الملك البلجيكي المعاصر الذي حل مشكلة السلفية مع الديموقراطية
د. محمد الجوادي
سنلجأ في هذه التدوينة إلى الوصف والتاريخ بعيداً عن التنظير والفلسفة، مع التعبير عن رأينا في الفصل أو الوصل أو مُحاولات غيرنا للتوفيق، فالأمر من وجهة النظر التاريخية أبسط من هذه المحاولات حسنة النية في الوقت الذي هو فيه أصعب من أيّ سوء نية. سنضرب المثل ببعض مُنعطفات تاريخية في هذه القضية التي تتكرر من حين لآخر والتي يُتوقّعُ أن تكون مربط الفرس في القضاء على مُستقبل الثورة المُضادة لثورات الربيع العربي.
نعرف أن المسيحيين الملتزمين أو الأتقياء أو السلفيين (!) يُقاومون فكرة السماح بالإجهاض بكلّ ما يملكون من قوّة حتى في الحالات التي يثبت فيها بالمرض الوراثي أن الجنين مُصاب بكثير من التشوّهات الخُلُقية التي تجعلُ من حياته عذاباً لوالدته او لوالديه.. نعرف المثل الواضح الصريح على هذا السلوك السلفي من موقف السيدة سارة بالين التي كانت مُرشحة على لائحة السناتور جون ماكين لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة لائحة الرئيس أوباما وجو بايدن ونعرف أنها لم تقبل أن تُجهض في جنين كان مُصابا بنوع مُتقدّم من الأمراض الوراثية، ونعرف أيضا أن "الديموقراطية الأمريكية" جاهدت طويلاً من أجل الحصول على إباحة الإجهاض رغم أن ساسة مُعاصرين لا يزالون ضد هذا التشريع، بعبارة أخرى فإننا نعرف أن السلفيين من المسيحيين كانوا يقولون ما معناه إنه لا يجوز للديموقراطية أن تُحلّ حراماً أو تُحرّم حلالاً.
قرّر الملك بودوان الأول في 1960 أن يتنحّى عن العرش لمدة يوم واحد وذلك ليُفسح المجال للحكومة البلجيكية للتصديق على قانون إباحة الإجهاض |
ونحن نعرف بالطبع وبالواقع أن بعض الطوائف السلفية الإسلامية تتوقف في معرفتها بالديموقراطية عند هذه النقطة فحسب فتجاهر بالعداء لها وبأن تُحرّمُ الديموقراطية نفسها لأنها (قد) تُحلُ حراماً أو (قد) تُحرّمُ حلالاً.. وهكذا تفتح هذه الطوائف السلفية الإسلامية الباب واسعاً أمام القبول الإجباري غير المبرر دينيا ولا خلقيا بحكم الفرد الطاغية، كما تفتح هذه الطوائف السلفية الإسلامية الباب واسعاً أمام القبول الاضطراري بأقصى أنواع الديكتاتورية والتسلّط تحت دعوى أن البديل وهو الديموقراطية (قد) تُحلّ ما حرّم الله، ومن العجيب في بعض هذه الطوائف أنه إذا جاء الحاكم الفرد وحكم بتحيل ما حرّم الله قفزت هذه الطوائف السلفية برشاقة أو بغير رشاقة إلى الفكرة المدخلية لتعصمها من هذا التناقض الواضح بين مُعتقداتها التي دافعت عنها، وبين المأزق الذي وجدت نفسها فيه حين قبلت بكلّ عيوب الطُغيان والديكتاتورية هرباً من شُبهة أن الديموقراطية (قد) توافق على قانون أو إجراء يحل ما حرّم الله.
أليست هذه هي الحقيقة على نحو ما نراها في هذا الجدال غير المنشور وغير المشهور بين من يقبلون بالديموقراطية اضطراراً وهم كافرون بها، وبين من يستسهلون رفضها بسبب شبهة يمكن مناقشتها، وبين أمثالنا من يدلونهم على أنها بمثابة البديل الأمثل للخلاص من الطغيان؟ تتعقد الأمور حين يسطو المنطق الصوري على ما هو حق للدين فيجعل من حكم الديموقراطية بكل منظوماتها مجرد مقابل لفظي لتعبير مبسط ومختزل هو حكم الشعب وذلك بدلا مما نقول به وهو أن الديموقراطية هي حكم الجماعة وأنها نقيض حكم الفرد الطاغية، ومن ثم تتفرع أمور المنطق الصوري إلى مسارين خطرين:
المسار الأول: هو القفز بحكم الشعب إلى معنى آخر هو حكم الغوغاء أو الدهماء وما يستتبع هذا من إسقاط أوصاف الديماجوجية على الحكم الديموقراطي لتشويه معنى الديموقراطية من أجل هدمها أو استبعادها.
المسار الثاني: شائك ومميت وهو القفز إلى فكرة الحاكمية قفزا يتجاوزعدة مفاهيم مرتبطة بالفعل "يحكم" [وهي الحكم والتحكيم والتحكم والإحكام والمحاكمة والتحاكم والاحتكام والاستحكام والحكمة والحوكمة والحكومة والتحكمية] ليضع الديموقراطية في موضع لم تطمح إليه، وهو مسار فتح الله به على من لا يعرفون العربية حق معرفتها فاستعاروا العقل الغربي في فهم مفرداتها.
في مقابل هذا التعنّت الذي يقف عند الحدود النظرية إليك مثل لمُحاولة الالتفاف على هذه "العقدة الفلسفية"، فقد كان الملك بودوان الأول (1930 ـ 1993) ملك بلجيكا السابق الذي تولى الملك ما بين 1951 و1993 مسيحيا مُلتزماً أو سلفيا حسب فهمه هو للمسيحية، ومع أنه تزوج في 1960 فإنه لم يُنجب، ولم يُعرف عنه أنه سعى إلى الإنجاب بالوسائل التي كانت بدأت تُتاح للإخصاب المُساعد لكن هذا الملك الذي كان يتمتّعُ بحضور سياسي كبير قرّر في 1960 أن يتنحّى عن العرش لمدة يوم واحد وذلك ليُفسح المجال للحكومة البلجيكية للتصديق على قانون إباحة الإجهاض، وذلك لأنه كان مُعارضاً للقانون بشدة، ولمّا كان البرلمان يرى أن الحفاظ على بودوان في منصب الملك يمثل خيارا أكثر فائدة من التخلي عنه، فقد رتّب الأمر على أن يتنحّى الملك على أن يُعيده البرلمان ملكاً في اليوم التالي مباشرة وهو ما حدث بالفعل.
من الجدير بالذكر أن الملك بيير الثاني (المولود 1934) شقيق الملك بودوان هو الذي خلفه بعد وفاته ملكا لبلجيكا وبقي حتى تنازل في سبتمبر 2013 لابنه الملك فيليب الملك الحالي (المولود 1960)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق