ماذا لو كنت أعمى
بقلم الأستاذ / عبدالله بالبيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
كان لي صديق عزيز، أعطاه الله صوتاً حسناً ولساناً ذاكراً ونفس طيبة،
كل من يجلس معه يحبه ويجله لاسيما وأن الله أعطاه روح الأنس والدعابة،
ولكن شاء الله أن يبتليه بمرض العمى، حيث ولد وهو أعمى ثم نشأ وترعرع
في كنف والديه ودرس وتعلم حتى كبر ولكن كان طول حياته لا يرى
إلا الظلام -عافانا الله وإياكم-،
كنت دائماً أتأمل في صاحبي وكيف يعيش حياته وهو أعمى،
بل إني أتأمله أكثر حينما أحضر لقاءً أو اجتماعاً مع بعض الزملاء ويكون
بيننا صاحبي فأرى من زملائي من يأتي والثاني يستقبله والآخر يقوم بواجب
الضيافة والآخر ممسك بجواله يرى الجديد فيه وبعضهم من يجهز الطعام
وهكذا.. كلٌ منا يفعل ما يشاء وحيداً دون مساعدة من أحد إلا صاحبي
لا يستطيع أن يفعل ما يفعلون إلا بوجود من يساعده أو يفعل بعض
ما يفعلون فيما يستطيع ولكن يفعله ببطء وحذر لئلا يؤذي نفسه أو يتعثر،
فلا يستطيع أن يأتي إلينا إلا بمساعدة ولا يذهب إلى أي مكان إلا ومعه
من يعاونه، حتى الاتصال بالجوال كم مرة قال لي: اتصل لي على فلان،
وكم مرة قال لي: اذهب بي إلى ذاك المكان، وهكذا هي حياته لا يستطيع
أن يفعل ما يريد إلا بوجود شخص يسانده ويعاونه.
حقيقة كنت دائماً أسأل نفسي وأقول:
" ماذا لو كنت مكانه كيف ستكون حياتي"
وأنت يا أيها القارئ الكريم اسأل نفسك
"ماذا لو كنت أعمى كيف ستكون حياتك"؟
اغمض عينيك لمدة دقيقة ماذا ترى؟ لا ترى إلا الظلام،،
حاول أن تسير لخطوات وأنت مغمض العينين،، لا أظن أنك ستتحمل،،
ماذا لو كنت هكذا طول حياتك لا ترى إلا الظلام،،، كيف ستكون حياتك،، ؟!
كيف تأكل وتشرب؟ كيف تقرأ وتكتب؟ كيف تهتدي للطريق؟.
الإنسان يفرح حينما يرى والديه ويأنس حينما يرى أولاده وأهله وأقاربه
ويبتهج حينما يرى المناظر الطبيعية الجميلة، بعينيه يرى الأشياء،،
وبناظريه يذهب ويعود،، وبهما يقرأ ويكتب ويتعلم،،
وبهما يهتدي للطريق ليلاً أو نهاراً،، وبهما يفعل ما يريد وما يشاء
دون حاجة لمساعدة من أحد،، ماذا لو خلقك الله أعمى كمثل صاحبي
لا تستطيع رؤية ما سبق كيف ستكون حياتك،،؟
كيف ستكون حياتك
حينما تتحدث مع والديك وتضحك معهم وتأنس بهم
ولكن لا تستطيع أن تراهم، وتتمنى أن تفعل أي شيء لخدمتهم وكسب
رضاهم ولكنك لا تستطيع لأنك أعمى،،؟!
كيف ستكون حياتك
حينما تجلس مع أهلك وإخوتك وأقاربك تضحك
معهم وتأنس بهم وتسمع أصواتهم،، ولكنك تتمنى رؤيتهم ولا تستطيع
لأنك أعمى،،؟!
كيف ستكون حياتك
حينما يراك صغارك ويفرحون بك وبقدومك وتضمهم إلى صدرك
وتضحك معهم وتقبلهم ويقبلونك،، ولكنك طول حياتك لا تستطيع رؤيتهم
ولا تعرف أشكالهم وألوانهم،، لأنك أعمى،،؟!
هب أن الله خلقك أعمى منذ الصغر كمثل صاحبي، وتسمع الصغار يلعبون
ويلهون ويضحكون وأنت جالس فريداً وحيداً حزيناً لا تستطيع فعل
ما يفعلون،،
كيف ستكون حياتك،،؟!
تأملت في صاحبي ثم تيقنت أنه في يوم من الأيام حينما كان صغيراً كان
الصغار يلعبون ويلهون،، وصاحبي كان يجلس في زاوية البيت وحيداً
يسمعهم يضحكون ويلعبون ويركضون ولكنه لا يستطيع فعل ما يفعلون،،
لأنه أعمى.
بل وتفكرت في والديه وكيف كانا ينظران إليه بنظرات الأسى والحزن والألم
حينما كانوا ينظرون إلى الصغار وهم يلعبون وابنهم لا يستطيع اللعب
معهم لأنه أعمى ولا يستطيعون هم فعل شيء،،
تخيل نفسك لو كنت مكانهم ولديك طفل ضرير وترى الصغار يلهون
ويضحكون ويلعبون وولدك في زاوية البيت ولا يستطيع فعل ما يفعلون،
ما أنت فاعل،،؟!
يقيناً لا تستطيع فعل شيء،، ولكن والله لتمنيت أن تفديه بعينيك
ولا تكون أنت ولا هو في مثل هذا الموقف.
صحيح أن هذا ابتلاء من الله سبحانه بحكمته وعدله وسيجازي من فقد
حبيبتيه بالجنة كما قال المصطفى عليه السلام، وفي الحديث الآخر :
( من يرد الله به خيراً يصب منه )
ولكن حتى تعلم يا محب مقدار هذه النعمة العظيمة الجليلة الثمينة
والتي أعطاك الله إياها دون ثمن، وبدون أن تتألم أو تتحسر،
ولم يجعلك الله في مثل هذا الموقف.
ولد أعمى قال لأمه يوماً متسائلاً:
يـا أمـي مـا شكل السماءُ وما الضياءُ وما القمر
بــجــمــالــهـا تـتـحـدثـون ولا أرى مـنـهـا أثـر
هــل هــذه الــدنـيـا ظـلام فـي ظـلام مـسـتـمـر
يـا أمـي مـدي يـديـك عـسـى يـزايـلني الضجر
أمـشـي أخـاف تـعـثـراً وسـط النهار أو السحر
لا أهتدي في السير إن طال الطريق وإن قصر
أمـشـي أحـاذر أن يـصـادفـنـي إذا أخطو خطر
والأرض عـنـدي يـستوي منها البسائط والحفر
عـكـازتـي هـي نـاظري هل في جماد من نظر
يـجـري الصغار ويلعبون ويرتعون ولا ضرر
وأنـا ضـريـر قـاعـد فـي عـقـر داري مـسـتـقر
الله يـلـطـف بـي ويـصـرف مـا أقاسي من كدر
ولكن الأم صمتت، وفي قلبها ألم وأسى وحسرة، ولم تستطع الإجابة،
وكذا حال الأبكم والأصم فهو وإن كان يرى ولكنه يتمنى أن يكون مثل بقية
الناس متحدثاً سميعاً،، واسأل نفسك ماذا لو كنت أبكماً أو أصماً
كيف ستكون حياتك،، ؟!
انظر يا أخي إلى التلفاز ثم أغلق صوته تماماً،، ماذا ترى،، ؟!
لا ترى إلا حركات دون أن تسمع شيئاً،، وهذا هو حال من لا يسمع فيما
لو كان صوت التلفاز عالياً.
أنت تجلس مع أهلك وزملائك وأقرانك وتتحدث معهم وتضحك وتأنس بهم
وهو يراكم تتحدثون وتضحكون ولكن لا يسمع شيئاً،،
أنت تسمع قارئ القرآن وتتلذذ بهذا السماع،، وهو لا يستطيع لأن الله خلقه
هكذا غير قادر على السماع،، أنت تسمع كل شيء
وهو لا يستطيع لأن الله خلقه هكذا،، ،ماذا لو كنت مكانه،،
كيف ستكون حياتك،، ؟!
وكذا حال المريض والمعاق ومن به عاهة فهو وإن كان متحدثاً سميعاً بصيراً
إلا أنه يتمنى أن يكون في مثل صحتك وعافيتك،، فإن كنت تراه وتحمد الله
أنك لم تكن مثله، فإنه يراك ويتمنى أن يكون مثلك، وإن كنت تدعو الله
ألا يبتليك مما ابتلاه فإنه يدعو الله أن يعافيه مما ابتلاه.
وثق تماماً أن كل أعمى أو أبكماً أو أصماً أو مريضاً أو معاقاً أو غيرهم
مما فيه عاهة يراك ويغبطك على هذه النعم التي أعطاك الله إياها هبة وفضلاً
وكرماً ويتمنى أن يكون مثلك في الصحة والعافية وأن أعضاءه سليمة،،
( أسأل الله أن يشفي كل مريض ومبتلى
وأن يقر أعينهم بالشفاء والصحة والعافية ).
أحبتي الفضلاء:
بعد هذا العرض البسيط أتساءل:
كيف يتجرأ العبد المسكين الفقير أن يعصي الله بنعمته،، !!
كيف يتجرأ الإنسان الضعيف أن يعصي من وهبه النعم بنعمه وهو يعلم
أن الله يراه ومطلع عليه،، !!
ما هذه الجرأة؟!!
ألا يستحي العبد بعد أن أكرمه الله بنعم عظيمة جليلة لا تقدر بثمن
وأزاح عنه هم فقد النعم، وأزاح عنه عواقب فقد النعم أن يعصي الله بنعمه.
ألا يخشى العبد العاصي أن يسلب الله منه هذه النعم بعد أن أكرمه بها،
فالله بكرمه أزاح عنك هذا الهم بهذه النعم واصطفاك وفضلك على كثير
ممن خلق تفضيلاً، فالذي وهبك ومنّ عليك بهذه النعم العظيمة قادر بقدرته
وحكمته وعدله على سلبها منك.
فإن كنت مسلماً سميعاً بصيراً وقادر على الكلام وفي صحة جيدة فقد فضلك
الله وميزك على كثير من خلقه، ويتمنى الكثير لو كانوا مثلك، وإن كنت زيادة
على ذلك لديك المسكن والمأكل والمشرب والمركب وتعيش في أمن وأمان
فأنت والله ملك من ملوك هذه الدنيا بل قد حيزت لك الدنيا بحذافيرها،
فقد قال المصطفى -عليه السلام :
( من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه،
فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها ).
ولذا يا محب إذا رأيت رجلاً غنياً أو صاحب جاه أو منصب أو رجلاً فيه
من الصفات ما ليس فيك فاعمل بوصية رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
حين قال :
( انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة ربكم...).
ووالله لو تأملت في حالك وفي صحتك وعافيتك وتأملت نعم الله عليك لهانت
عليك مصائب الدنيا ومشاكلها سواء كانت مشكلة مالية أو نفسية أو أسرية
أو غيرها، فبمجرد النظر والتأمل إلى هذه النعم التي أسبغها الله عليك
ورؤية من ابتلاه الله بفقدها تهون عليك والله كل المصائب.
فاحمد الله واشكره شكراً كثيراً على نعمه وفضله وإحسانه،
وأعظم نعمة تستحق الحمد والشكر والتي حرمها كثير من الناس هي نعمة
الإسلام والعقيدة الصافية السليمة فقد قال الله في الحديث القدسي
( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )
فالله اصطفاك على العالمين وجعلك مسلماً موحداً، فاحمد الله واشكره
على نعمه وآلائه ليزيدك من واسع كرمه وفضله، ثم اشكره شكراً كثيراً قولاً
وفعلاً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ليزيدك سبحانه من فضله ونعمائه،
فالشكور سبحانه يحب الشاكرين ووعد من يحمده ويشكره بالزيادة،
فقد قال الله سبحانه :
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }
و ندعو الله ونسأله أن يجعلنا من عباده الأقلين الشاكرين.
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى،،
اللهم ارزقنا شكر نعمتك، ونعوذ بك اللهم من زوال نعمتك ومن تحول عافيتك
ومن فجاءة نقمتك ومن جميع سخطك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق