بيني وبينك …. وصايا الشُّهداء
د. أيمن العتوم
في وصاياهم عُذوبةٌ لا تُفسر، وحكايا تلمسُ حنايا الضّلوع بطريقةٍ شفيفة، ومنطقٌ قد لا يكون راقِيًا ولكنّه دانٍ، ولغةٌ قد لا تكون بليغةً ولكنّها صادقة، وقد لا تكون عاليةً ولكنّها قريبة، تشعرُ أنّهم يكتبونها بنورٍ خارجٍ من القلب، وإذا خرجَ القولُ من هناك فإنّه -بلا شكّ- سيدخل القلب.
يذكر ذلك القائد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل عام 1948م: “أتتْني الرّصاصات من الجهات الأربع، اخترقتْ واحدةٌ صدري، الثّانية حزّتْ عُنُقي، والثّالثة استقرّتْ في فخذي، والرّابعة في ذراعي، سقطتُ لا بسبب الرّصاصات، فقد كنتُ أراها ذبابًا يطنّ في أذني، ولكنْ بسبب النّزيف، خارتْ قُواي. يبدو أنّني أرحل سريعًا، سريعًا قبل أنْ يتمّ المشروع الّذي نذرتُ له حياتي”.
وذَكَرَ ذلكَ مشهور حديثة الجازي في معركة الكرامة 1968م فيقول: استُشهِدَ عددٌ من جنودي، دُفِنَ بعضُهم تحت الرّكام، لم يمهلني القصف أن أدفنهم ولا أنْ أقرأ الفاتحة على أرواحهم الطّاهرة، تفجّر الثّأر في أعماقي، وأقسمتُ أنّني لن أخرجَ من هنا إلاّ منتصرًا أو شهيدًا، وهتفتُ في سرّي وأنا أنتقل إلى موقعٍ آخَر: “هذا يومٌ مشهودٌ يا الله… اللهمّ انصر أهل الحقّ على أهل الباطل” ، وتابعتُ القِتال.
وانظر إلى وصيّة الشّهيد صلاح شحادة: “أوصيكم بتقوى الله والجهاد في سبيله وأن تجعلوا فلسطينَ أمانةً في أعناقكم وأعناق أبنائكم إلى أن يصدح الأذان في شواطئ يافا وحيفا وعسقلان” . إنّها وصيةُ مُوقنٍ بالتّحرير، وأنّه آتٍ لا محالة حتّى وإنْ لم يشهدْ ذلك في حياته.
وانظر إلى الخطاب الّذي تشعر أنّه يتغلغل إلى روحك كأنّ الخطاب مُوجّه لك بعينِه في وصيّة باسل الأعرج: “هذه تحيّة العروبة والوطن والتّحرير، أما بعد.. إنْ كنتَ تقرأ هذا فهذا يعني أنّني قدْ مِتُّ، وقد صَعَدتِ الرُّوحُ إلى خالقها، وأدعو الله أنْ أُلاقيَه بقلبٍ سليم مُقبِلٍ غيرِ مُدبِر، بإخلاصٍ بلا ذرّة رياء” .
إنّ الشّهداء وهم أحياء رأوْا ما لَم يرَ الأحياءُ وهم موتى، فكتبوا ما كُشِفَ لهم بنور الله من حُجُب، وتدفّقتْ معانيهم سَلِسةً كأنّها ماءٌ نَمير، يجتاح الجسد والرّوح فتروى به من عطشٍ مرير.
أسلوبٌ سهل، وقصدٌ مباشرٌ إلى الهدف والغاية، كأنّما أرادوا أنْ يُعوّضوا ما فات من وقتهم في كتابتها -بالغنيمة في الميدان- ما لم يفتْهم من الوقتِ في جَعْلها واقِعًا حيًّا.
إنّ وصايا الشّهداء إحدى تجلّيات المعنى القرآنيّ: “ولا تحسبنّ الّذين قُتِلوا في سبيلِ الله أمواتًا بل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزَقون”. فتجدُ فيها الحياة، وتجدُ فيها الحقيقة، وهي قادرة على أنْ تبعثَ الرّوح في الأجسادِ الميّتة، وتنهضَ بالعزائم الخائرة، وترفع من دمِ صاحِبها منارةً في الظّلام تكشفُ عن صراطٍ مستقيمٍ مَنْ مشى عليه بَلَغ.
AymanOtoom@
otoom72_poet@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق