من راشيل إلى الشاب ويل
نعم، الإرهاب لا دين له، هذه عبارة صحيحة تمامًا، كما أن عبارة "الأديان بريئة من الإرهاب" صحيحة جدًا.
لكن الصحيح أيضًا أن للإرهابيين دين، وما من إرهابي يمارس القتل والدمار على الهوية، إلا ومن ضمن ما تحركه دوافع يراها دينية وعقائدية، حتى وإن كانت الأديان والعقائد، في جوهرها الصحيح، لا تحض عليها.
الإرهاب الذي ضرب في نيوزيلاند كان مسكونًا بنزعةٍ دينية، كما هو مسكونٌ بدوافع عنصرية وثقافية فاسدة، تمامًا كما أن الإرهاب الذي يمارسه الدواعش يتمسّح بالدين، أو بالأحرى، يتمسّح بمفهوم فاسد للدين والعقيدة.
غير أن أوغاد السياسة والثقافة، من الغربيين، ومن العرب الغارقين في الدونية الحضارية والثقافية على السواء، ينطلقون من إدانة إرهاب الدواعش إلى إدانة الدين الإسلامي ذاته، واتهام المليارين إلا قليلًا من المسلمين بالإرهاب والعنف.
لن نفعل مثل هؤلاء السفلة، ونعتبر أن المسيحية مدانة، ومتهمة، في جريمة نيوزيلاندا، لكننا بمعيارهم لا نجد حرجًا في وصف المجرم الذي نفذ المذبحة في المصلين داخل المسجد بأنه "إرهابي متأمسح"، كما أن من يمارس الإرهاب بناء على فهم فاسد للإسلام بأنه "إرهابي متأسلم" من دون أن نذهب إلى اتهام المسيحية بالجريمة، كما يذهب سفلة القوم إلى اتهام الإسلام بها.
تأتي جريمة "الإرهاب المتأمسح"في نيوزيلاندا، ونحن نتذكّر اليهودية الرائعة في إنسانيتها واستقامتها الروحية، الأميركية راشيل كوري، بعد مرور 16 عامًا على استشهادها تحت جرافةٍ يقودها صهيوني قاتل في أرض فلسطين المحتلة، وهي تتصدّى لهمجية المعتدي، وهو يدهس بجرافته أجساد الفلسطينيين العزل، ويهدم منازلهم وبيوتهم.
يتذكّر راشيل كوري، ويعرف فضلها، ويدعو لها بالرحمة، كل مؤمن حقيقي بالله، وكل متدين على الوجه الصحيح، وكل منحاز للإنسانية وللعدل وللمحبة بين البشر، ويمتد سرادق العزاء فيها بطول خريطة العرب وعرضها، يذكرها المسلمون، كما يذكرها المسيحيون، بكل الاحترام والأسى على رحيلها المفجع، تحت جنزير الجرافة التي يقودها إرهابي متهود.
هذا الحزن الشفيف الذي يدمي قلوب العرب، مسلمين ومسيحيين، على استشهاد راشيل كوري، يؤكد أن الإنسانية لا تتجزأ، وليست حكرًا على دين، أو قومية، أو حضارة، وأن من يصنع فوبيا الأديان هم السياسيون والمثقفون المنحطون الذين أسسوا لاستخدام الأديان، والاتجار بها، للوصول إلى غاياتٍ قذرة، للسطو على الأوطان واستعباد الشعوب.
مثل راشيل كوري، حالة الشاب الأسترالي المسيحي، ويل كونللي، الذي رشق السياسي العنصري المتطرّف، باسم المسيحية، فريزر أنينج، ببيضة في رأسه، وهو يهرف بكلامٍ ساقط يتهم الديانة الإسلامية، ومئات الملايين من المسلمين بالإرهاب، ويعتبرهم في مرتبة أقل على سلم البشرية، ليقدّم الشاب الصغير مثلًا جديدًا على التحضر الإنساني، والاستقامة الأخلاقية، وهو يُسكت ذلك البوق الناضح بالعنصرية البغيضة، والاستعلاء السافل، باسم الدين.
في الإجمال، لا يمكن لعاقل أو منصف أن يحمّل الأديان مسؤولية الداعشية الملتحفة بالدين، سواء داعشية الشرق، كما يجسّدها أبو بكر البغدادي وعبد الفتاح السيسي وبشار الأسد ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد، وأتباعهم من مثقفين وسياسيين وإعلاميين، أو داعشية الغرب، كما يجسّدها إرهابي نيوزيلندا، وتجدها في خطاب دونالد ترامب، ورئيس وزراء إيطاليا، والرئيس الفرنسي ماكرون، الذي يشير بأصابع الاتهام إلى الإسلام، كلما انفجر إطار سيارة أو اسطوانة غاز في مطعم.
والحال كذلك، من المهم أن نسأل مع شيخ الأزهر، كما جاء في بيانه الأخير:
ماذا تعني كلمة "التطرّف اليميني"؟
ولماذا يدفع المسلمون وحدَهم ثمنَ ما يُسمَّى "التطرّف اليميني"، وما يُسمونه التطرّف الإسلامي من دمائهم وشعوبهم وأراضيهم؟ أما آنَ الأوان أن يكفَّ الناس شرقًا وغربًا عن ترديد أكذوبة "الإرهاب الإسلامي"؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق