الاثنين، 25 مارس 2019

هل تنقذ نيوزيلندا الدولة المدنية الغربية؟

هل تنقذ نيوزيلندا الدولة المدنية الغربية؟


 مهنا الحبيل
مجمل رسائل رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، بعد الجريمة المروّعة في كرايست تشيرش، يقوم على مفاهيم فكرية، سعت بها إلى مواجهة آثار العملية الإرهابية في وطنها، وتعقّب كل زاويةٍ رئيسيةٍ في الجريمة، لتحويل موقفها فيه إلى مصلٍ دوائي للجراح التي لن تندمل بسهولة، لكن جاسيندا تحاول أن تزرع ترساً ثقافياً في الاتجاه المعاكس، لمشروع اليمين المتطرّف، والقوة العميقة للإسلاموفوبيا، المتنفذة في الغرب.
ذلك السعي والتحرّك السريع والشجاع هو ضمن المسؤولية السياسية لرئيسة الحكومة، لمواجهة البعث الخطير الذي فجرته الجريمة، في تهديدين مؤثرين: الأول تحفيز الخلايا المتعدّدة التي بعضها مرصود رسمياً في عدة دول غربية، تعلن إيمانها بالإسلاموفوبيا وعدائها للمهاجرين، وبعض هذه الخلايا موثّق لدى الدول الغربية، تملكها لمخزون من السلاح. والثاني هو الخشية من تحول الفاجعة إلى وقودٍ يؤسس عليه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو أي تنظيمات أو أفكار متطرّفة غاضبة، أعمال عنفٍ ضد المواطنين الغربيين في نيوزيلندا أو غيرها. وهنا نحتاج الإشارة إلى مسألة مهمة، هي دور أهالي الضحايا، وممثلي المجتمع المسلم لمواطني نيوزيلندا، الإيجابي والملهم حضاريا، في استقبالهم وتفاعلهم، واحتضانهم خطاب رئيسة الحكومة، وأطياف الشعب المتحدة معهم.  وهو ما مثّل، في حقيقة الأمر، مبعثاً حضارياً رائعاً، لهذه الروح المتحدة في نيوزيلندا، حول العدالة الاجتماعية والمساواة التي لم تتكرّر من قبل في  
تاريخ نيوزيلندا.
وهذا ما يفرض تحدياً كبيراً على النيوزيلنديين المسلمين والدولة وأطياف الشعب، فأول ما يواجههم هو الخشية من أن يتكرّر ما جرى من صعود الإسلاموفوبيا مجدّداً، وتمكّن أجندات وقوى سياسية من الفوز السياسي، وتشريع قوانين مناهضة للمواطنين المسلمين، وهو الأمر نفسه الذي حصل في ولاية كيبيك الكندية، بعد جريمة استهداف مسجدها الكبير في 2017، فمسألة تخفيف الحكم على مرتكب الجريمة إلى مؤبدٍ يُقبل النظر في التماس خروجه من السجن بعد أربعين عاما، ليست المسألة الرئيسية، وإنما هناك ما هو أهم.
القضية هنا في حجم الصعود، وحصاد التصويت الانتخابي، المناهض للمسلمين الغربيين وحقوقهم المدنية، وانتشار بعض مشاعر الوحشة والغربة لمواطني الغرب المسلمين، أمام هذه الأجواء، جرّاء تعقبهم إعلامياً وسياسياً، وهي أجواء طارئة على الدولة الغربية المدنية الحديثة. وهنا يُمثل برنامج الإعاقة للتشريعات التي تحد من ثقافة الإسلاموفوبيا وشيطنة المسلمين أهم أسباب عودة الخطر المهدد للمواطنين المسلمين، في الغرب.
وتؤخذ هنا في الاعتبار ردود الفعل الفاترة لليمين الغربي على جريمة نيوزيلندا، وهي أهم من تصريح النائب الأسترالي المتطرّف الذي واجهه فتى البيضة الشهير، ويل كونللي، وهو شاب صغير غربي مسيحي، ألقى البيضة على النائب المتطرّف احتجاجاً، بعد تحميله المسؤولية للمسلمين، وهو الموقف الذي لقي تعاطفاً ودعماً عالمياً مستحقاً. بل إن حكومة المحافظين في بريطانيا لم تصنع أي ردع قانوني لمثل هذه الحملات، بعد جريمة استهداف دار للرعاية الإسلامية في شمال لندن. والمحصّلة هنا ذهاب المشاعر العاطفية، واستحضار أثر هذه الثقافة على حقن المجتمع بالكراهية ضد المسلمين، بعد مضي الحادثة بوقت متوسّط.
يعود الإعلام إلى التحشيد وشيطنة المسلمين، واستخدام أي قضية تقع في الشرق، من الإرهابيين أو منظومة الاستبداد، لتتحول إلى تحفيز ضد مسلمي الغرب. وهكذا لا تستشعر المؤسسة الإعلامية أي حرج قانوني ولا أخلاقي، لضغوط ممنهجة تعزف عليها ضد المسلمين، فلو نجحت نيوزيلندا في تقديم نموذج مختلف، فهي لن تنقذ المسلمين من مواطنيها وحسب، ولن تحمي فكرة المواطنة والاتحاد العدلي لنيوزيلندا الجديدة، والتي قدمت صورة ملهمة لوحدتها الشعبية، وإنما أيضا قد تؤخر عودة الدولة الأيديولوجية العنصرية في الغرب، وهي هنا مسألة تدافع فلسفي ومدني، فما نعنيه، بكل وضوح وشفافية، أن المأزق الأخلاقي والفكري، القديم في بنية الاستشراق الغربي، مع مساحة الانحياز العنصري وبقاء الوجدان المسيحي المتحفّز ضد غيره، بات يتضخم في الذات الغربية، ويهدم أسسا رئيسية للدولة المدنية الحديثة، في البعد الإيجابي الذي حققته.
الإشكالية التي يصطدم بها الوجدان الغربي اليوم، ورأى نفسه في مواجهتها، بحكم أن جزءا من روح الإرهابي الأسترالي له امتداد ثقافي واجتماعي، وله أحزاب ومنظومات سياسية، تُطبق اليوم، لا على عالم الجنوب فقط، وإنما في داخل جغرافيا الدولة المدنية، وبالتالي لا يُمكن أن تحافظ على السلم الاجتماعي، بعد أن فتحت أسلحة إعلامية وسياسية، على مسلمي شعبك، لأجل وضعهم في أبارتايد، يبقيهم أياديَ عاملة، تستخدمها المصانع أو المعاهد، لكنهم يعيشون مواطنة دونية متّهمة في أصلها. وهذا ما يجري اليوم حين تُرك المسلمون يتدافعون مع قوى  
الإسلاموفوبيا الشرسة، والمتمكّنة، وخذلتهم الحكومات الغربية، وقل نصيرهم من الطوائف الأخرى، في حين أن هذا التهديد يتعاظم عليهم، وعلى غيرهم من بعدهم، ويبرّر بعضهم ذلك في الخشية من فكرة فلسفية وعمرانية وروحية للإسلام، تجعله منافساً فكرياً للنموذج الغربي الذي يعيش اليوم أزمةً اقتصاديةً واجتماعيةً، لم تنقذ العالم، ولا سؤال البحث عن النفس المطمئنة التي تفتقدها البشرية، أمام غولٍ ضخم يُهشّم إنسانها، غذّته الرأسمالية المتوحشة، وهزيمة اليسار الأخلاقي أمامها سياسيا، وقد أصبح العالم على أن الملهم لإرهابي أستراليا رئيسٌ منتخبٌ للولايات المتحدة الأميركية، فما هو ذنب الفكر الإسلامي في هذه الردّة المدنية؟
وهنا نعيد التذكير بأهمية خطاب الفكر المدني للإسلام، المزهود به في الخطاب الدعوي الإسلامي، وقد التقط الناس آثار فلسفته في موقف ذوي الضحايا، فكيف لو أن العمل الإسلامي التفت إلى هذا العلم بدلاً، من العودة إلى التعبئة العاطفية للشرق، التي كادت تنزلق في أتونٍ خطيرة، بتحويل جريمة نيوزيلندا إلى حربٍ بين المسلمين والغربيين، تحت لافتة العثمانية الجديدة والغرب المدني، وحينها كنّا سنخسر سلامة مواطنينا في الغرب ومستقبلهم، ومعركة الفكر والعدالة الاجتماعية في الإسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق