الجمعة، 11 أبريل 2025

«فقه التداعي» في زمن الخذلان

 «فقه التداعي» في زمن الخذلان

طارق الشايع

إن «فقه التداعي» ليس بياناً يُتلى، ولا شعارًا يُعلَّق، بل هو وعي حيّ يسري في الأرواح الحيّة، ويهز القلوب المؤمنة، ويستنفر الهمم الصادقة.

نداء الأمة في زمن الوهن

في زمنٍ تموج فيه الأمة بين المحن، وتتكالب عليها الأطماع، ويشتد البلاء، يبقى الرهان الحقيقي للدفاع عن مقدساتها وحرماتها على أولئك الذين لم تُخذّلهم أعذار المتخاذلين، ولم تُخِفهم فتن المتربصين.

إنها دعوةٌ صادقة من قلب الأمة، وهتافٌ ملتهبٌ يعبر الآفاق، وصرخةٌ عالية تهزم السكوت، ونداءٌ مضمّخٌ بدماء شهداء غزة لا يُسمَع بالأذن، بل تُنصت له الأرواح المؤمنة.
ليست استجداءً ولا استرحامًا، وإنما تذكيرٌ بالعهد والميثاق.
فلا تنتظروا الطبول أن تُقرَع، ولا الرايات أن تُرفَع، بل انظروا في قلوبكم؛ فإن وجدتم فيها حرارةَ النُصرة، فاعلموا أنكم على الطريق.

إن هذه الأمة لا تطلب منكم المستحيل، بل تريدكم من القلة الذين فهموا الإشارة فقاموا، لا من الكثرة الذين سمعوا الصيحة فاستمروا نائمين.

فإن لم يكن في قاموسكم حركة ذاتية تخرجكم من دائرة الذل والهوان، فهيهات أن تكونوا في عداد المجاهدين، كما قال الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله.

بين القابضين على الجمر وفقه التداعي

فإلى الأحرار نقول: إن تماسك النفوس في زمن التكالب والوهن من أندر ما يُرى في هذه الأيام، ويأخذك العجب –بل يكاد قلب الحليم أن ينفطر– حين تسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أهل هذا الزمان بقوله: «بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا» (صحيح مسلم).

في مثل هذا الزمان، إذ يصبح الثبات على الحق عملة نادرة، وصاحب القيم غريبًا بين الناس، يحمل في صدره نفسًا تواقة لا تعرف الخمول، تبحث دومًا عما يثبت الفؤاد وينير الطريق، وليس أدق من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء إذ قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ» (صحيح الترمذي).

لكن النفس –بطبيعتها– لا تنفك تصارع بين الآراء الملتبسة، والأهواء المتزاحمة، حتى تُذهل عن تأمل، وتُبعد عن تبصر، ويصيبها الفتور في مقتل.

غير أنَّ في لحظاتٍ فارقة، يتوقد الفكر، وتضطرم المشاعر، وتستيقظ النفس من غفلتها، فيستجمع الحليم ما تبعثر منه، ويلملم شتات قلبه، ويدرك أن الصمت خيانة، وأن الوقت وقت قيام لا وقت انتظار؛ فتقول له: إننا أمة واحدة، ويد واحدة، وفي الحديث: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» (صحيح البخاري، ومسلم).

فأيّ صورة لهذا التداعي نتخيل، إن لم تكن صورة رجال تداعوا إلى جزء من جسد الأمة ينزف دماً؟!

وكأني أنظر إلى تساؤلهم، وتراكضهم، وذهولهم، ولا تزال هذه حالهم في زحمة التداعي حتى تتفجر في نفوسهم المعاني، فيكون السهر والإرهاق سمتَ نفوس الرجال العاملين، في نقاشات واجتماعات، وكدّ وتعب، وإصلاح وتعديل، ويضربون مثالًا حيًا عمليًا في تحقيق معادلة «فقه التداعي» على أرض الواقع، بعد أن وعتها عقولهم، وامتلأت بها قلوبهم في لحظات التداعي الأولى.
وأي عظمة حين تتسامى النفوس، وتتداعى فيها المعاني كما تتداعى ألفاظ الحديث الصحيح بالسَّهَرِ والْحُمَّى، فتصبح سمتهم. 
وأُراني أسمو بسعيي ووعيي **عن جزاء من معدن الأرض بخس
حسب نفسي من الجزاء شعوري** أننـي فـي الإلـه أبـذل نفسـي


نعم، ذلك حسبهم من العظمة، ويكفي هذه النفوس أن يكون جزاؤها هو بذل جهدها ووقتها لأجل الإله، وغايتها أن يُقبل هذا التداعي.

وتأسرك لغة التداعي في الحديث؛ فتشعر أن كل عضو قد نسي نفسه، وتحامل عليها، وأجهدها، وقدم المؤازرة والنصرة للعضو المشتكي، حتى تلفت.

رصّ الصفوف.. من تسوية الأقدام إلى توحيد القلوب

ومعاني رص الصفوف في الصلاة واستوائها متممة لاكتمال فهم معادلة «فقه التداعي»؛ وهي معانٍ تحتاجها الأمة اليوم أشد ما تكون الحاجة، فهي انضباطٌ ونظام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَوُّوا صُفوفَكم؛ فإنَّ تسويةَ الصَّفِّ مِن تمامِ الصَّلاةِ» (صحيح البخاري ومسلم).
وهي مبادرة ومبادأة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى وملائكتَهُ يُصلُّونَ على الذينَ يَصِلُونَ الصفوفَ، ومنْ سدَّ فرجةً رفعهُ اللهُ بها درجةً» (صحيح ابن ماجه، وأحمد)، فطوبى لمن لم يقف عند فرجة الصف فحسب، بل تطلع إلى فرجات الأمة وثغورها، فسعى لنصرتها برأيه وفكره، وثبّت صفوفها بماله ونفسه.
فهذه الصفوف التي نُدبنا لتسويتها، ليست طقوسًا تُقام، وإنما رسائل تربوية تُفهم، ومعانٍ إيمانية تُترجم؛ فهي مرآةٌ لوحدة القلوب، وانضباط العقول، واستقامة الطريق، وإن رصّ الصف في المحراب ما هو إلا تمهيدٌ لرصّ الصف في الميدان، وإن سدّ الفرجة في الصلاة ما هو إلا تدريبٌ على سدّ ثغرات الأمة حين تُكشَف، فطوبى لمن فَقِه الإشارة، واستعدّ للمسير، وسعى لأن يكون في صفٍ لا تتخلله الفُرَج، ولا تتنافر فيه القلوب.

حين يكاد الجدار أن ينقض

ومن قواعد معادلة «فقه التداعي» «انصر أخاك»: إذا طارت الأخبار عن جزء من الأمة قد تكالبت عليه الأمم، وتصدعت أطراف الجدار، وكاد أن ينقض، فإن الواجب أن تمتد الأيادي وتتكاتف لإقامته وحمايته من السقوط، كجدار سيدنا موسى عليه السلام والخضر، ولكنها المنهجية الخضرية في بناء الجدار إذا كاد أن ينقض، فليس التداعي شعارات ترفرف؛ بل أن تنتفض الأمة لإقامة الجدران وترميمها، نصرة للمظلوم ونجدته، وأي رفعة لرجال الأمة عندما يكونوا رواد إحياء سُنة إقامة الجدران من أن تتهاوى.

قال طرفة بن العبد:

إذا القوم قالوا: من فتى خلت   

                         أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

فلم تنادهم الأمة صراحة، ولكنها قلوب الرجال تعي

 وتفقه..

يكفي اللبيب إشارة مكتومة   وسواه يُدعى بالنداء العالي

ومن المنهجية الخضرية كذلك: ألا تأخذ عليه أجرًا، فإن أجرك على الله، وذلك منهج الأنبياء: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 145).

نجدةٌ لا تستأذن.. ونخوة لا تطلب برهاناً

ومن تمام فهم معادلة «فقه التداعي» في زمن الهوان، أن تدرك أن النجدة لا تنتظر إذنًا من أحد، ولا تتأخر بحجج التثبت الزائد، بل تصدر عن يقين القلوب وعفوية النصرة. فإن لم تخرج الاستغاثة صريحة بلسان الحال أو المقال، فإن القلوب الحية تلتقط النداء ولو لم يُنطق، وتدرك الواجب ولو لم يُذكَر.

وهنا تبرز أخلاق الرجولة الحقة، التي لا تتوانى حين يُستغاث بها، ولا تطلب برهانًا ولا حجة، بل تنطلق للنجدة بثقة ويقين،

كما قال الشاعر الجاهلي قريط بن أنيف:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم    

                   في النائبات على ما قال برهانا

وهذا هو الفقه الذي ينبغي أن يسكن القلوب: ألا يُتردد في نجدة المسلمين، فإن فقه التداعي لا يعرف التباطؤ، ولا يُبنى على الشك، بل على اليقين والإيمان بوحدة المصير، تلك فطرةُ الأمة إذا هاجت غيرتها على حرماتها، وثارت نخوتها لسفك دمائها؛ لبَّت النداء، ونصرت المظلوم، لا تسأله بيِّنةً، ولا تطالبه بحُجَّة.

تداعى لها الرجال

إن «فقه التداعي» ليس بياناً يُتلى، ولا شعارًا يُعلَّق، وإنما هو وعي حيّ يسري في الأرواح الحيّة، ويهز القلوب المؤمنة، ويستنفر الهمم الصادقة، هو استجابة فطرية تنبع من الإيمان، لا تُقيّدها حسابات، ولا تُعطّلها انتظارات، ولا تتوقف عند أبواب الإذن والاستئذانات.
تداعى لها الرجال حين عز النصير، وضاقت السبل، وتوالت النكبات، تداعوا لأنهم ما عوّلوا على كثرة، ولا انتظروا إشادة، بل لأن قلوبهم أبت أن تسكن، وأرواحهم أبت أن تصمت، وضمائرهم أبت أن تخون.

هم القابضون على الجمر حين تفلتت الأيادي، وهم الساهرون في ليل الأمة البهيم، يعدّون أنفاسها، ويكتمون وجعها، حتى يأذن الله بفتحٍ أو نصرٍ من عنده.

فيا من تحملون في أرواحكم حرارة النصرة، لا تركنوا إلى السكون، ولا تستوحشوا الطريق، فإن السائرين إلى الله لا يُبالون بقلة، ولا يثنيهم خذلان الكثرة.
طوبى لمن تداعى حين سكتت الجموع، وقام حين قعد القادرون، وثبّت الصفّ حين تخلّى المتخلّفون.
وطوبى لمن تداعى فقام ولم يلتفت، ومضى ولم يتردد، وعمل ولم ينتظر التوجيه.
طوبى لمن كان من أولئك الذين إذا نودي للجهاد لم يتلعثم، وإذا رأى الفُرجة في الصف لم يتأخر، وإذا نادى الحق لبّى بلا شرط ولا قيد، فهؤلاء هم عُدّة الأمة وعتادها، وسدنة مجدها وكرامتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق