الأربعاء، 9 أبريل 2025

لا تفتحوا المعبر

 لا تفتحوا المعبر


وائل قنديل


طغت السياحة على السياسة حين جاء ماكرون إلى القاهرة، غير أن كل هذه المبالغة في المظاهر السياحية لا تكفي لإخفاء (أو تجميل) واقع سياسي يقول إن الزائر واحدٌ من أخلص خلصاء الصهيونية، وإن شيئاً ما جرى طبخه على مواقد السياسة العالمية يتعلق بالمستقبل الفلسطيني. ... 

اتصال الرئيس الفرنسي من القاهرة بنظيره الأميركي، عقب اجتماع ثلاثي فرنسي مصري أردني بشأن غزّة، ينبئ بأن ماكرون كان في مهمّة محدّدة في القاهرة، بعلم (ومتابعة) دونالد ترامب، الذي بدا بعد المكالمة أكثر ثقًة وإصراراً على خطته في غزّة، وذلك من واقع تصريحاته رفقة رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو: "لا أعلم لماذا سلّمت إسرائيل لهم هذه الأرض (غزّة)، فعلوا ذلك لأنهم وُعِدوا بالسلام. إنها أخطر أرض في العالم"، ثم يوضح "أعتقد أن قطاع غزّة قطعة عقارية مذهلة، إذا أخذنا الفلسطينيين ونقلناهم إلى دول أخرى، فسيكون لدينا "منطقة حرّة" رائعة. إنه موقع ممتاز، والناس يرغبون بالعيش فيه، وجود قوة سلام مثل الولايات المتحدة هناك تسيطر على غزّة وتمتلكها سيكون أمراً جيّداً". 

"قطاع غزة أشبه بمصيدة للموت، وهو مكان خطر للغاية، ويحتاج سنواتٍ لإعادة إعماره. لذا سنسمّي غزّة منطقة الحرية بعد نقل السكان منها".

يؤكّد ترامب أن هناك دولاً مستعدّة لاستقبال سكان غزّة، فيردّ نتنياهو "كل ما نسعى إليه هو تمكين سكّان غزّة من أن يكون لديهم خيار الخروج إلى بلدان أخرى"، بينما النقطة المحورية في زيارة ماكرون  القاهرة بالتزامن مع استقبال نتنياهو في واشنطن حدّدها الرئيس الفرنسي بالقول إن فرنسا ومصر والأردن تتمسّك بتولّي السلطة الفلسطينية الأمن في غزّة. 

ومعلوم أن الترجمة العملية لهذه الجملة لا تخرُج عما تجده في قاموس "ترامب- نتنياهو"، وهو القضاء على المقاومة في غزّة من جذورها، واستئصال حركة حماس من الوجود، وإفراغ القطاع من سكّانه الذين يزعم رئيس حكومة العدو إنهم محاصرون من أشقائهم، وليس من إسرائيل. وبالتالي، لو وضعت ما جاء به ماكرون إلى جوار ما صدر عن البيت الأبيض، وأمام دخول عمليات جيش الاحتلال الصهيوني في غزّة مراحل لم يكن يتخيّلها أحد في رتم المجازر ومحارق الإبادة ومطاردة من بقي من سكان القطاع أحياء إلى أقصى جنوب رفح عند الحدود المصرية، ستكون أمام صورة تنطق بأن مشروع إجبار الفلسطينيين على مغادرة القطاع الذي يحلم به ترامب قد دخلت حيز التنفيذ.

هذا الواقع الذي يتحرّك أمام الجميع لا يصلح للتصدي له تظاهرات شديدة الفبركة والمبالغة في الابتذال أخرجتها أجهزة السلطة من محافظات مصر للهتاف والرقص في العريش ورفح ضد تهجير سكان غزّة إلي مصر والأردن، ذلك أن الهدف النهائي لواشنطن وتل أبيب إخراجهم من غزّة إلى وجهات أخرى، ليست مصر والأردن منها بالضرورة، لكن المؤكّد أن الخروج لن يكون إلا عبر المعبر البرّي الوحيد إلى العالم خارج غزّة، الذي تهتف التظاهرات المسيرة بفتحه الآن، وهو شعارٌ إنسانيٌّ جميلٌ وبرّاق، لكنه في هذه الظروف يكتسب أبعاداً خطيرة.

هنا يأتيك السؤال: وماذا يمكن لمصر أن تفعل أكثر من ذلك؟ هل تريدون منها أن تحارب أميركا وإسرائيل؟ 

بالطبع، لا يريد أحد من مصر أن تحارب، كما لم يطالبها أحد بفتح باب الجهاد حتى يخرج مفتي الجمهورية ملتاعاً مرعوباً ببيان أجوف، يعارض فيه فكرة التطوّع نصرة لشعبٍ شقيقٍ يتعرّض للتقتيل والحرق والاقتلاع من وطنه. 

كل المطلوب من مصر في هذه اللحظة ألا تكون مجرّد بوابة للجحيم المستعر في غزّة، أو أن تكون طريقاً يستخدمه الأميركي والصهيوني لتهجير الأشقّاء قسراً، أو حتى طوعاً. 

والحال كذلك، مطلب فتح معبر رفح كما نفهمه أن يكون مفتوحاً إلى غزّة وليس منها، أن يكون منفذاً للوصول إلى الأشقاء المحاصرين بما يجعل حياتهم في وطنهم ممكنة، بإدخال قوافل العلاج والمستشفيات المتنقلة والمياه والغذاء، كما نصّت على ذلك مقرّرات قمم عربية طارئة انعقدت وانفضت، وقرارات هيئات أممية.

كان من الممكن أن نصدّق أن ثمة موقفًا رسميًا ضد تهجير الشعب الفلسطيني بالمطلق، سواء قسرًا أو اختيارًا، إلي مصر وإلى غيرها، لو أن أهل السلطة في مصر فعلوا أشياء بسيطة للغاية هي في متناولهم، أولها التوقف عن الاتجار والتكسب من استيراد وبيع الغاز الطبيعي الممنوح لهم من الكيان الصهيوني، إذ لا يتصور عقلًا أن تكون متعاطفًا مع الشقيق ومنتفعًا من العدو في الوقت ذاته. 

من هذه الأشياء كذلك ترك الجماهير الحقيقية تتظاهر في شوارع القاهرة وميادينها انتصاراً لفلسطين من دون أن يلاحق المشاركون فيها كالمجرمين ويعتقلون بالعشرات، شباباً وأطفالاً (المبادرة المصرية وثقت حبس 137 مصرياً بينهم طفلة بتهمة الغضب من أجل غزّة". 

كان بإمكان مصر، ولا يزال، أن تنفض يدها من الشراكة الاستراتيجية مع الدولة الوحيدة في أوروبا التي تحدّت القرارات الدولية الخاصة بوضع مجرم الحرب نتنياهو على قوائم المطلوبين للاعتقال، وهي المجر التي ألغت عضويتها في المحكمة الجنائية الدولية من أجل عيون قاتل أطفالنا وأشقائنا في غزّة.. المجر التي يعتبرها عبد الفتاح السيسي، كما قال في تصريحات عديدة للصحف المصرية "صوت مصر الحقيقى داخل الاتحاد الأوروبى وعلاقاتنا بها نموذج يحتذى به"، بالنظر إلى أن حكومة المجر قرّرت اختيار مصر شريكاً استراتيجيّاً في "تحالف فيشغراد" الذي يضمّها وبولندا والتشيك وسلوفاكيا.

كان من الممكن كذلك أن مهمّة ماكرون في القاهرة، التي شهدت تطوير العلاقة إلى شراكة استراتيجية، كانت لمصلحة مصر وفلسطين، لولا أن الزائر يعدّ مدافعاً عن الصهيونية أكثر من ترامب وسلفه بايدن، إذ كان الأسبق من الجميع عام 2019 في اتخاذ إجراءات لحماية الصهيونية في فرنسا والعالم، حيث تعهّد بإصدار قانونٍ يعتبر معاداة الصهيونية جريمة مثل معاداة السامية.

قلناها منذ بداية العدوان: نصرة غزّة تكون بالذهاب إليها وكسر الحصار على شعبها، وليس انتظارها لتخرج جريحة ومهجّرة من المعبر إلى المجهول الذي أعدّه لها ترامب ونتنياهو، وغير ذلك ليس سوى باطل وقبض ريح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق