتها.
وصف الحالة في تونس وما جاورها
أفق مغلق ويأس عميم، هذا هو عمق المشهد السياسي في تونس، (والتعميم على الحالة العربية ضروري) حتى لتبدو اللغة قاصرة دون ملاحقته في تفاصيله اليومية، ومن علامات اليأس أن الناس في سيرهم اليومي عادوا يقارنون بين ديكتاتورية قائمة وديكتاتورية انقضت، فيترحمون على زوج أمهم الأول (كما في المثل التونسي)، لقد كان الأول يضربهم ويسمح لهم بالبكاء، أما الزوج الثاني فيضربهم ويمنعهم من البكاء.
ينشغل الناس بالخبز اليومي، فقد ضن به عليهم، فإذا طالت عليهم طوابير الخبز والسكر يتنهدون، لكن حيرة أخرى تولدها تنهيداتهم، إنهم لا يبحثون في الأسباب الحقيقة لما هم فيه، بل الأغرب أن تسمع في طوابير الضنك اليومي من يقول لك بصوت جهير مرحبًا بالمعاناة ويدافع عمن سرق منه حريته وخبز يومه.
المثير للحيرة أن الديكتاتوريات العائدة استنسخت كل بشاعة التجارب السياسية التي سبقت الصحوة ولم تبدع أشكالًا جديدةً للقمع، وهذه لعمري قمة الاستهانة بشعوب يبدو أن الديكتاتوريات تفهمها أكثر من المثقفين والثوار المتحمسين للحرية
طوابير المعاش اليومي في تونس صارت حقل دراسة سوسيولوجية غني لمراقبة قوم يستلذون تعذيبهم فيستزيدون من التعذيب؟ لكن هذه المازوشية اليومية تجعل علم النفس قاصرًا عن التفسير.
لقد كانوا يصرخون بكل حرية حتى ضد تهاون الحكومات في مطاردة البعوض، والآن إذا فكر أحدهم في الكلام يلتفت على جنبيه ثم يمجد الانقلاب ليعود سالمًا، إنهم يشهدون على خطف البعض من الشارع ومن بيوتهم بسبب بقية جرأة على التعبير عن القهر الذين يعيشون، ألهذا الحد بدت الحرية غير مهمة لهذا الجمهور الواسع السعيد بعذاباته ويستزيد منها؟
لنقر بحقيقة بسيطة، كل تلك النظريات الرومانسية عن الشعوب الواعية المكافحة وعن دور المثقفين في توعيتها وقيادتها سقطت في الحضيض، إننا لا نتعرف على أنفسنا وسط هذه الحالة، وهذا أكبر نجاح للانقلابات، إعدام قدرة الناس على الفهم والعمل بما يفهمون، فلم تبق إلا الغرائز المتوحشة.
التونسي والعربي واحد في المعاناة
نقيس الخريطة الملعونة من المحيط إلى الخليج (وكم عذبتنا هذه الخريطة)، فلا نجد فرقًا بين تونسي ومصري أو ليبي وجزائري أو مغربي وسوري، فالجميع يعاني ديكتاتورية جاءت في الأعم الأغلب بانقلاب عسكري أو بتحايل عسكري بوجوه مدنية.
هذه الأيام ظهرت لنا موجة الربيع العربي أقل من ثورة، بل هي أقرب إلى صحوة قصيرة داخل نوم كابوسي طويل وبلا نهاية أو أفق، والمثير للاستغراب والحيرة أن الديكتاتوريات العائدة استنسخت كل بشاعة التجارب السياسية التي سبقت الصحوة ولم تبدع أشكالًا جديدةً للقمع، وهذه لعمري قمة الاستهانة بشعوب يبدو أن الديكتاتوريات تفهمها أكثر من المثقفين والثوار المتحمسين للحرية.
لقد بدا للناس أن المرمطة في بلد أوروبي أقل ألمًا من البقاء تحت الديكتاتورية أو خوض معركة مع مشبوهين
وكم تبين لنا الآن أنهم قلة عاجزة إلا من جمل كبيرة لم تتحول أبدًا إلى برنامج حريات قابل للصمود، تلك الجمل الكبيرة لم ترهب أي منقلب ولم يحسب لها حسابًا، فحول قائلها إلى مسخرة في طوابير العيش العسير، فيسمع كل صباح “الحرية ما توكل خبز”، فيصمت خوفًا أو قرفًا أو يأسًا أو إحباطًا.
هل صنعت الديكتاتوريات العربية شعوبًا كافرةً بالحرية أم وجدتها كافرةً بها فاحتقرتها فركبتها؟ أين نقطة البداية؟ لم تسعفنا الكتب الكثيرة التي مررنا بها بجواب، بل فعلت بنا فعل أدوات التعذيب عند الزبانية، إذ نعجز عن الفهم بقدر ما يتسع اطلاعنا، لقد وصلنا إلى الوقوف في الطوابير صامتين، هذه قمة البؤس التي يعيشها متعلم عربي (لم يعد لفظ المثقف يحمل أي معنى في الطوابير).
من يقف بجانبك في الخندق؟
في قوانين الحرب القديمة كان يجب قبل خوض المعركة الحصول على ثقة المحارب الذي يقف بجانبك لكي لا تؤخذ على غرة، وفي زمن الانقلابات يشك كل ما نوى الخروج ضدها في رفيق السلاح، لذلك يقدم احتمال الغدر به من خلفه على احتمال تحقيق فوز، فيحمي نفسه من رفيق مزعوم قبل أن يفكر في مواجهة عدو مشترك.
لذلك سمعنا في الأيام الأخيرة جملة تكررت في كل نقاش هل يستحق هؤلاء (وتشمل الهؤلاء الناس والمسيسين والمثقفين) أن نموت من أجلهم؟ هذه البهدلة بين السجون لا ثمن لها، وكان أبهى تعبير عنها هو ركوب الناس البحر لخلاص فردي عوض خوض معركة مغدورة قبل انطلاقها.
لقد بدا للناس أن المرمطة في بلد أوروبي أقل ألمًا من البقاء تحت الديكتاتورية أو خوض معركة مع مشبوهين.
الخلاص الفردي ينقذ من السجون والعذابات، لكنه لا ينقذ من الطوابير والطوابير في هذه الحالة تزداد طولًا والصمت يزداد كثافةً.
هل صنعت الديكتاتوريات العربية شعوبًا كافرةً بالحرية أم وجدتها كافرةً بها فاحتقرتها فركبتها؟ أين نقطة البداية؟ لم تسعفنا الكتب الكثيرة التي مررنا بها بجواب، بل فعلت بنا فعل أدوات التعذيب عند الزبانية
يفترض الآن أن نجد تلك الجمل المتفائلة التي تؤكد أن هذا الوضع مؤقت وسيزول، إن وعينا بالحالة المعيشة تحت انقلاب يلزمنا بعدم ترويج هذا الوهم، ربما نغبط أولئك الذين يثقون ثقة مطلقة في الغيب، لكن هل انتظار ملك الموت ليكمل المهمة يضمن ألا يولد ديكتاتور من آخر؟ لنصارح اللحظة التي نعيش، فشلت النخب العربية بكل أطيافها في صناعة حريتها والحفاظ عليها وسقطت في طوابير العيش مثلها مثل أي فرد لم يذهب إلى المدرسة وظل كائنًا غريزيًا يفرح بخبز قليل ولا يشم رائحة المذلة في إنائه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق