الثلاثاء، 19 مارس 2019

الموجة الثانية من الثورات العربية

الموجة الثانية من الثورات العربية

العسكريون أعوان فرنسا يحكمون من وراء واجهات مدنية، وكان التخويف من عودة العشرية الدموية حاضرا، كلما ظهرت أي مطالب بالتغيير
عامر عبد المنعم
يشهد العالم العربي عودة الثورات، وتتدفق الجماهير إلى الشوارع في موجة جديدة من الحراك الشعبي للمطالبة بإسقاط الحكومات، غير مبالية برسائل التحذير من مصير سوريا والعراق، تلك الفزاعة التي دأب الحكام على تصديرها لتخويف الشعوب من الاحتجاج والثورة، والقبول بالصمت والاستكانة.
الموجة هذه المرة رغم أنها تتصاعد في الجزائر والسودان، فإنها تحظى بتعاطف كبير وتأييد في كل العالم العربي، ولا ينظر إليها العرب على أنها حركات احتجاج محلية خاصة بالجزائريين والسودانيين، حيث تتشابه دوافع الجماهير في بلاد العرب وتتساند الشعوب مع سيادة شعور عام بأن قضيتهم واحدة.
كثيرون ظنوا أن الانتكاسة التي حدثت للثورات في الموجة الأولى في مصر وسوريا واليمن وتونس -بدرجة ما- أنهت حلم التغيير الذي يراود الأجيال الجديدة التي لم تعد قادرة على تحمل الاستبداد والفساد الذي بدد الثروات وقضى على آمالها في حاضر ومستقبل يحقق أمانيها وطموحاتها، لكن تحرك الشعبين الجزائري والسوداني قلب الحسابات وأحيا الأمل من جديد.
 كانت الحكومات تتهم الثورات بالعمالة للخارج وأن الجماهير مضحوك عليها من جواسيس وخونة يعملون لصالح العدو، لكن السنوات القليلة منذ الموجة الأولى آواخر 2010 وأوائل 2011 أثبتت أن الاختراق الحقيقي كان في طبقات الحكم، وأظهرت مجريات الأحداث أن الشعوب تواجه حكومات تابعة للدول الاستعمارية وتجاهر بذلك.
الجزائر وأعوان فرنسا
تعتمد دوائر الحكم في عالمنا العربي على البندقية في فرض الاستقرار، فالشعوب بطبيعتها المسالمة لا تستطيع الانتصار على القوة النظامية المسلحة، وكانت الجزائر هي المثال المعبر عن فشل العنف المسلح في التغيير السياسي، عندما رفضت فرنسا- المستعمر القديم والحالي - القبول بنتيجة الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فكان الانقلاب العسكري عام 1992 والذي أدخل الجزائر في عقد من الدم قتل فيه نحو نصف مليون جزائري.
شجعت دوائر فرنسا العنف وصنعته، للقضاء على الإسلاميين واستطاعت من خلال أعوانها من قادة الجيش الذين ربتهم عبر برامج التدريب العسكري إحكام السيطرة على الدولة والحفاظ على مصالحها الاقتصادية، واستمرار نهب الثروات النفطية والإبقاء على الشعب يعاني الفقر.
كان العسكريون أعوان فرنسا يحكمون من وراء واجهات مدنية، وكان التخويف من عودة العشرية الدموية حاضرا، كلما ظهرت أي مطالب بالتغيير ودعوات لفتح الباب لتداول السلطة، وظل خزان الغضب يمتلئ مع الوقت، وتواصل الشحن الشعبي حتى اشتعلت الشرارة بسبب إعادة ترشيح بوتفليقه لولاية خامسة رغم حالته الصحية المتدهورة وعدم قدرته على الحركة.
السودان وسوء الإدارة
الوضع في السودان له طبيعة مختلفة، فالرئيس عمر البشير جاء بانقلاب عسكري، وكان أمام حكومة الإنقاذ فرصة كبيرة لتقديم نموذج ناجح في بلد مترامي الأطراف، لديه ثروات هائلة وأرض ومياه تؤهله ليكون مصدر الغذاء لكل الدول العربية، لكن بدأ التصدع مبكرا بالانقلاب على حسن الترابي الذي جاء بالبشير، وكان لهذا الصراع الداخلي آثاره في فشل التجربة.
لقد فقد النظام السوداني العقل المفكر القادر على وضع الخطط لمواجهة التحديات، فتم بناء نظام على ما هو موجود من دوائر فاسدة، فأصبح الصديد في جسم النظام منذ اليوم الأول، وتسببت دوائر الفساد في العاصمة في التدمير وإنهاك الدولة أكثر من الحصار الأمريكي الذي استمر لربع قرن.
من الطبيعي أن يثور السودانيون بعد أن اختفى رغيف الخبز في بلد كان يطلق عليه سلة غذاء العالم العربي، فاستيراد السودان للقمح يكفي للتأكيد على فشل الإدارة وعجزها، وهذا البند وحده كفيل برحيل أي نظام؛ فما هو الأهم من زراعة القمح وتوفير كسرة الخبز؟!
ورغم قناعتي الشخصية بأن البشير يختلف عن باقي الطغاة والمستبدين فهو أفضل منهم حالا، خاصة في موقفه من الكيان الصهيوني وهذا الموقف المبدأي له وزنه كمعيار من معايير التقييم، فإن حالة الضعف التي وصل إليها تجعله يخضع لابتزاز سماسرة الصهاينة العرب للدفع به في طريق الغواية للانفراد بالسلطة ووضعه في مواجهة الشعب ليخسر كل شيء في النهاية.
مواجهة التدخل الخارجي
رغم اختلاف التفاصيل من دولة عربية لأخرى فإن المعركة الحقيقية التي تواجهها الشعوب العربية هي معركة الاستقلال والإفلات من هيمنة الاستعمار الخارجي الذي لم يترك بلادنا تحكمها الشعوب بإرادتها الحرة، وتتبادل حكومات الغرب الأدوار في منع العرب من حق اختيار الحكام، وفي بعض دولنا العربية سلمت أمريكا وأوربا الحكام المصنوعين للإسرائيليين لتوظيفهم في خدمة الاستراتيجية الصهيونية.
التغير المهم الذي يظهر تأثيره الآن أن شعوب العرب أصبحت على درجة من الوعي الذي نقل أساليب التفكير القديمة إلى مستوى أعلى، وحشد الجهود للمطالبة باسقاط الانظمة التابعة للخارج، وعدم الاكتفاء بتغيير الأشخاص وتبديل الحكام، للخلاص من أعوان المستعمر بشكل كامل.
هذا الوعي هو الذي تقف أمامه القوى الدولية المهيمنة في حيرة، فالانقلابات العسكرية لم تعد قادرة على الاستمرار لفترة طويلة بعد أن اضطرت للخروج من خلف الستار للحكم المباشر، وهذا تسبب في التكلفة المالية والبشرية والحضارية والإنسانية، وزاد من عجز التدخل الخارجي ضعف الدوائر السياسية الموالية، ورفض الشعوب للمندوبين الذين أخذتهم دوائر الاستخبارات في أمريكا وأوربا وتبنوهم وأعادوهم لنا ليحكموننا.
كل التطورات في بلاد العرب التي تموج بالتحركات الشعبية تشير إلى أننا أمام مرحلة جديدة، ورغبة واسعة في الخروج على سياسات الغرب الاستعمارية، وظهور حالة من النضج السياسي مرتبطة بالأجيال الجديدة بسبب شبكات التواصل الاجتماعي ودورها في التفاعل وتبادل الخبرات.
بقيت خطوة ستحدث لا محالة، لأن كل الطرق تؤدي إليها وهي تلاقي الجيوش مع الشعوب والوقوف معا ضد الهيمنة الخارجية، والتخلص من العناصر العميلة سواء كانت عسكرية أو مدنية.
إن الغرب الاستعماري مهما تكتل فهو أضعف من مواجهة الشعوب الثائرة، وهذه الشعوب هي التي ستختار قادتها في النهاية، لتستعيد حريتها وكرامتها واستقلالها، ووضع نهاية للحقبة الاستعمارية وكل توابعها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق