الخميس، 10 أبريل 2025

مثقف السلطة وسلطة المثقف

 مثقف السلطة وسلطة المثقف

 وائل قنديل

كنا نتصوّر أنّ المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يحافظ على مسافة آمنة من الوقوع بين يدي السلطة، رافضاً أن يكون واحدةً من أدواتها أو هراوة معرفية تنهال بها على رأس الجمهور، حتى جاء زمن يوسف زيدان وقبله مراد وهبة وجيش جرّار ممن يوصفون بأنهم مثقفون لا يستطيعون العيش بعيداً عن أيدي السلطة وأقدامها.

أخيراً، أطلّ يوسف زيدان بزي جديد للمثقف هو "مثقف الدولة"، في حوار متلفز ضمن برامج الثرثرة والسفسطة الرمضانية، حين سئل عن اتهامه بالتطبيع ومجاملة الكيان الصهيوني. 

قال: "أنا قلت إنه ليس لدي مصلحة شخصية مع إسرائيل، لكن لو الدولة ممثلة في الخارجية أو اتحاد الكتاب طلبت مني ذلك لمصلحة العرب، ممكن أعمله". وأضاف خلال استضافته عبر شاشة "أرسلت إسرائيل رسالة إلى اتحاد الكتاب تطلب إلقاء مجموعة محاضرات بناءً على ما نُشر، تشنّجوا في اتحاد الكتاب! 

قلت لهم: بتتشنجوا ليه؟ قولوا لأ وخلاص، لو مش عاجبكم، أنا مش هروح لوحدي؛ لكن الناس عايزه تهيج وتبعبع، وأنا أعذرهم".

هنا نحن بصدد طوْر جديد من "مثقف الدولة" يختلف بالكلية عن نموذج "المثقف الدولجي" القديم الذي كان يبادر ويباغت السلطة بأفكاره وخدماته، هذا النوع اختفى وجاء نوع جديد لا يبادر ولا يقترح لكنه ينتظر الطلب، أو الأمر من الدولة "السلطة" لكي يذهب ويروح ويحاضر في إسرائيل أو لا يحاضر، فما يهمه أن يعمل ما تحبّه وتريده هذه السلطة.

قبل يوسف زيدان كان المفكّر وأستاذ الفلسفة مراد وهبة، الذي قضى معظم حياته يحرص على ثورة العقل والنقد والتمرّد على السائد والثابت، قد قرّر مع الانقلاب على المحاولة الثورية المصرية، أن يقدّم نفسه للسلطة الجديدة، فراح يروّج لضرورة أن يقيم المثقف جسوراً مع السلطة، ويقطع بأنّ الصدام بين المثقف والسلطة وهم، يقول "وهم الصدام، فحقيقة الأمر أن المثقف والسلطة في مركب واحد، والسخرية أن المثقف منشغل بأسئلة وهمية مثل: هل السيسي فقد شعبيته؟ ونسي المثقف أن دوره هو تنوير الجماهير كي تساند السيسي". 

الرغبة في الاصطفاف، بالمطلق، مع السلطة لم تكن حاضرة بين المثقفين في أزمنة مضت، ولم يحدُث في تاريخ الصراع العربي الصهيوني أن غاب صوت المثقف تماماً، أو صار مجرّد صدى لصوت السلطة، كما هو حاصلٌ في المرحلة الحالية، وهو الأمر الذي ما كان ليحدُث لولا أنّ الاستبداد أخذ طوراً شديد السميّة والقدرة التدميرية في السنوات التي تلت اغتيال الربيع العربي بواسطة أسطول الثورات المضادّة المدجّج بأفتك أنواع الأسلحة المجرمة.

كان من المفترض في هذه الجولة من التوحّش الصهيوني الذي يستهدف تغيير الخرائط الجغرافية والسياسية والاجتماعية في الوطن العربي كلّه، أن يكون صوت المثقف هو حائط الصدّ الأخير بعد استسلام الأنظمة لهذا المصير المخيف، بعضها عن ضعف حقيقي وبعضها الآخر عن تظاهر بالضعف، هو في الحقيقة تعبير عن ارتباط وجودي بالمشروع الأميركي (الصهيوني) لإعادة هندسة الجغرافيا والتاريخ.

الحديث هنا عن التيار الغالب في جماعة المثقفين وليس الكل، إذ تحاول أصوات قليلة أن تطرح خطاباً قوميًاً أخلاقيًاً وعاقلاً في مواجهة طلعات الهستيريا الوطنية المزيّفة التي تقصف الجماهير بعنف، في محاولة لإقناعها بأنه لا طاقة للعرب بالوقوف في وجه أميركا وإسرائيل، وأنّ الحكومات العربية مغلوبة على أمرها وتستحق الاصطفاف حولها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

في هذه الأجواء الهستيرية بكلّ الوجوه تتعالى صيحات الغالب الأعم من أهل الثقافة والإعلام، تحضّ الجماهير على التقوقع القُطري والتخندق خلف القيادة السياسية لإنقاذ الوطن من مصير غزّة، إذ تطلق نفيراً صاخباً يدعو إلى الانكفاء على الوطن، وعدم الانجرار خلف دعوات (شرّيرة) تتحدّث عن قضية قومية تجتمع عليها كلّ الدول والشعوب، لتصبح النغمة السائدة أنّ الوطنية الحقيقية هي أن نحافظ على حدودنا، ولا نتورّط في حروب غيرنا، وهذا الـ"غيرنا" هو الشقيق الفلسطيني، وأيّ شقيق عربي آخر يتعرّض للعدوان الصهيوني.

 كان المتصوّر دائماً أنّ المثقف صوت الشعب، لا صدى السلطة، وأنه على الدوام يمثل ذلك الجدار الأخلاقي والمعرفي الذي يحاول أن يمنع استفراد السلطة بالوعي العام، ويدفع ثمن ذلك، عن رضا، سجنًا وتشريدًا وحرمانًا من ذهب المعز وجراحًا بسيفه، أو بالحدّ الأدنى يصمت باعتبار الصمت نوعًا من التمرّد الساكت على حالة الدجل والشعوذة السياسية والمعرفية التي تمارسها السلطة.

كان ذلك واقعاً تعيشه المجتمعات العربية من خمسينيات القرن الماضي إلى العشرية الأولى من القرن الحالي، في مسيرة من النضال توّجت بموجةٍ من الثورات التي اتخذت اسم الربيع العربي، الذي سرعان ما تعرّض للقتل والإبادة على يد جيوش ومراكز نفوذ دولي وإقليمي تجد مصالحها مع وجود ترسانةٍ من النظم المستبدة تحبس الجماهير في خوفها وعجزها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق