حوار مجتمعي في قلب المحرقة
بعد أكثر من ست سنوات من صناعة الجحيم في كل مكان على أرض مصر، وتحت سحابات سوداء من دخان الهولوكوست السياسي والاجتماعي، يفتتح نظام عبد الفتاح السيسي احتفالية صاخبة في بهرجتها المبتذلة، ويطلق عليها "الحوار المجتمعي"، بقصد ترقيع جريمة إحراق الدستور بغشاء أخلاقي فاسد.
السيسي يحاور السيسي، في حضور حشد هائل من السيسيين، من مختلف الأحجام والألوان، فيما يشبه حوارًا للطرشان والعميان والخرس، إذ يتبارى المتحاورون ويتصارعون، بمنتهى الهمة، على لقب الأكثر ولاءً لرغبات الزعيم.
وفي هذا المهرجان المبتذل، ترى كل وجوه أعداء ثورة يناير، من رموز نظام حسني مبارك، المستدعاة من المخازن والأرشيفات، إلى بارونات العصر الجديد من حيتان البيزنس التجاري والإعلامي، فيما تستعر الحرب الإعلامية على كل من هم خارج هذا السياق المتطرّف في فاشيته و نزعته الإقصائية، الاستئصالية.
تحتشد الرؤوس الكبيرة في دولة السيسي الأوليغاركية، من عتاة رجال الأعمال والإعلام وترزية القوانين والدساتير، لصناعة عرس استبدادي يليق بطاغيةٍ يرى في نفسه روح الإله وروح الشعب، والملهم الذي، وحده، يعرف، بينما الجميع في جهالتهم يتيهون ويرفلون في نعيم ادعاء فرادته وقدراته الخارقة.
يتبادلون أنخاب ثورة مقتولة وديمقراطية مغدورة، في مقرّهم الفندقي الوثير، حيث تلمع الفلاشات، بينما على الجانب الآخر من خريطة المجتمع، تتصاعد أدخنة حريق يلتهم أجساد العمال المطحونين في مجمع صناعي، على أطراف مدينة السويس، بينما حريق محطة مصر، الذي التهم أجساد عشرات المواطنين، لا تزال رائحته في الجو، ثم يردّدون، في ابتسام أجير، أن المجتمع المصري يؤدي صلاة الحوار، من أجل مزيد من نعيم الطغيان والاستبداد.
وقبل أن يبدأ الحفل، كانت عملية افتراس الرافضين للمسخرة قد انطلقت في وسائل الإعلام، بإشعال حريق"الأخونة والتخوين"، مستهدفة أعداء الوطن في الخارج، من دون تفرقةٍ بين معارض رخو، يتحسّس حروفه بقفاز أملس، قبل أن يكتب كلمةً ضد عبث النظام بدستوره، أو معارضٍ صريح، يتخذ موقفًا صلبًا ومبدئيًا ضد سلطة الانقلاب منذ اليوم الأول لإطاحتها النظام السياسي الذي جاءت به ثورة يناير.
الكل، خارج قاعة عرس الطغيان، إخوان وخونة ومتآمرون، لا فرق بين من لا يزال يكابر ويناور في الاعتراف بجناية قفزة 30 يونيو/ حزيران المجنونة على البلاد والعباد، ومن يعلن بوضوح إن كل هذا الجحيم بدأ مع لحظة الاستسلام لغواية الانتقام ممن كان شريكًا كتفًا بكتف ويدًا بيد.
منذ اللحظة الأولى، عمدت سلطة عبد الفتاح السيسي على تغذية الاحتراب بين مكونات المجتمع المصري، بتصنيع حالةٍ مقصودةٍ من الانقسام المجتمعي والاستقطاب السياسي، بحيث تبقى كل الأطراف في حالة عداء ضد بعضها بعضا، ما يجعلها تتآكل ذاتيًا، فيما يتغذّى الانقلاب وينمو وتنتفخ عضلاته القمعية، مستمدًا كل هذا الصلف الاستبدادي من أكذوبةٍ ساقطة، منطقيًا وعمليًا، اسمها "ثورة 30 يونيو 2023".
والآن، أزعم أنه لم يعد هناك مجال للميوعة في الآراء والرؤى، والرخاوة في المواقف، ولا أمل في مستقبلٍ إذا كان الحوار في معسكر الرفض سيمضي بالطريقة ذاتها، حوار طرشانٍ وعميان هوى سياسي، إذ صار كل شيءٍ واضحًا حد الابتذال، مع نظامٍ لا يخفي فاشيته، ولا يخجل من نزعته الاستئصالية، فقد أعلنها السيسي صريحةً قبل أكثر من عامين "أي شخص ينتمي لأي تيار سياسي أو ديني أو طائفي معلش يستريح شوية، ولو اكتشفنا شخص بالنوع ده هنبعده، ليس فقط من الجيش والشرطة بل من الدولة المصرية ككل".
هو يقول بصوت لا يحتمل التأويل إن مصر له وحده، ومجموعة المتحاورين من أجل تأبيد طغيانه، فوق الجثث وتحت دخان المحرقة، وكل من هو خارج هذه الخيمة من الأعداء المتآمرين الخونة، متوعدًا بأن تمتد ألسنة الجحيم إليهم، أينما وجدوا، وراء البحار والمحيطات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق