الأحد، 10 مارس 2019

النهضة وأخواتها!

النهضة وأخواتها!

د.سلمان العودة

 يوم كنت طفلاً كنت أتردد كثيراً على مكتبة في بريدة اسمها " مكتبة النهضة " واليوم أجدني متحدثاً أو كاتباً حول ذات الموضوع، ويداخلني سؤال يحاول دفعي إلى نفق مظلم بسؤال: ماذا تحقق عبر أربعين عاماً أو تزيد؟ فأتحرر منه بقراءة الوجه الإيجابي للحياة وللمتغيرات وللإنجاز، والاعتصام بالإيمان الذي هو خير عصمة من اليأس والقنوط (( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ))[يوسف:87]. وفي فترة من فترات تاريخنا المعاصر روجت وسائل الإعلام المجندة والمؤدلجة لمفردة " الثورة " خاصة في ظل الامتداد اليساري وحروب الوكالة بين الشرق والغرب والتي كانت بعض البلاد الإسلامية مسرحاً سهلاً لها.
الثورة هي انقلاب يستحضر أسوأ ما في الواقع ليؤلب النفوس والعقول على هدمه وتغييره، وغالباً لا تكون الصورة واضحة للبديل، فالجمهور الغاضب لا يفكر بعقله، ويكفيه أن لديه هدفاً يسير إليه بتغيير وضع ما، شاهدنا هذا في بولندا، وفي إيران، وفي العديد من الجمهوريات الآسيوية، وشيء منه نراه الآن في تايلاند وغيرها.
وإذا كانت الثورة تهدف إلى الانتقال للأفضل، فليس هذا هو ما يحدث غالباً، الناس ضحت وانتهت ولم يعد بإمكانها أن تأتي مرة أخرى لتعمل ثورة تصحيحية على ثورتها الأولى، أو تحاسب أو تطالب!
وتقطف الثورة مجموعة منظمة بعيدة عن الأنظار ليبقى الناس في فقرهم وتخلفهم ويأسهم، يجترون آلامهم، ويتحدثون عن إحباطاتهم دون فائدة.
الثورة تجمع الصورة السلبية الفاقعة وتعممها وتشهرها وتتجاهل كل ما لا يتفق ورؤيتها، وتستثمر حالة اليأس من الإصلاح.
وكأن زمن الثورات قد ولى وحل محله التغيير الفكري والمعرفي والجزئي، أما النهضة فهي على النقيض تستجمع الصور الإيجابية والفرص المتاحة والأسباب الممكنة لتصحيح الواقع وتوظيف جوانبه الحسنة، ومعالجة أخطائه بصبر وأناة وحلم ورفق، ولكن بإصرار ووعي، ووفق خطط مدروسة.
ولذا يصح أن نقول: إن النهضة والثورة نقيضان، وإن اشتركا في بعض الملامح.
النهضة مفردة لغوية قبل أن تكون مصطلحاً، وهي تعنى القيام من عناء أو من ضعف أو من قعود.
واصطلاحياً ليس لها دلالة خاصة سوى الانتقال من السكون والتراجع والضعف إلى الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي والمعرفي.
ويستخدم هذا التعبير من يدعو إلى تغيير يستلهم التاريخ ويحاول البناء على ذات الأسس السابقة وقد يدعو إلى تغيير يقتبس أو يستنتج تجربة بشرية مجتمعية أخرى، ومن يحاول ابتكار صيغة جديدة تسعى للموائمة والتوفيق بين الانتماء العقدي واستلهام تجارب الأمم الأخرى للانتفاع بها، وهي صورة غير واضحة المعالم، بيد أن اتساع مفهومها والعمل على تحويلها إلى برامج واقعية قد يجيب على الكثير من أسئلتها.
وعملياً فاستنساخ تجربة ما أو مرحلة ما أمر غير صحيح ولا مجد، إنما اقتباس الأفكار والنماذج وصياغتها وفق متغيرات الزمان والمكان والثقافة.
سؤال النهضة ليس جديداً، ومع أن السؤال قديم إلا أن الإجابات لم تغير الواقع.
هل ثم خلل في الإجابة، بمعنى أن المحللين والدارسين على مدى مئة عام فشلوا في التسلل إلى موقع العلة ومكمن الداء؟ أم إن المشكلة تكمن في أن الأمر لا يتطلب إجابات نظرية بحتة، بل أفعالاً واقعية ملموسة وقوة بشرية تمتلك الإرادة والقدرة؟
وحتى هذه الأفعال غير ممكنة الحدوث مالم يتم وضع رؤية فكرية نظرية تؤسس للانطلاق العلمي.
بدلاً من الحديث المكرور عن المفردة، لماذا لا نتحدث عن المعارف والعلوم والأفكار العملية البناءة والتفصيلية التي تحمل الفرد أو المجموعة أو الأسرة أو الدولة على إصلاح ما.
 إنني أسجل هنا وفق رؤيتي الشخصية الناقصة تراجعاً مخيفاً في الهم الإصلاحي والنهضوي وتباطؤاً في تداول الفكرة والحديث عنها مما يثير التساؤل في طبيعة المرحلة التي تعيشها الأمة، وهل هي تتقدم أم تحافظ على مستواها أم تتراجع دون أن يكون هذا حكماً عاماً على إمكانياتها وقدراتها، بل على هم النهضة ومداولة داء التخلف دون غيره من المجالات الحيوية المتفاوتة صعوداً أو هبوطاً.قد يتضاعف عدد الأمة البشري وثرواتها الاقتصادية وقد يتزايد عدد المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا، وهذا لا يعني أن النهضة قادمة، ما دمنا لا نملك مشروعاً له رؤيته ولا نستطيع قياس التقدم أو التخلف وفق معايير صحيحة.
مع الإحساس بانكسارات وفشل الإجابات فضلاً عن غياب الممارسات التطبيقية لمشاريع نهضوية عربية، اتسعت دائرة ( المشروع الإصلاحي) وأصبحت كلمة " إصلاح" هي الأكثر شيوعا.
تعزيز هذا اللفظ بالورود القرآني (( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ))[هود:88]، (( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ))[النساء:35]، سهل تمريرها إلى دوائر تتوجس من كل ما يدعو إلى التغيير أو يوحي برؤية نقدية لواقع يستعصي على النقد!.
والإصلاح كالنهضة هي مقولات ليس لها معنى خاص أو تعريف محدد، ويمكن النظر إلى هذا بإيجابية باعتباره مدعاة إلى أن تلتقي عليها أطراف متباعدة، ويمكن إذا تم تطوير هذا الملمح أن يخفف من حالة التخندق والاصطفاف السلبي الفكري والطائفي والمناطقي للالتقاء على مقاصد شرعية أو مصالح حياتية.
يمكن تحويل الطرح جزئياً من ملاحظة الظروف المؤدية للعزلة والمحضرة للاحتراب والالتفاف حول خصوصيات فكرية أو فئوية إلى ملاحظة الجوامع والمشتركات التي قد تكون شرعية مؤسسة لأخوة جامعة، أو دنيوية محققة لمصالح عليا يستفيد منها المشتركون في الوطن الواحد.
ليكن الإصلاح إذاً هماً عاماً نشيعه لدى العامة والخاصة، والسياسي والشرعي، ولدى أصحاب التوجهات المختلفة حتى تأتلف القلوب على مجموعة من المشاريع الإصلاحية والتنموية في البنية التحتية والتعليم والإعلام والصحة والاقتصاد وجوانب الحياة.
لننأ بالإصلاح عن أن يكون شعاراً لفئة أو مجموعة، أو أن يكون رمزاً لطريقة خاصة في التعاطي مع الشأن العام.
لنعد بالكلمة الجميلة الطيبة إلى " براءتها الأولى " ونزاهتها، ولنتصالح معها ونتقبلها بقبول حسن، بعدما كدنا نشرق حتى بذات المفردة، فضلاً عن أن نحولها إلى برامج عمل، ونتوجس من إشارة توحي بأن الحديث عن الإصلاح يعني أننا فاسدون!
وكأننا ملائكة يخلفون، أو جمهوريات مثل عليا، أو نماذج للعدل المطلق!
وكأن المجتمع وصل إلى قمة لا يحلم بما وراءها، وكفى بالمرء تخلفاً أن يظن بنفسه ذاك!
ولننطلق من قيمنا الربانية التي تشكل مرجعية عليا لهذا الإصلاح (( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ))[الأعراف:170].
وسلام على المصلحين الذين صفت سرائرهم، ونضجت عقولهم، وحسنت أخلاقهم، كثر الله قليلهم، وجمع شتيتهم، وهداهم صراطاً مستقيماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق