الهجرة بين أحكام الدين وصنمية الجغرافيا
إضاءات شرعية، سياسية، أخلاقية:
الهجرة حفظا للدين والنفس
لا شك بأن الإنسان مأمور بالقيام بواجباته الدينية ليتحقق الهدف من وجوده، فإن وجد في أرض لا يستطيع أن يقيم فيها شعائر دينه، ولا أن يقوم بما أمره الله به، فيقع عليه واجب الهجرة، فإن لم يفعل فقد ظلم نفسه. وإذا كان حفظ الدين أول مقاصد الشريعة، فإن حفظ النفس ثاني مقاصدها المعتبرة.ندائي للمعالجة المرحلية في النازلة الغزية
لقد طرحت رؤيتي لموضوع الهجرة الجزئية من غزة الأبية إلى أمها الشام الوفية -لاسيما بعدما تحررت من الاحتلال الإيراني وزال فرعونها النصيري-، وذلك انطلاقًا من وعي الضرورة الشرعية والأخلاقية والإنسانية لإنقاذ الأرواح ووقف نزيف الدماء الفلسطينية التي تسفك في غزة كل يوم وليلة، وذلك منذ عام ونصف دون أمارات تشير إلى توقف أنهار الدماء الزكية المظلومة والمقهورة.انطلقت في دعوتي تلك -بكل وضوح- من إيماني بالوجوب الشرعي لإنقاذ الغريق، ولم أنطلق من فكرة التهجير ولم أدعُ لها، وإنما دعوت سياسيي الأمة لبحث الخطوة العملية الممكنة لإيقاف أنهار الدماء في غزة المنكوبة.
لن أعتذر من سايكس مهما بلغ غضب بيكو
إن دعوتي للرئيس أحمد الشرع، الذي قاد مشروع تحرير المدن السورية وتربع على عرش الحكم في الفترة الحالية، أن يقوم باعتباره قيمًا على الأراضي الشامية بطرح مبادرة عملية، تقضي باستقبال جزء محدود من أهل غزة المنكوبة واستقبالهم في سورية -بدل إبعادهم لأقصى المشرق أو المغرب- وذلك لتحقيق عدة أمور هي:
1- حفظ دماء المسلمين التي تهرق كل يوم في غزة في ظل عجز عربي وإسلامي عن إنقاذها، وإرباك فلسطيني أضاع البوصلة وأصبح تائها مضطربًا لا يعرف طريقًا للحل.
2- الحفاظ على مفهوم ومكون المقاومة الفلسطينية في حضن أمها الشام السورية، بدل أن يتلف ويتم إزهاقه كما هي الإرادة الأمريكية، لا سيما أن عامًا ونصف من المذابح التي أتت على الأخضر واليابس في غزة الأبية قد قطعت رؤوس معظم قيادات المقاومة وهتكت الحياة الاجتماعية لحاضنتها الفلسطينية، ستنتهي لا محالة -في حال إستدامتها- إلى صورة تجعل من فكرة ومكون المقاومة ذكرى تاريخية بعد إبادتها المحتملة.
3- إيجاد فرصة عملية يتنفس فيها أهل الشام الأبية ليبنوا بسواعدهم تجربة فريدة على أرض إقليم الشام أم فلسطين. فسورية يمكن أن تحيا بدون فلسطين، لكن فلسطين لا يمكن أن تحيا وأن تتحرر بدون سورية، وإن كل تدعيم للتجربة السورية في أرض الشام – وتركيا- هو إنقاذ حقيقي للقضية الفلسطينية بشكل تراكمي، لا سيما وأن كل الحلول العربية والإسلامية والمحاولات الفلسطينية خلال قرن لم تحرر شبرًا من أرض فلسطين.
4- تصحيح أم المصائب الفلسطينية، وذلك حين ربطت القيادات الفلسطينية المقاومة بين المشروع الإيراني المعادي لشعوب الأمة العربية والإسلامية وبين القضية الفلسطينية. وإن في التواجد الفلسطيني على أرض الشام ومصر والعراق فرصًا حقيقية – في أجواء الحرية – ستعيد الارتباط بشكله السياسي والجهادي بين الشعوب العربية في دول الطوق وبين قضية الأقصى باعتبارها جزءًا من العقيدة الإسلامية.
معضلة التقسيم بين الجغرافيا وأحكام الشرع ونظر العقل!
من الفاجع أن تقسيم سايكس بيكو الغربي لمنطقتنا العربية والإسلامية لم يتوقف عند الحدود الجيوسياسية، وإنما أعاد صياغة المشاعر والانتماءات والولاءات العربية والإسلامية، ثم انتقل ليتدخل في الفقه الإسلامي، وليبني مذهبًا خامسًا مفارقًا لأبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وابن حنبل، وذلك حين أصبح التحليل والتحريم والمقبول والمرفوض، والواجب والمباح، مرتبطًا بحدود وتقسيمات سايكس بيكو، حيث تجد علماء الأمة يبررون بشكل شرعي هجرة العراقيين والسوريين واليمنيين والمصريين والسودانيين أمام المهالك والعذابات التي استباحت أعراضهم وديارهم ودمائهم، سواء أكانت هجرتهم في داخل بلدانهم أم في البلدان المجاورة، فيما يتجه الغالب لتحريم هجرة الفلسطينيين حتى لو كانوا يُذبحون كل صباح ومساء في ظل رجحان استمرار هذا الحال وعدم وجود قدرة على إيقاف نزيف الدماء، إلا بالردح الذي يصطبغ برداء ديني وتكبير ودعاء، ولكن مضمونه عجز عن التغيير وسلبية!المسلم بين دين التوحيد وصنمية الأرض
فطر الله الإنسان على الارتباط بأرضه ودياره وعشيرته وربعه، إلا أن المسلم الرسالي يرتبط بأهداف هذه الرسالة السماوية العظيمة، وهو ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يهاجر من مكة التي يحبها إلى المدينة لأجل مشروعه الدعوي المرتبط برسالة الإسلام، كما أن هدف الحفاظ على أصحاب رسول الله وصيانة حرياتهم وكرامتهم كان سببًا في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى الحبشة.إن الفرق كبير بين من يصل حبه وتعظيمه إلى درجة عبادة الوطن والأرض، وبين من يعبد رب الأرض ويعظم شريعته، ويحدد موقفه ويضبط خطوات مشروعه بما يرضي الرب سبحانه ويلتزم بأحكام دينه وهديه، وهو محل اجتهاد الفقهاء في السياسة الشرعية.
إن جميع الخلائق التي خلقها الله من غير البشر تتجه بفطرتها النقية لمغادرة كل أرض تتعاظم فيها المخاطر حتى تودي بحياتها، وكما أن الطيور -التي لا تملك عقولًا راشدة- تغادر جغرافيا محددة في مواسم معروفة ثم تعود إليها مجددًا، فإن بني البشر يغادرون محل المهالك عندما تختل الموازين التي تحيط بهم، ويصبح الهلاك راجحًا إلى درجة اليقين، فإن زالت المهالك عادوا من جديد.
ومن نكد الدنيا الذي يزيد من إحباط الشعب الفلسطيني، أن معظم من ينظرون ويوصون بعدم الهجرة لمن يقفون على شفير الموت، هم من الدعاة والعلماء الذين هاجروا من مصر واليمن والشام والسودان والعراق وفلسطين وغزة، نتيجة تهديدات في حقبة الربيع العربي أو ما أعقبها، رغم أن أحدا منهم لم يرَ ولم يصبه عشر معشار ما يلاقيه أبناء الشعب الفلسطيني في غزة. فهل يختلف شكل التعامل مع رجحان القتل وشكل التهديد عندما يمارسه محتل يهودي عن حاكم عربي طاغوت نجس لا يؤمن بالله العظيم؟
التهجير القسري بين الخلفية السياسية ومغامرات غير الراشدين!
من نافلة القول إن مشروع الترانسفير هو جزء من المخطط الصهيوني الغربي في فلسطين منذ رحيل العثمانيين عنها، حيث تابع الصهاينة اليهود ما بدأه الصهاينة الإنجليز. فليس اكتشافًا القول إن هدف المشروع الإسرائيلي تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة!إن حديثي ينطلق من واجب الوقت الحالي في إيقاف أنهار الدماء الغزية، لا سيما بعد انعدام الآفاق السياسية في ظل عجز عربي وارتباك فلسطيني، وليس المنطلق فكرة التهجير بل صون الدماء المسفوكة.
وهنا لابد من طرح سؤال جريء وشفاف، حيث إن أحدًا لا يجادل في خلفية مشاريع التهجير الإسرائيلية، لكن السؤال يقول: ما هي الأسباب التي مهدت لخطوة التهجير هذا العام والذي سبقه، رغم أن خطة التهجير قائمة وأهدافها مطلوبة منذ 77 عامًا؟
إن الذي يتعامل بصدق حقيقي ووعي عميق ومسؤولية ناضجة حيال قضية المحافظة على التواجد الفلسطيني في المدن الفلسطينية سواء في الضفة أو غزة أو حتى في أراضي 48، هو من يدرك مآلات أفعاله قبل أن يندفع في مغامراته تحت عناوين وشعارات صحيحة ومشروعة، لكن توقيتها خاطئ وإيقاعها مضطرب بلا حسابات واعية، وبلا إعداد سليم يتناسب مع شكلها وحجمها.
فهل كانت عملية 7 أكتوبر ومعركة الطوفان منسجمة بين عناوينها المشروعة والبراقة، وبين مآلاتها الواضحة المجربة والمقروءة؟
هل يمكن التعامي عن حقيقة واضحة مفادها أن القرار الفلسطيني بفتح معركة تحرير واسعة – هي من شأن الأمة العربية والإسلامية لا سيما دول الطوق وشعوبها التي تتوق للتحرير -قد حمل الشعب الفلسطيني -وخصوصًا أهل غزة- ما لا يطيقه البشر والشجر والحجر، فعبد الطريق أمام التهجير المستهدف من قبل الخصوم؟
وهل كان التعويل على المشروع الإيراني المعادي – الذي قتل من أبناء العرب والمسلمين 4 ملايين ونصف المليون، وهجر منهم أكثر من 25 مليون لصالح استقرار إسرائيل وتوسع النفوذ الأمريكي في المنطقة – خطوة سديدة وسوية حين أجمعت عليها قيادات المقاومة الفلسطينية الوطنية والإسلامية؟
ولماذا لم تصبر القيادات الفلسطينية المؤمنة بالمرجعية الإسلامية على الإعداد الواجب نحو شعوب الأمة العربية والإسلامية، ولماذا لم تصبر على إطلاق معركة التحرير الكامل حين تعافي محيط فلسطين، بدل التعويل الآثم على إيران الطائفية، وبدل الانطلاق من مفهوم وحدة الساحات الإيرانية، والذي أوجد فجوات بين شعوب الأمة المكلومة من إيران وبين القضية الفلسطينية؟
وبكل وضوح أقول:
في الوقت الذي أدعو فيه لإخراج بعض الفلسطينيين من غزة ونقلهم إلى أرض الشام حفظاً لدمائهم وإيقافاً لنزيف أنهار الدماء، فإنني أتهم بوضوح قادة المقاومة الفلسطينية بالمسؤولية التاريخية عن إيجاد أرضية من الناحية السياسية والعسكرية والاجتماعية تدفع الشعب الفلسطيني طوعاً لمغادرة أرضه بحثاً عن حفظ حياته واسترداد حقوقه الإنسانية المهدورة، وهو إن فعل هذا فإنه معذور كبقية الشعوب في أرض الشام ومصر والعراق والسودان واليمن وليبيا وتونس والجزائر.مع بداية عملية 7 أكتوبر والطوفان أطلقت مبادرات عدة تستهدف تقليل الشرور القادمة، ورجوت الأطر الإسلامية -ومنها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- إنقاذ الشعب والقضية الفلسطينية ورفع الحرج عن المقاومين الفلسطينيين، وذلك من خلال استلام ملف الأسرى وتسليمهم بالكامل للمحتلين الغاصبين عبر مقاربة وأطر عربية، حفظاً للديار وللدماء وللقضية الفلسطينية، لا سيما وأن النتائج التي نراها اليوم كانت مقروءة بالأمس، عند من يعي حقيقة الأهداف الأمريكية والمطالب الإسرائيلية وكنه المشروع الإيراني المعادي، الذي يستخدم دماء العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية في صراع النفوذ مع إسرائيل، مخادعاً للعرب والمسلمين وممتطيا بعض الحركات الفلسطينية، ومصورا صراعه مع المحتلين بأنه صراع وجود وليس صراع نفوذ، غير مستحٍ من فضائح علاقاته مع الكيان الصهيوني واستخذائه أمام الحاكم الأمريكي، فيما يتعامى بنو قومنا في فلسطين عن حقيقة المذابح التي نحر فيها ملالي إيران ملايينا من العرب والمسلمين في العراق والشام واليمن بشكل مشهود، واهوالها لا تقل عن أهوال غزة وفلسطين بل هي أضعافها 100 مرة.
فكيف حلت تلك اللوثة واللعنة في عقول قادة الفلسطينيين المقاومين، وكيف قبلت الفطرة السوية للمجاهدين القفز عن حقيقة المجازر المعلنة في كل محيط فلسطين اللصيق كما هي مجسدة اليوم في غزة ومخيم جنين؟
مفارقات عجيبة بين المقاومين والمنسقين!
ومن نكد الزمان علينا في فلسطين أن مآلات السياسة المتبعة من قبل السلطة الفلسطينية -التي غرقت في التنسيق الأمني الخياني مع الصهاينة والمحتلين- تحفظ التواجد الفلسطيني مرحلياً ونسبيا في المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، فيما قرارات وسياسات وخطوات قادة المقاومين المنتمين للدين والأمة، آلت إلى اجتثاث جزء من الكيان الفلسطيني من أرضه وإضعاف عموم تواجده، الأمر الذي حقق مطلباً صهيونياً كان عسيراً على التطبيق في العقود الماضية، وهي من نتائج لعنة الارتباط بين القضية الفلسطينية والمشروع الإيراني الذي أضعف القضية ولوث عقول القيادات الإسلامية قبل الوطنية، وكان قاب قوسين أو أدنى من إحداث اضطراب في الهوية الثقافية الدينية الجمعية، تماماً كما حصل في اليمن والعراق والشام، وجميعها جغرافيا وديمغرافيا من عجينة غزة!الخلاصة
في ظل استمرار القتل والذبح وانهار الدماء في غزة، وفي ظل العجز العربي الشعبي وفي ظل التآمر الرسمي، وفي ظل الارتباك الفلسطيني الذي كشف عن اهتراء نظرياته وهشاشة عقله وضعف مسؤولياته، فإن أي حل شرعي وأخلاقي يفضي إلى إيقاف أنهار الدماء واجب الأخذ به دون تردد، لا سيما إذا كان خروج بعض الفلسطينيين إلى محيط فلسطين خارج حدود سايكس بيكو -الصنمية والظالمة- يوقف المجازر الصهيونية ويضيف فسحة لبناء المشاريع العربية، ويعزز التواصل بين القضية الفلسطينية وأهلها وأربابها من العرب والمسلمين بديلاً عن الارتباط الآثم بمشروع إيران المعادي والطائفي.إن فلسطين لم تكن في يوم من الأيام دولة -منذ أن فتحها عمر بن الخطاب حتى زوال دولة الأمة قبل قرن- وإنما كانت جزءًا من الأرض المباركة في الشام، وهي اليوم تعتبر أهم جيب ثائر من جيوب الشام المستهدفة من مشاريع الصادات الثلاثة (الصهيوني والصليبي والصفوي)، ومن المؤكد أن خروج بعض الفلسطينيين حماية لدماء أبنائهم لن ينسيهم قضيتهم ولا ارتباطهم ولن يضعف حنينهم، كما لم ينس العراقيون والمصريون والسوريون واليمنيون والسودانيون ديارهم عندما فارقوها نتيجة وجود تهديدات لا تقارن بأهوال غزة، وقد خرج قبيل المعركة من غزة ربع مليون شاب، وما أن بدأت المعركة حتى خرج ربع مليون من أهل غزة الصابرين بعد أن دفعوا لشركة العرجاني السيساوي 10 آلاف دولار عن كل فرد.
لن تجد فلسطين أوفى لأرضها من أهلها أكثر من شعب سورية ومصر والعراق واليمن الكريم، لا سيما أن كل أهل فلسطين جاؤوا من تلك الديار حتى وصلوا مهاجرين من الديار المغاربية فكان أهلها الحراس الأوفياء للأقصى، فمن الذي صنع صنمًا للأرض الفلسطينية فبات يعبد من دون الله، ويصبح متقدماً ومقرراً لحركة المسلم بعيدًا عن الأحكام الشرعية؟
وهل زرع المشروع الغربي الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين إلا ليستهدف أرض الشام ومصر والعراق والخليج؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق