السبت، 12 أبريل 2025

معركة تحرير القدس

 معركة تحرير القدس


د. تيسير التميمي 

 قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

في يوم الثلاثاء 15 رجب من عام 492هـ الموافق 7-6-1099م وصل الصليبيون أسوار القدس بعد أن أرهقهم المسلمون على طول الطريق التي عبروها للوصول إلى القدس، 
فقد كان عدد الذين حاصروها 1500 فارس من أصل 7000 انطلقوا من أوربا، وعدد المشاة 12000 من أصل 20 ألفاً، سقطت القدس في أيدي الغزاة ففر أهلها إلى المسجد الأقصى،
فلاحقهم الجنود الهمج فقضوا عليهم بساحاته في مذبحة وحشية أسقطت سبعين ألف شهيد من المدنيين. انتشر الصليبيون فيها يسلبون الذهب والمال والخيول وينهبون البيوت،
تراكمت في الساحات عشرات آلاف الجثث التي بدأت تتحلل بسبب حرارة الجو فحرقها الصليبيون في جريمة نكراء جديدة تترجم حقد قلوبهم على الإسلام وأهله،

     ظلت القدس في أيدي الصليبيين عقوداً طويلة، وتعاقبت أجيال عديدة على محاولة تحريرها، وكان الشهيد عماد الدين زنكي مؤسس الدولة الزنكية ممن نذروا أنفسهم لهذه الغاية،

فقد ظهر في وقت كانت فيه الشام ممزقة يقودها أمراء متنازعون كثيراً ما تحالفوا مع الصليبيين ضد بعضهم لتحقيق مصالحهم السياسية بعيداً عن مصالح شعوبهم،

أما مصر فكانت تحت الحكم الفاطمي الذي استنصر بعض وزرائه المتناحرين هم الآخرين بالصليبيين ضد بعضهم لحفظ عروشهم وبعيداً عن مصالح شعوبهم،

أقام عماد الدين إستراتيجيته على أساس جمع شمل الأمة ونبذ الفرقة التي حذَّر الله منها بقوله سبحانه

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال 46،

     وحَّد عماد الدين زنكي ولايات الشام، ثم وحَّدها مع مصر ليقينه بأن طريق التحرير تبدأ من مصر وخير أجناد الأرض كما تبدأ من الشام خيرة الله في أرضه،

وبعد استشهاده آل الحكم لابنه نور الدين محمود فسار على دربه وانتهج نهجه في التوحيد والقضاء على الفتن، فاستردّ كثيراً من المدن والحصون الإسلامية.

وأعد الخطة للتحرير بل بنى المنبر ليكون هديته للمسجد الأقصى المبارك يوم تحريره لكنه توفي قبل أن يرى هذا اليوم ويفرح به.

فكَّ قيود الأقصى من أيدي الصليبيين
     لكن لا يأس ولا قنوط من رحمة الله، فبعد وفاة نور الدين قيَّض الله عز وجل للقدس والمسجد الأقصى المبارك مَن فكَّ قيود إِسارِهما من أيدي الصليبيين بعد ثمانية وثمانين عاماً،

فقد سار صلاح الدين الأيوبي على درب مربيه ومعلمه وملهمه نور الدين،
فدخل القدس محرراً في يوم الجمعة 27 من شهر رجب عام 583 هـ في ذكرى الإسراء والمعراج الخالدة،
حدث ذلك بعد أقل من مائة يوم من انتصاره المؤزّر على الصليبيين في معركة حطين التاريخية الفاصلة.

    كانت الحشود العسكرية الإسلاميَّة التي شاركت في معركة حطين ما زالت في فلسطين،

واستغلَّ صلاح الدين وجودها لتحرير مدن وموانئ ساحل فلسطين والشام وصولاً إلى تحرير القدس،
ولإنجاح هذا الهدف حرص على استنفار المسلمين في كل العالم الإسلامي للجهاد ضد الصليبيين،
فثارت عزائم المسلمين على الانطلاق إلى الجهاد والاشتراك في تطهير تلك البقعة المقدَّسة من الأرض المباركة مهوى أفئدتهم وقبلتهم الأولى ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فانضم إليه العلماء وطلاب العلم من أقطار العالم الإسلامي من مصر والعراق والجزيرة والشام وحلب وغيرها.

     سار صلاح الدين بجيشه الذي ضم المسلمين من العرب والكرد والتركمان وغيرهم واتجه نحو القدس فوصلها في منتصف رجب،

فوجدها محصّنة بستين ألف مقاتل دونها أو أكثر كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن تعود للمسلمين،

ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظها،

فحصَّنوها بما وجدوا إلى ذلك سبيلاً وصعدوا على أسوارها بحدهم وحديدهم مجمعين على الذب عنها بجهدهم،

مظهرين العزم على المناضلة دونها،
وكان صاحب القدس يومئذٍ باليان بن بازران ومعه الناجون من معركة حطِّين من فرسان الداوية والإسبتارية،

حول أسوار مدينة القدس
     استمر صلاح الدين خمسة أيام يدور حول أسوار مدينة القدس ليختار أضعف نقطة للمهاجمة من خلالها،

فاختار هو ناحية الشمال من السور لأنها أوسع للنِّزال والمواجهة مع العدو، ثم سلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه،
وضرب حصاراً عليها استمر 12 يوماً، وكان قد أحضر معه المجانيق والنقَّابين ليقوموا بإحداث الثغرات في السور مما سيسهّل اختراقها على المسلمين لدخول المدينة

     قاتل الصليبيون دون القدس قتالاً ضارياً وبذلوا أنفسهم وأموالهم نصرة لدينهم وأهدافهم الاحتلالية الخبيثة،
تقدَّمت وحدة عسكرية من طليعة الجيش الإسلامي نحو الأسوار بقيادة الأمير جمال الدين شروين بن حسن الرازي رحمه الله،
فخرجت إليها وحدة صليبية من حامية المدينة فقاتلتها وهزمتها وقتلت أميرها.

     قرَّر صلاح الدين أن يشنَّ هجوماً حاسماً على المدينة، فكثَّف رمايات المجانيق بحجارتها الضخمة نحو الأسوار والحصون،

وأمر الرماة بإطلاق وابل من السهام والنبال نحو جنودها المتمركزين على الأسوار،

وذلك ليشل مقاومتهم وليغطي تقدُّم المهاجمين المسلمين، فتراجع المدافعون الصليبيون عن مراكزهم،

بينما تقدَّم المسلمون واجتازوا الخندق الخارجي المحفور حول السُّور ثم الْتَصَقُوا به وأحدثوا فيه نقباً،

ثم اشتد قصف المجانيق وتوالى رمى السِّهام والنبال من الرُّماة المتقدِّمين خلف المهاجمين يحمونهم،

ونجح المهاجمون المسلمون في فتح أكثر من أربعين ثغرة في السُّور

استشهاد بعض أمراء المسلمين أثناء الحصار
     أوشك السور أن يصبح ملكاً للمهاجمين المسلمين؛ إذ إن إحدى الثغرات كانت كبيرة لدرجة تمكن المسلمون معها من النفاذ خلالها ورفع راياتهم عليها،

إلا أنَّ الصليبيين ما لبثوا أن احتشدوا وأبعدوا المسلمين عن السور، وعلى الرغم من ذلك فقد أيقن المدافعون الصليبيون أن لا جدوى من دفاعهم وأنَّهم مشرفون على الهلاك حتماً إن استمروا في صودهم الوهمي،

فتزاحم الناس في الكنائس للصلاة والاعتراف، وأخذوا يضربون أنفسهم بالحجارة ويرجون الرحمة من ربهم،
وقطَّعت النساء شعور بناتهن حتى يثور الرجال لحمايتهن من سبي المسلمين.

     استشهد أثناء الحصار بعض أمراء المسلمين، فغضب كثير من الأمراء الآخرين والصالحين والمجاهدين وأبلوْا في ميدان الجهاد بلاء حسناً،
وعيون أهل الإيمان تنظر إلى الصلبان منصوبة في المدينة وإلى الصليب الكبير فوق قبة الصخرة،

فكلما راوْا ذلك ازداد غضبهم وثارت حميّتهم وواصلوا القتال فكان يوماً عسيراً على العدو،ثم بادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور، فنقبها وحشاها بالنيران وأحرقها فسقط ذلك الجانب وخرَّ البرج برمَّته،فلما شاهد الفرنج الانهيار الفظيع للبرج أدركوا أنها الهزيمة المحققة.

لا أفتح القدس إلا عَنوة
     قابل أكابر الصليبيين صلاح الدين وتشفَّعوا إليه أن يعطيهم الأمان فامتنع من ذلك وقال [لا أفتحها إلا عَنوة كما افتتحتموها أنتم عَنوة،

ولا أترك بها أحداً من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم مَن كان بها من المسلمين… وجزاء سيئة سيئة مثلها]

فطلب صاحبها باليان الأمان ليحضر عنده فأمَّنه، فلما حضر بين يديه ترقَّق للسلطان وذل له ذلاًّ عظيماً وتشفَّع إليه بكل ما أمكنه،

فاستجاب السلطان لهذا العرض حقناً لدماء الأبرياء بعد مشاورات ومداولات بينه وبين قادته وأمرائه

     تمَّ الاتفاق بين صلاح الدين وباليان على تسليم المدينة، وكتبت وثيقة الصلح وتضمنت الشروط وهي التي سبق عرضها عليهم من قبل ورفضوها،

لكنهم قبلوا بها اليوم وهي:
أن يبذل كل رجل من الصليبيين عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة دنانير وعن كل طفل دينارين،ومَن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغَلاَّت والأسلحة والدُّور للمسلمين،
وأن يغادروا إلى مأمنهم وهي مدينة صور، وأن مَن لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوماً فهو أسير، فكان جملة مَن أسر بهذا الشرط ستة عشر ألفاً.

  الاستسلام لجنود المسلمين
  دخل السلطان مدينة القدس الإسلامية المباركة بعد أن أعطى قائدها باليان الأوامر لحاميتها بإلقاء السِّلاح والاستسلام لجنود المسلمين،

وكان يوماً مشهوداً رفعت فيه الرايات الإسلاميَّة على أسوار المدينة المقدَّسة، ووقف على كل باب من أبواب المدينة أمير من أمراء الجيش ليتسلَّم الفدية من الصليبيين الخارجين منها ويحتسبها، وكان في المدينة 60 ألف رجل ما بين فارس وراجل هذا بالإضافة إلى من يتبعهم من النِّساء والولدان،

وقد قسم السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب بين الجنود، ولم يأخذ منه شيئاً.

     دخل السلطان وجيشه القدس يوم الجمعة قبل وقت الصلاة فلم يتمكنوا من إقامة صلاة الجمعة لضيق الوقت، ونظفوا المسجد مما كان فيه من الصلبان والخنازير والنجاسات،وأُعيد المحراب الكبير إلى سابق عهده قبل الاحتلال الصليبي، وغُسِلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك،وكان الصليبيون قد اقتلعوا منها قطعاً فباعوها بزنتِها ذهباً فتعذَّر استعادتها، وكان على قبتها صليب كبير مذهب، فتسلق جماعة من المسلمين فاقتلعوه، فلما سقط صاح الناس كلهم صوتاً واحداً حتى ارتجت الأرض من شدته:

أما المسلمون فكبروا فرحاً وسروراً، وأما الفرنج فصاحوا تفجّعاً وتوجّعاً.

إزالة الصلبان والرسوم والتصاوير الشركية
     وأمَّا صلاح الدين فبعد أن استقرَّ له الحكم في المدينة المقدَّسة أمر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل احتلالها،

فقد كان  كثير من المعالم الإسلاميَّة للمدينة قد تغيَّر بفعل اعتداءات الصليبيين،

وكان فرسان الدَّاوية قد بنوا مباني لهم غرب المسجد الأقصى المبارك لكي يسكنوها وأدخلوا قسماً من المسجد في أبنيتهم،

فأمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم وبإزالة الصلبان والرسوم والتصاوير الشركية منها،

وأعاد المسيحيين الوطنيين من أهل القدس إلى مساكنهم وسمح لهم بشراء ما أراد الفرنج بيعه من ممتلكات ومتاع وأموال.

   لم يعرف التاريخ فاتحاً كالمسلمين، فقد وفَّى صلاح الدين بشروط الصلح،وتجلّت الأخلاق الإسلامية في التعامل مع أسرى العدو وفق أحكام الإسلام التي قررها القرىن الكريم والسنة النبوية المشرّفة،
فعلى الرغم من ضآلة الفدية المطلوبة منهم فهناك كثيرون لم يستطعوا دفعها فأصبحوا في عداد الأسرى،ولم يسهم أحدٌ من أغنيائهم في فداء فقرائهم،
وفي مقابل هذا الموقف المخزي ظهرت شهامة المسلمين،
فطلب الملك العادل إلى أخيه صلاح الدين أن يهب له ألفاً من الأسرى الفقراء ليطلق سراحهم تقرباً لله تعالى فأجابه،
فحرَّك هذا الموقف الإنساني مشاعر باليان فطلب من صلاح الدين إطلاق سراح أكثر من سبعة آلاف أسير من الفقراء بفدية قدرها ثلاثون ألف دينار فأجابه وأطلق سراحهم.

إطلاق كل من لم يستطع دفع الفدية لكبر سنه
   ثم أمر صلاح الدين بالمناداة في شوارع القدس بإطلاق كل من لم يستطع دفع الفدية لكبر سنه،
وأنَّ على هذه الفئة الخروج من الباب الخلفي للمدينة من طلوع الشمس إلى اللَّيل،
فخرجت منه أعداد لا تحصى. وطلب أمير البيرة إطلاق سراح 500 أرمني قدموا إلى القدس للعبادة فقط فأجابه،
وطلب الأمير مظفر الدِّين علي كوجك إطلاق سراح ألف أرمني من الرها فأجابه.
وتجمعت زوجات وبنات الفرسان القتلى والأسرى يبكين ويطلبن الرَّحمة.
فعطف عليهن وسمح لمن كان زوجها على قيد الحياة بأن تتعرف عليه وأطلق سراحه.

 أعادت معركة تحرير القدس واستلامها على يد صلاح الدين إلى أذهاننا معركة فتحها واستلامها على يد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
فهو شرف عظيم أكرم به الله جل ثناؤه هذا السلطان المجاهد الفاتح،
وبتحرير القدس واسترجاعها من قبضة الصليبيين انهارت أمامه معظم المواقع التي كانت ما زالت تحت سيطرتهم في معظم أنحاء بلاد الشام،
فواصل بعدها مقارعتهم ومجاهدتهم حتى توالت هزائمهم على يديه واسترجع منهم كثيراً من تلك المدن المحتلة وأعاد إليها هويتها العربية والإسلامية قبل الاحتلال الغاشم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق