دُرُوسُ الْإِيمَانِ فِي ظُلْمَةِ الْغَارِ!
بقلم: د. محمود القاعود
في خضم الحياة وتقلّباتها.. تأتي القصص النبوية كنورٍ يهدي القلوب.. وكنزٍ يُعلّمنا كيف نعيش بإيمانٍ صادقٍ وتوكلٍ خالص.. ومِن بين هذه القصص العظيمة.. قصة الثلاثة الذين أُغلقت عليهم الصخرة في الغار.. تلك القصة التي رواها سيد الكائنات ﷺ لتكون عبرةً للأمة إلى يوم الدين.. إنها قصة تُظهر عظمة التوجّه إلى الله عزَّ وجل بالأعمال الصالحة.. وتُبرز كيف يكون الإيمان الحقيقي مفتاحًا للنجاة في أحلك الظروف.
روى الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ سيد الكائنات ﷺ قال:
«بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِأَبَوَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَكَانَ يَوْمًا شَدِيدًا فَتَأَخَّرْتُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ حَوْلِي فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ يَا رَبِّ إِنِّي إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ. فَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا أَشَدَّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ مِنْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى أَعْطَيْتُهَا مِائَةَ دِينَارٍ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْضَخِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ يَا رَبِّ إِنِّي إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا آخَرَ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْخُرُوجَ. فَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغَبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَخُذْهَا، فَأَخَذَهَا وَذَهَبَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ يَا رَبِّ إِنِّي إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ».
هذه القصة ليست مجرد حكاية عابرة.. بل هي مدرسة إيمانية تحمل في طياتها دروسًا عظيمة.. تخيّل حال هؤلاء الثلاثة.. ظلام الغار يُحيطُ بهم والصخرة العظيمة تسدّ منفذ النجاة.. ولا أمل يلوح في الأفق سوى رحمة الله.. لم يلجأوا إلى البكاء أو اليأس.. بل رفعوا أكفّهم إلى الله عزَّ وجل.. متوسلين إليه سبحانه وتعالى بأعمالٍ صالحة فعلوها خالصة لوجهه الكريم.
الأول: رجلٌ آثر والديه على نفسه وأبنائه.. فكان برّه بهما سببًا في تفرج الله عنه.. إنه درسٌ في البر بالوالدين.. تلك العبادة التي جعلها الله مِن أعظم القربات.. فكيف إذا اجتمعت مع الإخلاص؟
الثاني: رجلٌ تغلّب على هواه.. وامتنع عن الحرام رغم قدرته عليه.. خوفًا مِن الله وابتغاء مرضاته.. إنها دعوة لضبط النفس وتقوية الوازع الإيماني الذي يحمينا مِن الزلل.
الثالث: رجلٌ حفظ الأمانة.. وأدّى الحقوق كاملة.. بل زاد عليها مِن كرمه وعدله.. فهو مثال للصدق والإحسان في المعاملات.. وهي مِن أعظم ما يقرّب العبد إلى ربه.
وفي القصة التي رواها سيد الكائنات ﷺ عبرٌ مستفادة:
- الإخلاص مفتاح الفرج: كل واحد مِن الثلاثة توسّل بعمل صالح فعله خالصًا لله.. مما يعلمنا أنَّ الأعمال الصالحة إذا خلصت من الرياء كانت ذخيرة لنا في الشدائد.
- التوكل على الله: لم يكن أمامهم سوى الله.. فلم يترددوا في اللجوء إليه، مؤمنين بأنَّ من أغلق الباب قادر على فتحه.
- تنوع الأعمال الصالحة: البر بالوالدين.. العفة.. والأمانة.. ثلاثة أعمال مختلفة.. تُظهر أنَّ كل عمل صالح مهما صغر.. قد يكون سببًا للنجاة.
- الأمل في الله: حتى في أحلك اللحظات.. علينا أن نحسن الظن بالله.. فإنه لا يردّ من دعاه بقلب صادق.
إنَّ هذه القصة النبوية تُذكّرنا بأننا في أيدي الله.. وأنَّ أعمالنا الصالحة هي سفن نجاتنا في بحر الحياة.. فلنجعل مِن هذه القصة مصباحا يُضيء حياتنا.. ولنحرص على أن نملأ صحائفنا بأعمال خالصة لوجه الله الكريم.. فلا ندري متى نكون في غارٍ مظلم.. ولا نجد سوى رحمة الله لتنقذنا!
اللهم ربنا اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.. واجعلها سببًا لتفريج كرباتنا وتيسير أمورنا.. إنك سميع الدعاء.
في 10 إبريل 2025م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق