عندما يقف الكبار "عجمي باشا السعدون"
عندما انطلقت الحرب العالمية الأولى وتقدمت جحافل الدول الاستعمارية بجيوشها الجرارة وجواسيسها وعملائها وانقسمت الأمة إلى قسمين، وقف الفارس الشيخ عجمي باشا السعدون تقوده النخوة العربية وحب الأمة الإسلامية الذي يجري في عروقه وأصطف في خندق الأمة.
الزعيم عجمي باشا السعدون الذي أشتهر بالفروسية والشجاعة والنخوة العربية لم ينخدع بالثورة العربية -التي قادها الإنجليز واستخدموا الشريف حسين وأبنائه وندم على فعلته يوم لا ينفع الندم- عجمي بو مطشر الذي ينحدر من الأسرة العربية العريقة قبائل المنتفق، لم يرضخ لكل الإغراءات الإنجليزية ولم يلتفت لكل أموالهم ولم تنطلي عليه أكاذيبهم تحرير العرب، وقف موقف الكبار بدافع العقيدة الإسلامية بجانب الدولة العثمانية ولم ينجح الجاسوس الانجليزي كوكس أن يشتري عجمي لأن أصحاب المبادئ لا تركعهم الأموال ولا يخضعهم الجاه ولا تعرف الخيانة طريق إليهم، لأن الكبار وقفاتهم لا ينبغي لها إلا أن تكون كبيرة حتى ولو خسروا المعركة ولكن لا يخسرون مبادئهم ولا يخسرون أنفسهم.
ولو خضع عجمي للحاكم السياسي البريطاني في بغداد لكن ثمنه كبير جدا لا يقارن مع ثمن من خان وغدر وترك الوفاء ولكن ثمن الشهامة والرجولة عند بومطشر لا تعادله أموال الأرض.
فاضت قريحة الشاعر محمد العوني عندما كان جالسا في مدينة حائل ورأى ناقة فاطر “كبيرة” تحن على فراق أبنها حنينا شديدا، فقال أبيات في صاحبه الصنديد عجمي السعدون مستذكرا رجولته:
الفاطر الزرقا ترزم مع السوق
حنينها أودع بقلبي هوايا
تبكي ولدها فارقة عاقها عوق
وأنا أبكي الصنديد ذيب السرايا
مدري حدر والا قعد أو ذهب
أو وين تدري به، ربيه الهفايا
حاول كوكس أن يشتري عجمي وأرسل له مع أحد العرب فقط أن يتخلى عن مساندة الأمة في الحرب العالمية الأولى مقابل أن يدفع له ثلاثمائة ألف جنية ذهب إنجليزي وهي تعادل شيء كبير في عصرنا اليوم ولكن لا تعادل شيء أمام مواقف الكبار، ومن ضمن رسائله قال بأن “نبارك لكم النسب السعدوني الهاشمي في الجزيرة العربية وشجاعة اخوانكم ونقدر مواقفكم مع الأتراك، نعرض عليكم أن تكون أميرا عربيا على أرضك لا تضيع الفرصة على أهليكم يا شجاع نقدر فيك الموقف، نعرض علكم لأنك أحق من غيرك”. ولكن هذه الأكاذيب لا تنطلي على الفارس عجمي.
فأرسل كوكس رسالة إلي عجمي يريد مقابلته بمفرده في المكان الذي يحدده، فقال عجمي كلمات تسجل في التاريخ لا يعرفه كل من باع وطنه وباع أمته وهي “أنني أطلب من كوكس باسم بريطانيا التي يعتبر هو من ساستها، هل يقبل بأن يجتمع معي وينظرني بعينه فيما لو كانت الغلبة للعرب والإسلام كما كان بالأمس، وأن أتيه غازيا لوطنه لندن كما أتاني غازيا لوطني اليوم، وطلبت من كوكس الاجتماع كما يطلبه هو مني، فسأله يا هادي الشنين مندوب كوكس أيقبل هذا لنفسه؟ أم يرى أن لا كلام بيننا إلا ساحة القتال كما أعتقده أنا الآن؟
عجمي مع بداية تحركاته كان مسنودا من الأمير الفارس سعود بن رشيد “بوخشم” كما ذكره القنصل البريطاني بأن المقابلة بينهم جرت في سوق الشيوخ عام ١٩١٤م وأهداه حصانا وفرسا وخمسمائة ليرة عثمانية وأهدى كل قائد لواء من شيوخ المنتفق حصانا.
استمر عجمي السعدون في مساندة الجيش العثماني بعد انسحابهم من البصرة وساندهم في الشعيبة وحصار كوت العمارة وكان حلقة وصل بين الإمارة في حائل والقوات العثمانية يمدهم بالمعونات والسلاح وحتى بعد هزيمة الدولة العثمانية وتوقيع معاهدة مودروس عام ١٩١٨م لم يتخلى عن العثمانيين، ثم رحل إلى إسطنبول تاركا الأملاك والحكم والوجاهة في العراق ولكنه لم يترك كرامته وعزته ووفائه.
ومنحه الأتراك قرية (قرموش) في مدينة أورفة ولم يعود للعراق حتى بعد العفو الشامل عام ١٩٢١م، هكذا تكون المواقف عندما يقف الكبار.
محمد خليف الثنيان
باحث في دراسات الشرق الأوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق