عبدالله الطحاوي
يا عُبّاد الصليب.. كانت دندنة حاضرة بشكل لافت في خطب ومواعظ أحد الشيوخ. جادلته وأكثرت دون فائدة. عادةً في مصر تتعانق المساجد والكنائس لأسباب بعضها يخص التباري في إقامة دور العبادة، وكلما حلت كنيسة جاورتها مئذنة. وخطيبنا الهمام اعتبر نفسه في مهمة مقدسة وهي تقريع النصارى. كان واضحا أن منطق النكاية -لا منطق الهداية- هو الذي يسيّر موقفه.
خواطر الشعراوي
يذكر كثيرون أن الشيخ الشعراوي -رحمه الله- مسّه شيء من غضب حينما وقف عند تفسير سورة مريم، ركز الشيخ حديثه على تصور القرآن للمسيح، وأنه ليس إلهاً بل كلمة الله وعبده. لم يخرج الشيخ الشعراوي عن النص القرآني؛ ومع ذلك اعتبر البعض أن تصدير آيات ناقدة للتصورات المسيحية المعاصرة في الإعلام من شأنه تكدير السلم العام (هذه تهمة مشهورة في مصر)، تكرر نفس الأمر مع كتابات زغلول النجار في “الأهرام”.
ينسحب الكلام نفسه على الوعظ المسيحي عند حديثه مثلا عن اليهود، حيث تسمع دوي الكتاب المقدس الناقد لليهود، وجريمة صلب المسيح، فضلا عن رفض أي نبي بعد عيسى “ابن الله”، وكل نذير عاقب هو كذوب. وهناك داخل المسيحية من يسرف ويرى في الإسلام ديانة وثنية، ومعرفة الله الواحد عند المسلمين مدانة عند المصلح البروتستانتي جون كلفن؛ لأن الله –في رأيه- أوحى بالقليل من الحقيقة لغير المسيحيين حتى يزيد في إدانتهم!!
والحقيقة أن هذه هي طبيعة النصوص المقدسة في غالب الأديان، إذ الكثير منها حافل بالنقد للأديان المخالفة، والعقائد بطبعها تضع نفسها داخل يقين مغلق، يفترض في نفسه كلية الصحة، وما عداها باطل. ومؤكَّد أن الطرفين يرفضان المساومة في الأصول الاعتقادية، أو الوصول إلى حل وسط في أمر المسيح مثلا.
خطاب المسلمين
البعض يرى أن المشكلة تخص خطاب المسلمين المصريين فقط، والحقيقة أن خطابات الوعاظ المسلمين أكثر حضورا في المجال العام لطبيعة الأغلبية الذي يصطبغ بخواص الأكثرية المسلمة. وبسبب ذلك؛ فإن لغة المسلمين تبدو مشهودة ومرصودة، بعكس الخطاب المسيحي المحمي بالأسوار والأسرار.
وكانت مفاجأة للكثير خروج رجال من الدين المسيحي للحديث على الفضائيات عن المسلمين بشكل غير لائق في السنوات الأخيرة، والبعض لا يعلم أن ثمة دراسات لاهوتية داخل المؤسسات الدينية المسيحية عن الإسلام ولها مؤسسون ورواد، لعل أشهرهم القمص إبراهيم لوقا والقمص زكريا بطرس.
وهذه الاتجاهات تنتدب نفسها للدخول في مبارزات دينية مع المسلمين، وقد وصلت تلك الحالة إلى الذروة بعد ثورة يناير 2011، حيث وصل السجال الديني إلى لحظة خُشي معها أن يتحول إلى نوع من النزاع الاجتماعي والديني.
يمكن التفرقة جديا بين السجال الديني وعرض العقائد؛ فمن الضروري فهم واحترام أسس النصوص المقدسة داخل المجتمعات المتعددة دينيا، ويجب ألا تُجرَّم نصوص قرآنية تعتبر المسيح نبيا أو نصوص مقدسة تعتبره إلهاً، ولا يمكن كذلك تحريم شرح ووصف ذلك بطريقة علمية ومنهجية. لكن مهم أيضا ألا تكون تلك النصوص -النافية لبعضها بعضا- قاعدةً لتمدد المبارزة الدينية والسجال بين الوعاظ، والمنافسة من أجل تحقيق انتصار عقائدي من كل طرف على حساب الآخر.
ومن المهم التصالح على لغة حوارية دينية داخل المجال العام المصري، يجب أن يُراعى فيها أولاً أننا شركاء في وطن واحد يجب أن يستمر وطنا مستقرا، تمثل فيه الكلمة الدينية هي الفكرة السواء المشتركة الداعمة
خطاب القرآن
وضع القرآن مستوييْن في الخطاب لغير المسلمين؛ فإذا جاء إلى بيان العقائد أعلن كفرية غير المسلم، ومصطلح “الكفر” فيه موقف لاهوتي اعتقادي، يعني به وضع الضوابط بين العقائد والديانات التي لا تؤمن بمحمد كنبي أو رسول أو بشريعته، وفي نفس الوقت يقر للمخالف بوضع حدوده العقائدية أيضا.
والمستوى الثاني هو خطاب المعاش الذي يستخدم فيه القرآن مصطلح “أهل الكتاب”، وهو وصف يهدف إلى تسليط الضوء على القرابة الروحية والإيمانية بيننا وبين أتباع الديانات الأخرى؛ بحسب ما يقوله الشيخ محمد مهدي شمس الدين ويجب عدم الخلط بين المستويين؛ فالكفر يستخدمه أهله من العلماء في مكانهم عند دراسة وبيان الفروق، ويجب ألا يكون مصطلحا للتخاطب الاجتماعي أو الإعلامي، الذي يجب أن يهمين عليه خطاب المعاش أو أهل الكتاب.
يرى الأستاذ طارق البشري أن مجالات اللقاء الديني والحواري يجب ألا “تتعلق بالعقائد والمرجعيات العقدية، إنما يتعلق بآثار العقائد والمرجعيات الفكرية في التصرفات الاجتماعية والسلوك البشري، وفي التعامل بين الأفراد والجماعات، وهذا في ظني هو المجال الذي أوصى الإسلام المسلمين بالنشاط فيه. وهناك أمثلة كثيرة توضح لنا كيف يكون التمييز والحسم في مجال العقيدة، وكيف يمكن التدخل والتخلل في المجال الاجتماعي بين أهل العقائد المتباينة؛ لأن المجال العقدي يتعلق بالمطلقات، والمجال الاجتماعي يتعلق بالنسبيات التي تحسب المقادير وتقبل التجزئة، وتقبل التعايش والمجاورة”.
وكان الدكتور العوا قد أفتى بحرمة تداول أشرطة سودانية يتحدث فيها قساوسة سودانيون عن إسلامهم، حيث رأى أن ذلك يكدّر الأمن الاجتماعي، ولن يفيد مجتمعا متعددا متعايشا مثل المجتمع المصري.
وذات يوم من عام 1988 كتب الأستاذ فهمي هويدي في جريدة الأهرام: “اسمحوا لنا أن نسجل اعتراضا صريحا على ما يصدر من بعض الدعاة الإسلاميين من مقولات تمس الأقباط وتنال من عقائدهم؛ فمبلغ علمنا أن ذلك ليس من تعاليم الإسلام، ولا من أدبه، فضلا عن أننا لا نتصوره من مقتضى حسن الخطاب أو الغيرة على الدين. وهي تجرح وجه الإسلام ذاته وتشوه مشروعه الحضاري الذي نزعم جادّين بأنه قادر على صياغة حاضر الأمة ومستقبلها، في ظل تنوع مكوناتها الدينية والسياسية”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق