الثلاثاء، 19 مارس 2019

أوراق الربيع (44).. الربيع الجزائري المتجدِّد ومآلاتُه

"أوراق الربيع (44).. الربيع الجزائري المتجدِّد ومآلاتُه

محمد مختار الشنقيطي
أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان

مرت منذ نحو أسبوع الذكرى الثانية والستين لاستشهاد العربي بن مهيدي (1923-1957) أحد أعظم القادة الأبطال في حرب التحرير الجزائرية، وأحد شهدائها الأوائل. وكان الشاعر العراقي المبدع عبد الوهاب البياتي (1929-1999) رثى الشهيد مهيدي بقصيدة معبِّرة يقول فيها:
ولدتْــهُ الريحُ والأرض وأشواق الطفولهْ
وعذاباتُ ربيعٍ في خميله
وانتصاراتٌ وحُــمَّى وبطوله..
في ليالي بعْــثـِـها شمسُ الجزائرْ
تلدُ الثائرَ في أعقاب ثائرْ."
   
ويبدو أن تعبير الشاعر العراقي العظيم لا يصدُق على الأفراد الأفذاذ فقط، من أمثال العربي بن مهيدي، بل يصدُق أيضا على الأجيال الجزائرية المتعاقبة. فقد تضمَّنت القصيدة إشارات عميقة إلى "عذابات الربيع" ، وإلى أرض الجزائر الوَلود التي لا ينقطع نسلها من الثوار الأحرار. وقد ينظر بعض المحللين السياسيين إلى الحراك الشعبي في الجزائر اليوم على أنه مجرد مظهر من مظاهر الصراع داخل الدولة العميقة الجزائرية، لكننا نراه استمراراً لروح التحرر العميقة في الذات الجزائرية، بغَضِّ النظر عن مآرب الدولة العميقة وألاعيبها.

لقد أثمرتْ أرض الجزائر أعظم ثورة تحرر وطني عرفتها أرض العروبة والإسلام خلال القرن العشرين، ثم أثمرتْ أول ربيع عربي عام 1988 يسعى إلى التحرر من الاستبداد والاستعمار السياسي، الضارب بأطنابه على المجتمعات العربية. وها هي الجزائر اليوم تتصدر الموجة الثانية من الربيع العربي. فما هي مآلات هذا الربيع الجزائري المتجدِّد، وما هي فرصُه في التحرر من عذاباته، والوصول إلى برِّ الأمان، رغم العواصف المحيطة به من كل جانب؟

لقد اقتلعتْ ثورة المليون شهيد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي من أرض الجزائر بتضحيات جِسامٍ، وملاحمَ بطولية، وقضتْ على حلمه في البقاء في تلك الأرض التي اغتصبها قرنا وثلث قرن. ولم تكن ثورة التحرير الجزائرية مجرد ملحمة عسكرية عظيمة، بل كانت أيضا نصراً سياسيا مؤزَّراً، وثورة دبلوماسية ناجحة، أدارها الثوار الجزائريون بذكاء. وقد ألَّف في ذلك الأكاديمي الأميركي ماثيُو كونْـلِي -أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا في نيويورك- كتابه: "ثورة دبلوماسية: صراع الجزائر من أجل الاستقلال وجذور حقبة ما بعد الحرب الباردة." وهو كتاب قيِّمٌ كان مقرَّرا عليَّ منذ أكثر من عَقْد من الزمان وأنا طالب في جامعة تكساس الأميركية.

ثم بدأ الربيع الجزائري الأول قبل الربيع العربي بثلاثين عاما، في شكل انتفاضة شعبية تفجرت في شهر أكتوبر عام 1988. وبعد فترة قمع سقط فيها المئات، قبلت السلطة العسكرية الجزائرية بقيادة الرئيس الشاذلي بن جديد النزول عند إرادة الشعب، والسماح بانتقال ديمقراطي حقيقي.  كانت تلك خطوة شجاعة وحكيمة من الرئيس الشاذلي، الذي كان رجلا وطنيا صادقا، ومدركا أكثر من رفقائه العسكريين الآخرين أن التغيير الديمقراطي أصبح حتميا.

لكن الشاذلي لم يكن يملك –على ما يبدو- الصرامة القيادية، ولا الحاسَّة السياسية، بل كان رجلا ليِّن العريكة، ضعيف البصيرة السياسية. فلم يستطع دمج قيادة الجيش في المسار الإصلاحي وإقناعها به، ولا استطاع أن يرغمها على قبول الإصلاح بهيبة المنصب وحزْم القرار.

وينضاف إلى ذلك أن الربيع الجزائري الأول الذي تفجَّر عام 1988 جاء سابقا لأوانه. فلم تكن الشروط الثقافية والظروف الاجتماعية قد نضجت يومها للثورات السياسية في المجتمعات العربية، ولا كانت وسائل الإعلام الفضائي والتواصل الاجتماعي متوفرة، لتوسيع مساحة الوعي، وتعميم ثقافة الثورة، وصيانة روحها في شكل إرادة جماعية، قادرة على مصاولة الاستبداد.
  
وقد مكَّنتْ هذه الظروف المتضافرة الجنرالات الجزائريين المعارضين للمسار الديمقراطي من الانقلاب على الديمقراطية، وعلى الشاذلي نفسه، فأدخلوا الجزائر بذلك في أتون حرب أهلية أليمة دامت عشر سنين. وأسهم دخول جماعات السلفية الجهادية على الخط في اشتعال الوضع أكثر. وتحول الخلاف السياسي إلى حرب وجودية بين أمراء الحرب من جنرالات الجيش المتجبرين، وقادة الجماعات السلفية العدمية التي تجاوزت الخروج على السلطة الظالمة، إلى الخروج على الشعب المظلوم. وهكذا أضاعت الحرب الأهلية فرصة تاريخية على الشعب الجزائري لقطف ثمار ثورة التحرير الوطنية العظيمة. وترجع جذور هذه الخسارة المؤسفة إلى أمور أربعة:
  
أولهاضعفُ الوعي السياسي لدى بعض قادة "جبهة التحرير الوطني" التي قادت حرب التحرير ضد فرنسا، وغفْلتُهم عن الترابط بين تحرير الأوطان وحرية الإنسان. فقد كان أداء أولئك القادة في حرب التحرير رائعا، لكنهم وقعوا في أسْر نموذج الحكم الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية، ومنطق الدولة الاستبدادية الستالينية، وتحكمت فيهم الأنانية السياسية بعد الاستقلال، بحجة الشرعية التاريخية والإسهام في حرب التحرير. وقد كان عليهم استلهام تجربة القوى الوطنية الصديقة لهم في الهند وغيرها في جمْعها بين تحرير الأوطان وحرية الإنسان، أو التعلُّم –على الأقل- من عدوِّهم الجنرال شارل ديغول، الذي قاد حرب تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، لكن ذلك لم يجعله يصادر حق الشعب الفرنسي في الاختيار، وانتظر حتى اختاره الشعب رئيسا له عام 1958، أي بعد مرور عشر سنين على تحرير فرنسا.

ثانيهاضعف الوعي الاستراتيجي والتكتيكي لدى القوى السياسية الجزائرية الساعية للتغيير، وأولها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي فازت في الانتخابات البرلمانية، وكان ينقصها الكثير من النضج والحكمة السياسية. فغلب عليها الحماس الذي لا تُسنده خبرة متراكمة، ولا تؤطِّره قيادة ذكية، وعوَّلت الجبهة على الحشد الكميّ المهلهَل، دون انتباه إلى خطورة "الأقلية الساحقة" التي تملك القوة النوعية، ويسندها ظهير دوليٌّ موتورٌ، ومعادٍ لحرية الشعب وهويته. فجاء أداء "الجبهة" مزيجا من الخطاب المستفزِّ والبلاهة السياسية. ورغم بروز قيادات ذكيَّة من أمثال الشهيد عبد القادر حشاني، ومحاولتهم استدراك تلك المزالق، فقد كان السهم قد خرج من القوس، وحصل الاستئصاليون على مبتغاهم من الذرائع للحرب على خيار الشعب.

ثالثهااختراق فرنسا للنخبة العسكرية والأمنية والسياسية في الجزائر. وأخطر أوجه ذلك الاختراق كان اختراقها للجيش الجزائري. وقد كان بعض الجنرالات الانقلابيين من ذوي الخدمة السابقة في جيش الاحتلال الفرنسي، والهوى الثقافي الفرنسي. وقد تحدث الضابط الجزائري السابق في القوات الخاصة الجزائرية، حبيب سويدية، في كتابه (الحرب القذرة) عن هؤلاء، ووصفهم بأنهم "ضباط سابقون في الجيش الفرنسي، لم يفرّوا منه إلا في الشهور الأخيرة من حرب التحرير، ولم يجلبوا للجيش وللجزائر سوى الدمار والشقاء." (ص 205).
وبعض هؤلاء -مثل الجنرال خالد نزار- خدموا وخدم آباؤهم من قبلهم في جيش الاحتلال الفرنسي.  وقد كان لخالد نزار اليد الطولى في انقلاب عام 1992، والمذابح التي نتجت عنه.

التغيرات العميقة التي حدثت داخل الجزائر وفي الإقليم تصب كلها في مصلحة الإصلاح السياسي الجذري في الجزائر، وتجعل تكرار المسار الدامي الذي حدث مطلع التسعينات غير وارد
رابعها: دور أجهزة الاستخبارات العسكرية الموالية لفرنسا. وقد كان يقودها الجنرال محمد مدْين المشهور بتوفيق (رئيس المخابرات العسكرية) الذي وصفته مجلة الإكونومسيت البريطانية عام 2012 بأنه "أقوى رجل في البلاد" الجزائرية. كما شرح حبيب سويدية ما كان يفعله توفيق من "عمليات الاختراق والتسلل، والعمليات النفسية والإعلامية" (الحرب القذرة، ص 76) أثناء الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات. ولا يزال توفيق إلى اليوم نافذا في الجزائر، وهو يقود أحد أجنحة الدولة العميقة الساعية إلى وراثة بوتفليقة، بدعم من فرنسا ومعسكر الثورة المضادة العربية.

وعلى ذكر الثورة المضادة العربية يحسن بنا التوقف عند قصة معبِّــرة ذات صلة بهذا الموضوع: يتحدث الجنرال خالد نزار في مذكراته الصادرة باللغة الفرنسية عام 2004، عن لقاء ضمَّه مع الملك فهد بن عبد العزيز مطلع التسعينات. ويكشف هذا الحديث الموقف المبدئي الثابت للسلطة السعودية من حرية الشعوب العربية. وهو موقف لم يتغير منذ سبعين عاما، أي منذ أن أجهض الملك عبد العزيز ثورة (الأحرار اليمنيين) عام 1948، واغتال سعيهم إلى تأسيس أول ملكية دستورية في بلاد العرب. ويتلخص هذا الموقف في أمور ثلاثة:

1- الدعم غير المشروط للحكام المستبدين حين تسعى شعوبهم إلى التخلص من استبدادهم.
2- تناسي كل خلاف سياسي مع أولئك الحكام حتى يتجاوزوا التحدي الشعبي لسلطتهم الجائرة.
3- بذْل المال بلا حساب في دعم المستبدين، حتى ولو كان الشعب السعودي في مسيس الحاجة إليه.

يقول الجنرال خالد نزا ر في مذكراته:
"حين كنت عضوا في المجلس الأعلى للدولة، تلقيتُ دعوة من خادم الحرمين الشريفين، صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، بعد وفاة محمد بوضياف مباشرة. واحتراما للمجلس الأعلى للدولة أجبتُ بأني أفضِّل أن تكون زيارتي ضمن وزارة الدفاع [الجزائرية]، وأن أتلقى دعوة رسمية من وزير الدفاع [السعودي]، الأمير سلطان بن عبد العزيز. وقد استغليت فرصة تخرُّج دفعة من الطيارين [في السعودية] من بينهم خمسة جزائريين، وقبلتُ الدعوة. وفي الرياض التقيتُ بملك السعودية صاحب الجلالة الملك فهد مدة ساعتين، حرِص فيها على أن يوضح لي موقفه من الإسلاميين ومن الأزمة التي كانت تعيشها الجزائر... قال لي الملك: إنهم ليسوا مسلمين! ثم ردَّدَ ثلاثا: العصا، العصا، العصا)"!! (مذكرات الجنرال خالد نَزَّار، بالفرنسية، ص 270).

وقد أظهر الملك فهد حفاوة خاصة بخالد نَزَّار، وخرج معه مودِّعا -خلافا للبروتوكول- كما يقول الجنرال نفسه. ولم يعد الجنرال من عنده خاويَ الوفاض، بل كتب يقول: "وعدتُ إلى الجزائر ومعي عدد من المشاريع، تطوَّع هذا البلد [السعودية] بتمويلها، رغم أنه كان مثقلا بأعباء حر ب الخليج [1991] التي خرج للتو من محنتها." (ص 271).

والطريف أن الجنرال خالد نزار يلوم الإعلام الجزائري على انتقاده للسعودية أحيانا، قائلا إن السعودية "لم تتدخل قط في شؤوننا الداخلية خلال تلك العشرية المشحونة بالأحدث المأساوية" (ص 271). وكأن كل ما ذكره الجنرال في مذكرته ليس تدخلا في الشأن الداخلي الجزائري: من لقائه مع الملك فهد لنقاش خلاف سياسي داخلي، إلى حرب السلطة السعودية على مطامح الشعب الجزائري للحرية، واستهدافها لقوى سياسية جزائرية ذات حضور اجتماعي كثيف، وتمويلها مشاريع تخدم حكم الجنرالات!

كان في وُسْع الرئيس بوتفليقة أن يقود هذا المسار حينما نجح -في سنوات حكمه الأولى- في تحقيق المصالحة وتضميد الجراح، لكن إغواء الكرسيّ وتأثير الفسَدة المحيطين به حرَمَاه من هذه الخدمة الجليلة لشعبه
فما تطمح إليه الثورة المضادة العربية اليوم -ومن ورائها الظهيرُ الغربي الذي يوظفها في هذا المسعى- هو استمرارٌ لدور السعودية في العشرية الحمراء الجزائرية، لكن بوسائل جديدة، هي ركوب موجة الربيع الجزائري الحالي، بما يشبه الصيغة المصرية من الثورة المضادة التي ركبت موجة السخط من ضعف أداء الرئيس المنتخَب محمد مرسي، وحولت ذلك السخط إلى مشروع انقلاب دموي عاد بمصر عقودا إلى الوراء على سلَّم التطور السياسي. لكن التغيرات العميقة التي حدثت داخل الجزائر وفي الإقليم تصب كلها في مصلحة الإصلاح السياسي الجذري في الجزائر، وتجعل تكرار المسار الدامي الذي حدث مطلع التسعينات غير وارد، رغم أنف الثورة المضادة:

1- فالجيش لا يستطيع تكرار سيناريو انقلاب 1992، لأن ذلك سيؤدي إلى انشطاره شطرين، فالضباط الشباب والجنود ينتمون إلى جيل 2018 أكثر من انتمائهم لجيل 1988، ولن يواجهوا الشعب بالنار خدمة للفسدة من عجائز الجنرالات والسياسيين ورجال الأعمال.
2- وفرنسا التي أخذتْ ثأرها من شعب الجزائر عام 1992، وتواطأتْ في تحويل المسار الديمقراطي الجزائري إلى حرب عدمية، لا تملك الإمكان لتكرار هذا السيناريو اليوم، ولا من مصلحتها محاولة ذلك، لأنها تدرك أن ثمنه سيكون فادحا عليها أمنيًّا وديمغرافيًّا.

3- وأوروبا التي تواطأتْ مع انقلاب 1992 تخشى اليوم من تفجُّر الوضع في الجزائر، الدولة المركزية على الضفة الجنوبية للمتوسط، خصوصا مع ما توجهه أوروبا من تحديات أمنية وديموغرافية عبر الساحل الليبي، ومع ظلال الوضع المضطرب في مصر وسوريا.

4- ونخبُ "جبهة التحرير الوطني" التي تواطأ كثير منها مع الجنرالات مطلع التسعينات قد شاخت وهزُلتْ، وفقدت الكثير من مصداقيتها وبريقها التاريخي. كما أن بعضا منها خاب ظنه ولم ينل ما كان يطمح إليه، ولم يصله من غنائم الجنرالات سوى الفُتات.
  
5- والقوى السياسية الإسلامية الجزائرية أدَّبتْها المحن، وأنضجَها لهيبُ الحرب الأهلية المريرة، فأصبحتْ أكثرَ واقعية، وأعمقَ حاسَّةً سياسيةً، وأبعدَ عن العنتريات والمواجهات، وأحرصَ على لَمِّ الشمل وجمْع الكلمة، ضِمْن عقد اجتماعي يسَع الجميع.

6- والثورة المضادة العربية التي وقفتْ ضد الربيع الجزائري الأول (كما رأينا في حديث الملك فهد مع الجنرال خالد نزار) أصبحت مُنهكة ومستنزفة ماليا وسياسيا، فليس لديها ما تقدمه لوأد الربيع الجزائري الحالي، سوى الدعاية الإعلامية، والألاعيب الدبلوماسية.
  
إن ما تحتاجه الجزائر اليوم هو ميثاق أخلاقي وطني جديد، يضمن العدل والحرية لجميع أبنائها: إسلاميين وعلمانيين، عربا وأمازيغاً، عروبيين وفرانكوفينيين. كما تحتاج الجزائر مرحلة انتقالية شفَّافة، متفقا عليها بين القوى السياسية والاجتماعية دون التفافٍ على إرادة الشعب، ثم موافقة قيادة الجيش على الانتقال السلس إلى الديمقراطية بعيدا عن الوصاية التقليدية للجيش على المجال العام. وقد كان في وُسْع الرئيس بوتفليقة أن يقود هذا المسار حينما نجح -في سنوات حكمه الأولى- في تحقيق المصالحة وتضميد الجراح، لكن إغواء الكرسيّ وتأثير الفسَدة المحيطين به حرَمَاه من هذه الخدمة الجليلة لشعبه. وما أُعلن عنه باسم بوتفليقة هذا الأسبوع التفافٌ على إرادة الشعب، وليس استجابة لها.

ومن شروط نجاح العقد الاجتماعي الجزائري الجديد إبعاد التأثير الخارجي عن هذا المسار حتى لا يتم العبث به، ولا يتضمن حيفاً أو تأليباً ضد أيٍّ من مكونات الشعب الجزائري.  وقد بدأت بعض القوى الدولية والإقليمية بالفعل تتنافس على تقديم خياراتها لوراثة بوتفليقة: فأميركا -ومن ورائها الثورة المضادة العربية- تفضِّل الدبلوماسي السابق الأخضر الإبراهيمي (ليس له صلة بأسرة العالِم الإصلاحي البشير الإبراهيمي)، رغم فشله في مهمته الدولية ذات الصلة بالثورة السورية، وفرنسا -ومعها امتداداتها في الداخل الجزائري- تفضِّل وزير الخارجية السابق رمضان العمامرة، رغم أنه سعى لإنقاذ القذافي أثناء الثورة الليبية، وشارك في إضفاء الشرعية على انقلاب الرئيس الموريتاني عزيز، ثم على انقلاب الرئيس المصري السيسي، من خلال استغلال منصبه رئيساً لمجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي.  
  
إن مفتاح نجاح الحصانة ضد هذا التأثير الأجنبي المتكالب على الجزائر اليوم، وضد نوازع الإقصاء والاحتكار السياسي لدى النخبة الشائخة في الجزائر، هو ثقة الحراك الشعبي الجزائري أن رياح التاريخ في صالحه، وإدراكه للسياقات الإقليمية المعينة على الانتقال الديمقراطي في الجزائر.. ثم ظهور قيادات سياسية ومدنية للحراك، تجمع بين الصلابة المبدئية والمرونة التكتيكية، وتسعى إلى كسب كل القوى الوطنية النزيهة، وجزءاً من الدولة العميقة -خصوصا الجيش- إلى صفها.
  
وعوداً على بدء نقول: ورد في العهد القديم أن يوشع ابن نون نادى على الشمس: "أيتها الشمس قفي"!! وذلك هو منطق الثورة المضادة اليوم في الجزائر وظهيرها من الثورة المضادة العربية، ومن القوى الدولية الطامعة، المُصرَّة على إبقاء شعوبنا في نير الاستبداد. لكن شمس الجزائر لا تزال -وستظل- دائبةً في سيرها. وما أبلغَ الشاعر البياتي حين كتب في رثاء الشهيد العربي بن مهيدي الذي صدَّرنا بمقطع منه هذا المقال:
كان مثلي يتألَّمْ
كان سرًّا مُغلقاً لا يَتَكَلَّمْ
كان يعلم..
أنه لا بدَّ هالِكْ
وستبقى بعده الشّمسُ هنالكْ...

وما على أحرار الجزائر اليوم إلا أن يرددوا بإصرار ما كان يقوله الشهيد العربي بن مهيدي لجلاديه الفرنسيين أثناء تعذيبه: "لكم الماضي ولنا المستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق