الاحتلال الفرنسي لمصر
شريف عبدالعزيز الزهيري
على الرغم من قِصر مدَّة الاحتلال الفرنسي للديار المصرية - ثلاث سنوات فقط - إلَّا أنَّنا نستطيع أن نقول بكلِّ أمانة بحثية وحيادية تاريخية: إنَّه كان الاحتلال الأكثر خطرًا والأبلغ أثرًا على شعوب المنطقة عمومًا، وعلى الشعب المصري خصوصًا؛ إذ كشَف هذا الاحتلال عن مدى تخلُّف المسلمين عن ركب الحضارة وأسباب التقدُّم والرُّقي، وضرَب هذا الاحتلال بأول سهم في عقيدة المسلمين؛ إذ أصابهم بالهزيمة النفسيَّة القاتلة، وكشف عن مدى ضعف الدولة العثمانيَّة وهزالها عن مقاومة الدول الأوروبية.
وتلك الهزيمة النفسية هي التي أخذَت تتغلغَل في قلوب المسلمين عبر العصور، حتى أبقَت المسلمين في نهاية المطاف جثَّةً هامدة، في حالة تبعيَّة وتقليد كاملتين للعدوِّ المسيطر على أسباب القوة والحضارة؛ لذلك فإنَّ الاحتلال الصَّليبي الفرنسي لمصر كان بداية السَّير نحو تغيير العادات والأفكار والمبادئ الإسلاميَّة عند كثير من المسلمين؛ لذلك كان المؤرِّخ الجبرتي رحمه الله دقيقَ الوصف ثاقبَ النظر عندما صدَّر الكتابةَ عن أحداث هذا الاحتلال قائلًا: "وهي أول سِني الملاحِم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازلِ الهائلة، وتضاعفِ الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاسِ المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابُع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفسادِ التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]".
جذور الاحتلال الصليبي الفرنسي لمصر:
لمصر تاريخ حافل مع العدوان الصليبي؛ إذ كانت هدفًا مباشرًا للحملات الصليبية في العصور الوسطى مع الشام، واختصَّت من تسع حملات صليبية على العالم الإسلامي قديمًا بأربع حملات متتالية؛ قاد اثنين منها ملوك فرنسا؛ وذلك للموقع الإستراتيجي الفذ لمصر، وتحكُّمها في الطُّرق العالمية القديمة للتجارة، وتمركُز الثقل الإسلامي بها منذ ظهور الدولة الأيوبية ثمَّ المملوكيَّة بعدها.
فكرة احتلال فرنسا لمصر تَرجع إلى القرن السَّابع عشر، أيام حكم الملك لويس الرابع عشر [1672 - 1714م]؛ وذلك بهدف ضرب التجارة الهولنديَّة في الهند والتي تمرُّ بها، ثمَّ تجدَّدَت الفكرة أيام حكم الملك لويس الخامس عشر، ولكن عن طريق التفاوض مع الدولة العثمانيَّة من أجل التنازل عن حُكم مصر للفرنسيين، وتجدَّدَت الفكرة مرَّةً ثالثة أيام حكم الملك لويس السادس عشر؛ وذلك إثر المنافسة الشَّرسة بين إنجلترا وفرنسا على مناطق النُّفوذ في الهند وأمريكا الشمالية، والتي انتهت لصالح إنجلترا، وتنازلَت فرنسا عن مستعمراتها في أمريكا الشمالية سنة 1763م.
في سنة 1789م قامت الثَّورة الفرنسيَّة الكبرى ضد النظام الإقطاعي والملكيات القديمة، ليس في فرنسا وحدها، ولكن في أوروبا كلها؛ وذلك بدعم كبير من المحافل الماسونيَّة واليهوديَّة العالمية، ونجحَت الثورة في إعلان الجمهورية سنة 1792م، ثمَّ أعدمَت ملك فرنسا في العام التالي، وانذعرت الملكيات الأوروبية من تنامي قوَّة الثورة الفرنسية، وخافت من امتداد أثَرها ومبادئها إلى سائر أوروبا، فشكَّلَت حلفًا أوروبيًّا ضد الثورة الفرنسية من أجل القضاء عليها، إلَّا أن قوات الثورة بقيادة نابليون بونابرت حقَّقَت عدَّةَ انتصارات على تَحالُف الملكيات خلال الفترة من سنة 1795 - 1797م، ما عدا إنجلترا التي ظلَّت بعيدةً عن ضربات بونابرت بحكم جغرافيَّتها البحرية والمنعزلة عن سائر الدول الأوروبية؛ لذلك رأى الفرنسيون ضرورةَ التوجُّه إلى الشرق لضرب إنجلترا في مستعمراتها بالهند والسيطرة على طرق التجارة العالميَّة، ومن ثمَّ عادَت فكرة احتلال مصر لأذهان الفرنسيين مرة أخرى.
وحتى لا يظن القارئ أنَّ التنافس الفرنسي الإنجليزي كان هو الدَّافعَ الوحيد لشنِّ هذه الحملة الصليبية الظالمة على بلاد مصر؛ كان لا بدَّ من التأكيد على دور الدِّين وأثَر الكنيسة الفرنسية في الحملة، وهذا سيتضح جليًّا من تعامل الفرنسيين مع مسلمي مصر واستعانتهم بنصارى مصر في حَملتهم، ومن هنا كانت أهداف الحملة خليطًا من الأهداف الاقتصادية والسياسيَّة والتوسُّعية والدينية، لا تستطيع أن تَعزل هدفًا عن سائر الأهداف، والهدف الدِّيني الصليبي بمثابة القوة الدافعة والباعثة لهمم المقاتلين.
الحملة الصليبية الفرنسية على مصر:
اتَّبع الفرنسيون خطَّةً مدروسة ومتأنية الخطوات في احتلالهم لمصر، فالفكرة قديمة في أذهانهم؛ لذلك أخذَت وقتها الكافي في النُّضوج والاختمار، وبدأت بإرسال الرحَّالة الفرنسيين الذين أكثروا من رحلاتهم إلى مصر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذين أقاموا علاقات واسِعة مع أقباط ويهود مصر؛ للتعرُّف على أحوال مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعيَّة، وأثرُ هذا التحضير بدا جليًّا في اصطحاب نابليون بونابرت معه في حملته لـ 122 عالمًا فرنسيًّا في شتى فنون العلم، وبالأخص علم اللغات والآثار والتاريخ والاجتماع.
أبحرَت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت من ميناء طولون في مايو 1798م - 1213هـ، وفرض نابليون سريَّةً مُحكمة على وجهة الحملة؛ خوفًا من معرفة الإنجليز أصحاب السيادة البحريَّة وقتها بوجهته فيقطعون عليه طريقَه، وسارت الحملة في طُرق ملتوية، واستولَت على جزيرة مالطة ثمَّ كريت، وبعدها توجَّه نابليون مباشرة إلى مصر، فوصل سواحل الإسكندرية في أول يوليو 1798م.
اتَّبع نابليون سياسةً خبيثة من أجل تَسهيل احتلاله لمصر، سياسة النِّفاق والتزلُّف والخِداع من خلال تظاهره بالإسلام هو ومجموعة من قادَة حملته، ووزَّع منشورًا باللغة العربية في مصر في يوم 27 يونيه سنة 1798؛ أي: قبل وصوله إلى الإسكندرية بثلاثة أيام؛ وذلك عن طريق العملاء والجواسيس، وقد حاوَل في هذا المنشور خِداع ليس المصريين فحسب، ولكن الدولة العثمانيَّة أيضًا؛ حيث ادَّعى فيه أنَّه ما جاء إلى مصر محتلًّا، بل مُحرِّرًا - لاحِظ التشابه بين الحملة الفرنسية والحملة الأمريكية على العراق - وأنَّ جيش فرنسا ليس جيش احتلال، ولكن جيش تحرير، وقد جاء في بعض فقرات المنشور الذي صدَّره بآياتٍ من القرآن والصلاةِ والسلام على رسول الله: "أيها المصريون، قد قيل لكم: إنَّني ما نزلتُ لهذا الطرف إلَّا بقصد إزالة دينكم؛ فذلك كذب صريح فلا تصدِّقوه، وقولوا للمفترين: إنَّني ما قصدتُ إليكم إلا لأخلص حقَّكم من يَد الظالمين، وإنَّني أكثر من المماليك أعبد اللهَ سبحانه وتعالى، وأحترم نبيَّه والقرآنَ العظيم، وإنَّ جميع الناس متساوون عند الله، وإنَّ الشيء الذي يفرِّقهم عن بعض هو العقل والفضائل والعلوم فقط..."، ويلاحظ من الفقرة الأخيرة محاولة نابليون تَرويج الفكر الماسوني ومبادئ الثورة الفرنسيَّة العلمانية (الحرية - الإخاء - المساواة) بين مسلمي مصر.
لم تنطلِ هذه الخدعة الخبيثة على أهل مصر أصحاب الخِبرة الطَّويلة في مواجهة الحملات الصليبية عمومًا والفرنسية منها خصوصًا، واعتبروا نابليون وجنوده تمامًا مثل لويس التاسع وجنوده، كلهم صليبيُّون، جاؤوا لمحاربة الإسلام وأهله ونهبِ خيراته، فاستعَدُّوا للدِّفاع عن دينهم وبلادهم حتى آخر قَطرة في دمائهم، وتولَّى البطل محمد كريم حاكم الإسكندرية قيادةَ المدافعين عن الإسكندرية، والتفَّ حوله أهلُ المدينة، واستماتوا في الدفاع عنها، وكبَّدوا الفرنسيين خسائرَ جمَّة، ولكن مع وَطأة المدفعية الفرنسية الحديثة انهارَت دفاعات المدينة، ومن شدَّة حنق نابليون على البطل محمد كريم أمر باعتقاله وفرض عليه غرامةً فادحة ليفتَكَّ بها نفسَه من الأسر والقتل، فلم يدفعها البطلُ الجسور، وأعدموه رميًا بالرصاص رحمه الله في سبتمبر سنة 1798م.
في هذه الفترة تجمَّع المماليك بقيادة مراد بك عند منطقة شبراخيت بمحافظة البحيرة جنوب الإسكندرية، وانضمَّ إليه آلاف المتطوِّعين من البدو والفلاحين؛ وذلك لمنع تقدُّم الفرنسيين نحو القاهرة، ولكن الأسلحة الحديثة عند الفرنسيين والبدائية عند المماليك والمتطوعين كانت عنصرَ حسم في المعركة لصالح الفرنسيِّين، الذين واصلوا سيرَهم إلى القاهرة ليصطدموا مع المماليك والمتطوعين مرَّةً أخرى ولكن أشد عند منطقة "إمبابة" إحدى ضواحي القاهرة، ويَنتصر الفرنسيُّون، ويحتلُّون القاهرةَ في 27 يوليو 1798م - محرم سنة 1213هـ.
لم يَهنأ الفرنسيون بفرحةَ استيلائهم على القاهرة سوى ثلاثة أيام فقط؛ إذ قام الأسطول الإنجليزي بقيادة الداهية (نلسون) بمهاجمة الأسطول الفرنسي الرابض في ميناء أبي قير بالإسكندرية، وحطَّمه بالكليَّة في أول أغسطس سنة 1798م، ثمَّ فرض الإنجليز حصارًا قويًّا ومحكمًا على السواحل المصريَّة، وبالتالي أصبحت الحملة الفرنسية محاصَرة داخل مصر سياسيًّا واقتصاديًّا، وهكذا الحال عندما يتصارع الذِّئاب على الفريسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق