يوم مع عباسي مدني
بشير البكر
29 أبريل 2019
رحل عباسي مدني بصمت قبل أيام في الدوحة، بعيداً عن بلده الجزائر التي تعيش حالة تحول تاريخية. ومنذ وقت غير قصير، انقطعت أخبار هذه الشخصية التي لعبت دورا كبيرا في مرحلة التسعينات، خلال أول تجربة ديمقراطية سرعان ما انتكست في بدايتها، وأدخلت الجزائر في النفق المظلم والحرب الأهلية التي عرفت بالعشرية السوداء. وذهب مدني إلى السجن ليمضي نحو ست سنوات، وخمس سنوات في الإقامة الإجبارية، وانتقل بعد الإفراج عنه إلى العاصمة القطرية للعلاج لازمها حتى وفاته، ولم يمارس أي نشاط سياسي.
وانخرط مدني في الحياة السياسية بقوة، حين عرفت بلاده تجربة الانفتاح في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1988 مع نهاية حكم الحزب الواحد، ودخول الجزائر مرحلة التعدّدية السياسية والإعلامية، والتي استفاد منها الإسلاميون، كما غيرهم من القوى السياسية، ولكنهم كانوا أكثر تنظيما وجاءت الرياح مواتيةً لهم أكثر من بقية الأطراف، الأمر الذي أهّلهم للفوز في الانتخابات البلدية عام 1990، ومن بعد ذلك الانتخابات التشريعية 1991، التي تدخل الجيش لوقف مسارها، ومنع الإسلاميين من الوصول إلى الحكم كونهم حازوا أغلبية مجلس الشعب.
كان عباسي مدني في واجهة الأحداث خلال تلك الفترة، حين عرفته في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، عندما قصدتُ الجزائر ضمن فريق صحافي رافق الرئيس الأسبق أحمد بن بلّه في عودته من المنفى. ومن بين أعضاء الفريق الكاتب والصحافي المغربي الباهي محمد، والكاتب التونسي الصافي سعيد، والكاتب التونسي العفيف الأخضر، والكوميدي المغربي أحمد السنوسي (بزيز)، والسياسي المغربي الأمين العام لمنظمة العمل الديموقراطي، محمد بن سعيد. وبعض أعضاء هذه المجموعة كانوا على صلة ومعرفة ببن بله، وخصوصا الباهي محمد الذي عاش فترة في الجزائر وعمل في صحافتها، وعرف الطبقة السياسية هناك وارتبط معها بصلات وثيقة وصداقات حميمة، ومعه تعرّفت على العديد من هؤلاء، مثل علي الكافي، عبد السلام بلعيد، عبد العزيز بوتفليقة، شريف بلقاسم، عبد الحميد مهري، محمد شريف مساعدية، محمد يزيد.. وغيرهم.
في تلك الزيارة، أتيح لي أن ألتقي عباسي مدني، وطلبت منه أن أرافقه مدة يوم، كي أكتب عنه تحقيقا في مجلة اليوم السابع التي كنت أعمل فيها من باريس، ووافق. وكانت محطتنا الأولى أحد المعامل التي يعمل فيها عدد كبير من محازبي جبهة الإنقاذ الإسلامية، وبعد ذلك زرنا مسجد عبد الحميد بن باديس، وفي الختام انتقلنا إلى أحد مكاتب الجبهة في حي باب الواد. وفي الزيارات الثلاث، كان مدني يتصرف بتلقائية من دون تمثيل، ولم يكشف عن هويتي للآخرين، بل عرّفني على أني صديق عربي قادم من أوروبا، وهذا ما أتاح لي الوقوف عن كثب على جملةٍ من الآراء والمواقف. وفي الخلاصات، خرجت بنتيجة مفادها أن مناضلي الجبهة الذين التقينا بهم، ومنهم نائبه علي بلحاج، لم يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من التأهيل الفكري، وهم أقرب إلى مناضلي حزب سياسي يريد الوصول إلى الحكم. ووافقني عباسي على هذا الاستنتاج، وقال لي بالحرف الواحد "أنا أحلم بأن أجلس على الكرسي محل بن جديد (الشاذلي)، لماذا عنده حق وأنا ممنوع"؟ وهذا الرأي هو الذي ترجمه إسلاميون جزائريون متطرفون بحمل السلاح، حين وُضع عباسي في السجن، وجرى إيقاف المسار الديمقراطي. وعلى الرغم من أن عباسي براغماتي، ودخل الانتخابات من باب السلطة، إلا أنه شطح بعيدا حين دعا إلى دولة إسلامية، وكان ذلك بمثابة كمين أحكمه الجيش من حول الإسلاميين.
بين حين وآخر، كان مدني يستخدم مصطلحا بالإنكليزية التي يجيدها أكثر من الفرنسية حسب ما أسرّ لي، وأدلى بجملة من المقارنات بين اللغتين، ولم يُخف كرهه لغة المستعمر التي اعتبرها مواطنه كاتب ياسين "غنيمة حرب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق