د. محمد الجوادي
من عجائب التاريخ الإنساني أن الإمبراطورية التي تكونت أو تجمعت في يد الإمبراطور الروماني المُقدٌس كارلوس الخامس (1900 ـ 1558) كانت تملك درجات غير مسبوقة من أربعة عناصر: الاتساع والقوة والتعصب والشر، وكانت حصيلتها من هذه العناصر الأربع لو لم يوقفها غيرها عند حدها كفيلة بأن تُعيد الحضارة الإنسانية كلها خُطوات كبيرة إلى عصور ما قبل التاريخ، أو فلنقل العصر الحجري.
كان هذا الإمبراطور الشاب القوي رجل عُنف وتعصٌب وسلاح وسيطرة، وكان بحكم مسار حياته ضيٌق الأفق، مُعتزٌا بالقوة والجبروت، وكان هو نفسه نتاج نسب التعصٌب مع التعصٌب، وقد آلت إليه مكونات هذه الإمبراطورية بطريقة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الإنساني كله فقد ورث إمبراطوريات أجداده الأربعة على نحو توالت المفاجآت فيه فأصبح قبل أن يصل العشرين من عمره صاحب أول إمبراطورية يُطلق عليها عن استحقاق التعبير البلاغي القائل بأنها لا تغيب عنها الشمس، وقد بدأت هذه الإمبراطورية تتكون له وتعده بأن يكون صاحبها حين كان لا يزال في الخامسة من عمره .
ومن دون أن نشغل القارئ إلا بالقدر القليل من التفصيلات السياسية والجغرافية المُرتبطة بالتاريخ فإننا سنُلخٌص تكوين هذه الإمبراطورية الضخمة التي كانت كفيلة بإرجاع الإنسانية كلها إلى عصور الظلام لولا هذا التحالُف النبيل بين سليمان القانوني (خليفة المسلمين) وفرنسوا الأول (ملك فرنسا) وهو التحالف الذي تحدٌثنا عن نشأته في مدونة سابقة وذكرنا أنه كان بمثابة السبب في بدء نهضة فرنسا الحضارية التي لا تزال بها مُتفوٌقة على إسبانيا والبرتغال على الرغم من اتساع إمبراطورية كارلوس الخامس، وهو ما يدُلٌنا على أن للتحالفات الذكية آثارا حضارية تفوق النصر العسكري (أو الهزيمة) بمراحل، وربما كان المثل الذي نضربه هو أبرز دليل على انتصار رؤية الفهم الحضاري للتاريخ في مُقابل الفهم الاستعماري أو العسكري المرتبط برُقعة الأرض والنفوذ.
بتأسيس وبناء قاعدة طولون البحرية عاشت أوربا والعالم القديم استقرارا حقيقيا قائما على توازن القوى، كما انتقلت الحضارة إلى فرنسا بينما ظلت جاراتها أقل حظا من التعاون الحضاري مع المسلمين |
من الجدير بالذكر أن سليمان القانوني كان قد استطاع تحقيق نجاحاته المُتعدٌدة الكثيرة في وجود كارلوس هذا إلا نجاحا واحدا لم يتمكن منه سليمان القانوني وهو فتح فيينا وهي المعركة التي أخرت تقدم أوربا قرنين من الزمان. أما المعركة الحضارية الفاصلة التي أوقفت طُغيان كارلوس للأبد فهي معركة 1543 البحرية التي قادها القائد خير الدين بربروس 1478- 1546 لإنقاذ فرنسا من كارلوس الخامس وتحرير مدينة نيس فخر المدن البحرية الأوروبية جميعا، وقد كان أسطول العثمانيين في هذه المعركة يضمٌ مائة سفينة، وثلاثين ألف جندي وكان من حظهم وحظ الإنسانية الفوز بالنجاح في تحرير مدينة نيس من جيوش الرومان والمتحالفين معهم وطردهم من هذه المنطقة الساحلية.
ونتيجة لهذه المعركة ودعما للانتصار الذي تحقٌق فيها بالتحالف بين العثمانيين والفرنسيين فقد عرض الملك فرانسوا الأول بذكائه على العثمانيين إقامة أول قاعدة بحرية استراتيجية ذات قيمة تاريخية وهي القاعدة العثمانية في مدينة تولوز الفرنسية، التي عرفتها أدبيات المسلمين باسم طولون، وذلك في مقابل مساعدة الفرنسيين للعثمانيين في تحرير تونس من اعتداء الإسبان.
وبتأسيس وبناء قاعدة طولون البحرية عاشت أوربا والعالم القديم استقرارا حقيقيا قائما على توازن القوى، كما انتقلت الحضارة إلى فرنسا بينما ظلت جاراتها أقل حظا من التعاون الحضاري مع المسلمين الذين كانوا في ذلك الوقت أكثر تقدٌما من غيرهم. ولولا مشاركة العثمانيين والبحرية العثمانية لابتلع كارلوس الخامس مُلك فرانسوا الأول رغم ما كان تم بينهما من نسب حيث تزوج فرنسوا الأول من أخت كارلوس 1530 بعد انتصاره عليه وأسره له 1525 .. بل ربما كان ممكنا لهذا النسب أن يكون فرصة الانطلاق لكارلوس ليُضيف فرنسا إلى مُمْتلكاته التي آلت إليه مُعظمها بالوراثة وحكم النسب.
والشاهد أن المتأمل لتفصيلات الحياة السياسية الأوربية في القرن السادس عشر وهي أولى الفترات المُعاصرة لازدهار الدولة العثمانية يستطيع أن يرى وأن يدرك أن الحضور السياسي الفاعل لهذه الدولة وقوته كان هو الذي حمى الإنسانية والعالم القديم وأروبا من أن تقع فريسة سهلة للتعصٌب الديني الذي كان يتسارع في خُطواته بعد سيطرة الملكة إيزابيلا وزوجها فرناندو على إسبانيا بعد إخراج المسلمين من الأندلس، وقد سوٌلت النجاحات الأندلسية لإيزابيلا أن تُخطط حياتها ومُصاهرتها الملكية بحيث تُسيطر على القارة الأوربية بأكملها ونجحت في هذا إلى حد بعيد.
فقد تمكنت إيزابيلا بالنسب والمُصاهرة هي وسُلالتها من الاستيلاء على عروش قشتالة وأراجون وألمانيا والنمسا والبرتغال وإيطاليا وبريطانيا والدنمرك والسويد والنرويج والمجر وبوهيميا وكرواتيا وهولندا وبورجندي..الخ، ولم يخرج من هذه الغابة المُتشابكة من الصلات العائلية جزئيا إلا فرنسوا الأول رغم أنه كان مُشتبكا بها اشتباكا غير وثيق في موضعين، وقد عاونه على هذا الخروج عامل واحد فقط هو قوٌة العثمانيين والسلطان سليمان القانوني المعروف عند الأوربيين باسم سليمان العظيم. وقد كان عظيما حقا ولولا وقوفه إلى جانب فرنسا وفرنسوا الأول لمضت الأمور في سبيل سيطرة الفكر المُتعصٌب إلى حد انفراده بالحكم في كل أوربا ومن ثم الدخول إلى عصر انفراد الكهنوت بالسيطرة التامة على كل شيء بما يكفُل تسريع العودة إلى العصر الحجري في عقد أو اثنين من السنوات.
لكن إرادة الله مكٌنت فرنسوا الأول أن ينجو بفرنسا ومن ثم أوربا من هذا النفق المظلم بتعاونه وتحالفه مع سليمان القانوني وهو التحالف الذي حافظت عليه الدولتان قرابة ثلاثة قرون حتى قامت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق