صندوق الانتخاب وكرتونة الاستفتاء
لا داعي هنا لتكرار القول إنه، وحده، المتحكّم في كل قواعد اللعبة، من اختيار المواعيد وانتقاء الحكام والجمهور، بل هو الحكم والخصم والناقل الحصري أيضًا، ومن ثم تصبح تلبية دعوته لمنافسةٍ على هذا النحو نوعًا من الانتحار الذاتي لكل من تحدّثه نفسُه بالذهاب.
وفي مباراة التعديلات الدستورية، العبثية، لا تخوين لأحد، ولا مصادرة لحق فريقٍ في أن يلبي النداء، ويذهب إلى اللعب في الجحيم. ولكن من الناحية الأخرى، لا يحق للمهرولين لتحقيق رغبته في اعتبار كل من يخالف هذا التوجه مخطئين، بل ويصل الشطط المتطاوس أحيانًا إلى النظر إلى المتعفّفين عن هذه الخوض في هذه المهزلة من المجدّفين عكس التيار الوطني والثوري.
المنطق يقول إنك إن قرّرت المشاركة في لعبةٍ غير عادلة، وغير متكافئة، وبعبارةٍ واحدةٍ لعبة فاسدة وباطلة بطلانًا مبينًا، فإنك لن تحقّق أكثر من إسباغ مسحةٍ من جدارةٍ أخلاقيةٍ على عمل غير أخلاقي، وسيكون الحصاد أنك قدمت خدمةً مجانيةً لذلك الطرف المتغطرس في استبداده، تجعله يخرج في هيئة المنتصر المكتسح الذي هزم الجميع.
والشاهد أنه من ألوان العبث الانتحاري أن يمارس أحدٌ لعبة الأعداد والحشود مع سلطةٍ تتحكّم في كل شيء، وتستخدم كل الأسلحة بصورة باطشة ومرعبة، بدءًا من التهديد والوعيد بإنزال أشد العقاب بالرافضين، وليس انتهاءً بالإغراءات والرشى الصغيرة لجماهير يسحقها الخوف والحاجة والفاقة، وتعلم مسبقًا أن النظام قادرٌ على حصر المصوتين والممتنعين وإحصائهم، وجاهز بالنتائج والنسب التي سيعلنها على العالم، بعناوين تتحدّث عن الممارسة الديمقراطية غير المسبوقة.
قلت سابقًا إن كل ما يشغل النظام هو صناعة تلك الصورة الزائفة لصفوف الجماهير أمام لجان الاستفتاء، ولديه من الخبرات والإمكانات ما يحقّق له مبتغاه، مهما بلغ حجم العزوف الجماهيري، ولو تطلب الأمر أن يستورد حشودًا من داعميه الإقليميين، فخمسة آلاف يرسلهم محمد بن سلمان من السعودية، ومثلهم من الإمارات، وكذا من البحرين، يحتشدون أمام مقار مختارة للجان الاستفتاء، مع تصوير تلفزيوني احترافي، عددٌ كافٍ لصناعة لقطةٍ عن حشود هائلة من المصريين خرجوا للمشاركة في العرس الديمقراطي الأسطوري لتأبيد الاستبداد تشريعيًا.
مرة أخرى، وعاشرة، اللعب مع الانقلاب، بشروطه ومواقيته المختارة، هو شرعنة للانقلاب، وقبول وتسليم بشرعية سلطته. والأمر هنا يشبه أن تشارك برأيك في اختيار ألوان دهانات بناية سرقها قراصنةٌ، بعد أن قتلوا سكانها وأحرقوا كل من رفض القرصنة، أو أن تعترض على التصميم المعماري الجديد للبناية، بعد تغيير معالمها الأولى.
من هنا، تقف مندهشًا أمام صياغة البيان الصادر عن جماعة الإخوان المسلمين بشأن مسخرة التعديلات، إذ يحتوي البيان على قدرٍ لا بأس به من الارتباك والتناقضات المنطقية، ربما جاء تحت تأثير موجة الابتزاز العاتية التي تصنف المتعففين عن الخوض في هذا المستنقع، داعمين بطريق غير مباشر لطغيان الجنرالات.
يتحدّث البيان عن تعديلات دستور السيسي، بوصفها انقلابًا جديدًا، ثم في الفقرة ذاتها يعتبرها امتدادًا لانقلاب صيف 2013، وهذا تناقضٌ صريح، أو جمعٌ بين ضدين لا يلتقيان (الجديد والقديم)، إذ يكون حاصل الجمع هنا صفرًا، فإن كنت تراها انقلابًا جديدًا فهي انقلابٌ على دستور الانقلاب، وبالتالي انقلاب على "30 يونيو". وهذا بالضبط ما يردّده أولئك الذين يطلبون من الناس خوض المعركة على أرضية الثلاثين من يونيو، الذين يختزلون المعركة في ضرورة عدم المساس، دستوريًا، بمرتكزات الوضع الراهن، ويناضلون من أجل الحيلولة دون تعاظم مستويات الطغيان، والإبقاء عليه في معدّلاته الحالية، ومن ثم لا مشكلة مبدئية مع سلطةٍ، هي بكل المعايير القانونية والأخلاقية ليست شرعية.
وعلى ذكر المتناقضات، ثمة مفارقةٌ عجيبةٌ هنا، ذلك أن من حشد الناس لدعم وتأييد جريمة الانقلاب على صندوق الانتخاب النزيه، يريد منهم أن يخرجوا للمشاركة في كرنفالٍ أمام صناديق الاستفتاء غير النزيه، من دون أن ينتبه إلى أنه دفع الناس دفعًا إلى الكفر بصندوق الانتخاب، واحتفل معهم بتحطيمه وإحراق مخرجاته قبل ست سنوات، ويطالبهم الآن بألا يضعفوا أمام كرتونة الاستفتاء، المليئة بسلع الجيش الحنون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق