نشأة المثقفين العرب
أ.د. حلمي القاعود
ظهرت أهمية المثقفين في القرون الماضية، وخاصة في أوروبا، ونهض الفلاسفة والمفكرون والأدباء وأهل التعليم ورجال الكنيسة وفرق الفنون وغيرها من الطبقات المتأثرة بمفاهيم الفلسفة وحركة الفكر من قادة عسكريين وتجار وصناع وزرّاع، وقاموا بدور كبير ومهم في توجيه المعتقدات والأفكار السائدة إلى دائرة الجدل والنقاش والحوار، فوُلِدت نظريات وقيم وأفكار جديدة تصب في المصلحة العامة للدول الغربية، وتخدم نشاط الاستعمار ونهب الشعوب الضعيفة، وإخضاع المستعمرات للثقافة الغربية في جانبها الهامشي والسطحي.
ولا ريب أن معظم المثقفين العرب كانوا نتاجاً لهذا الجانب من الثقافة الغربية، وهو ما أهّلهم ليقوموا بدور معاكس للدور الذي يقوم به المثقفون الغربيون.
وتجلى هذا الدور المعاكس عقب نكبة عام 1948م، فقد تغير كثير من الأنظمة العربية الحاكمة، وتحولت حركة المجتمعات العربية من التطوّر الهادئ الذي يقوم على جزء من التسامح والشورى والتفاهم الضمني، إلى تغيرات خشنة عصفت بالحريات العامة، واعتمدت على «البروباجندا» والدعاية في وسائل التعبير من إذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح ومؤتمرات جماهيرية يخطب فيها الحكام الجدد.
جهات العنف العربية أدركت أن الإسلاميين هم عماد
الثقافة الإسلامية فعملوا على التخلص منهم
مطاردة الحركة الإسلامية
إن جهات العنف العربية، والاحتلال في فلسطين، وبعض الدول الغربية، حين أدركت أن الحركة الإسلامية وهي عماد الثقافة الإسلامية، يمكن أن تهدد وجودها وتطردها من مواقع السيطرة والهيمنة في فلسطين بعد نكبة عام 1948م، أعملت فكرها الشيطاني في التخلص من المثقفين الفاعلين في الحركة الإسلامية، وما يمكن أن نسميه عناصر المقاومة الكامنة، فعملت على إقامة أنظمة مختلفة تملك خشونة التعامل واستخدام العنف الذي لا يعرف الرحمة مع كل عنصر يمكن أن يسبب لها متاعب في الميدان أو المجتمع.كانت الأنظمة الملكية أو شبه الديمقراطية في الدول المحيطة بفلسطين المحتلة تتميز بشيء من الليونة مع الحركات السياسية داخل مجتمعاتها، وتسمح للأحزاب بشيء من الحركة والتعبير عن الرأي، ونشط المثقفون الجادون في مصر ولبنان وسورية والعراق والسودان واليمن وبعض دول الخليج، من أواخر القرن التاسع عشر، بأداء دور مهم في المعرفة والثقافة والسياسة والبناء الاقتصادي والتجاري.
وتوهجت نماذج رائعة من أعلام الفكر والأدب والتاريخ والطب والكيمياء والفيزياء والهندسة والترجمة، فضلاً عن علماء الدين يقودون المجتمع إلى تحقيق مطالبه، واستنكار مظالمه ومتاعبه، وارتفعت أصوات المثقفين في دول الحرية النسبية تتناول الاحتلال النازي اليهودي لفلسطين والاحتلال الغربي لبعض الدول العربية مثل الجزائر وتونس ومراكش والعراق، وتتنادى بالتحرير والاستقلال وطرد الغزاة!
الأمر لم يكن مريحاً للغزاة النازيين اليهود؛ فكان التخطيط لنسف الأنظمة القائمة؛ ملكية أو شبه ديمقراطية، نسفاً كاملاً، لتحل أنظمة عسكرية كاملة تستخدم العصا الغليظة ضد شعوبها، وليس ضد العدو النازي اليهودي في فلسطين.
الشيوعيون سيطروا على الصحافة والتعليم والثقافة
والفنون المختلفة بموافقة الأنظمة العسكرية
ظل البكباشي جمال عبدالناصر يزحف حتى تولى السلطة كاملة، وصارت كلمته هي العليا، وفَتن الناس بشعارات الوحدة العربية والقومية العربية ثم الاشتراكية والخبز والحرية، وتأميم الشركات الكبرى والمصانع، وتثبيت الإيجارات بين الفلاح وصاحب الأرض، ومستأجر العقارات ومالكها، فضلاً عن رفع راية فلسطين التي لم يبذل من أجلها شيئاً ولم تكن في حسبانه، كما يشير زميله خالد محيي الدين في مذكراته «الآن أتكلم»، ولم يعد للإسلام أو الثقافة الإسلامية حضور لا في السياسة ولا التشريع ولا المجتمع، ولا التعليم.
يلاحظ أنه عقب انتهاء الحرب في عام 1948م، وعودة المتطوعين ثم استتباب الأمر للانقلابات العسكرية، بدأت محاكمات من شاركوا في المعارك من غير العسكريين، وبذلوا بطولات عظيمة، وتم الحكم عليهم بأحكام قاسية وصلت إلى حد الإعدام، وكان الإخوان المسلمون ضحايا هذه الأحكام السياسية بحكم أنهم كانوا القوة الثقافية المؤثرة في المجتمع المسلم! وطرح السؤال: لحساب من تصفية هذه القوة الجبارة التي أذهلت اليهود القتلة؟!
انتعاش الأحزاب الشيوعية
وقد شكلت الأفكار التي رفعها الشيوعيون جاذبية للشباب المصري الساخط على الفساد والظلم والاستعمار الإنجليزي الذي يحتل البلاد وخاصة قناة السويس، دون أن يدركوا طبيعة تكوين هذا الحزب أو غاياته الهادفة إلى استئصال الإسلام وتهويد فلسطين، وما حدث في مصر حدث في السودان والعراق وفلسطين نفسها.لم يدرك الشباب المصري أو العربي أن مؤسس الأحزاب الشيوعية يهودي خائن طرده فؤاد سراج الدين من مصر عندما كان وزيراً للداخلية عام 1950م، وأن قيادات الأحزاب الشيوعية وخاصة في مصر من اليهود.
مكاسب الشيوعيين الحقيقية تمثلت في قيادة المنظمات
السرية والعلنية من خلال الحزب الواحد
ويلاحظ أن الشيوعيين مع أن بعضهم تعرض للاعتقالات والمحاكم العسكرية وقضى بعض الوقت في السجون الناصرية والسورية والسودانية والعراقية، فقد غادروها ليعقدوا صفقة مع الأنظمة ويتولوا المؤسسات الحساسة التي تختص بتشكيل العقل والفكر واستئصال الإسلام، وتحقير التراث.ومن هنا جاءت سيطرتهم بموافقة الأنظمة العسكرية على مؤسسات الصحافة والتعليم، والثقافة، والإعلام، والفنون المختلفة مثل المسرح والسينما والتشكيلات التطبيقية، والسيطرة على هذه المؤسسات تعني حجب كل رأي آخر، وفكر آخر إلا ما صادف الهوى الشيوعي!
بيد أن مكاسب الشيوعيين الحقيقية تمثلت في قيادة المنظمات السرية والعلنية التي أنشأها عبدالناصر والبعثيون من خلال الحزب الواحد، فقد تزعموا الحزب الواحد في مصر وهو الاتحاد الاشتراكي، ومن خلاله ما يسمى بـ«التنظيم الطليعي»، ثم كانوا أعضاء في الخلايا السرية التي ترفع تقاريرها للقيادات العليا مباشرة.
صارت النواة الشيوعية أساساً لمن جاؤوا بعد ذلك من الشيوعيين، وأصبحوا هم المثقفين الذين يستفتون في أمور الأوطان والمجتمعات، ويرددون ما تريده الأنظمة من آراء وأفكار ويدعمونها بالأدلة المزيفة والبراهين المضللة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق