أديب الشيشكلي: العقيد السوري الذي رسم لمصر سيناريو تضييع أوطان العرب حتى الآن
إذا جاء ذكر الانقلابات العسكرية العربية عند من عاشوا حقبتها المزدهرة حين كانت الانقلابات لا تزال تتصارع (قبل أن تفرز الديكتاتور الأقسى الذي ينهيا لمصلحة عائلته) فإن أول اسم يأتي في الأذهان مرتبطا بها هو اسم العقيد أديب الشيشكلي مع أنه لم يكن صاحب أول انقلاب عربي ولا حتى أول انقلاب سوري، ذلك أن سلفه الأول الزعيم حسني الزعيم كان أستاذ الانقلابات العسكرية المباشرة أو التي من الطراز البسيط باعتباره قائد الجيش الذي ينقلب مباشرة على الرئيس الذي اختاره لمنصبه (مثل انقلاب ضياء الحق على ذو الفقار علي بوتو) لكنه لم يكن المثل الأعلى في ذهن الرئيس جمال عبد الناصر (وأمثال الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد) لسبب بسيط هو أنه سرعان ما اغتيل وأُزيح عن السلطة و لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر راغبا بالطبع في ملاقاة مصيره أو اقتفاء أثره، ولهذا فإنه كان حريصا على ألا يستغرق نفسه في الإنجاز الثوري و الإداري والاجتماعي مثل الزعيم حسني الزعيم فينشغل عن تأمين حياته و وجوده في السلطة، وهكذا كان قراره بتسليم الجيش لأقرب أصدقائه المشير عبد الحكيم عامر وإشراكه في كل شيء والاشتراك معه في كل شيء حتى لا يكون المشير عبد الحكيم هو الرئيس سامي الحناوي زعيم ثاني الانقلابات العسكرية السورية الذي انقلب على الزعيم حسني الزعيم في أغسطس 1949 مستخدما نفس الجيش الذي استخدمه الزعيم حسني الزعيم قبل أشهر معدودة في مارس 1949
أما العقيد أديب الشيشكلي قائد الانقلابين الثالث (ديسمبر 1949 ) والرابع (نوفمبر 1951 ) فهو الذي كان بمثابة المثل الأعلى والمتاح أمام بصر الرئيس جمال عبد الناصر في أن يستولي على السلطة على مراحل ، وأن يتدرج بضرب القوى السياسية بعضها ببعض ، و أن يظهر غيره في المواجهة في بعض الفترات ، وحين يقدر لأي سياسي درس عهد ثورة 1952 أن يقرأ تاريخ الانقلابات العسكرية العربية مع السلطة فإنه سيندهش من أن كل ما فعله الرئيس جمال عبد الناصر في السنوات الأولى من عهد ثورة يوليو 1952 كان نقل مسطرة أو ما يُسمّى الآن بلغة الكمبيوتر "كوبي ـ باست" مما فعله العقيد أديب الشيشكلي طيلة خمسين شهرا هي فترة وجوده في الصدارة السورية منذ ديسمبر 1949 و حتى ترك السلطة في فبراير 1954 .
أما العقيد أديب الشيشكلي قائد الانقلابين الثالث (ديسمبر 1949 ) والرابع (نوفمبر 1951 ) فهو الذي كان بمثابة المثل الأعلى والمتاح أمام بصر الرئيس جمال عبد الناصر في أن يستولي على السلطة على مراحل ، وأن يتدرج بضرب القوى السياسية بعضها ببعض ، و أن يظهر غيره في المواجهة في بعض الفترات ، وحين يقدر لأي سياسي درس عهد ثورة 1952 أن يقرأ تاريخ الانقلابات العسكرية العربية مع السلطة فإنه سيندهش من أن كل ما فعله الرئيس جمال عبد الناصر في السنوات الأولى من عهد ثورة يوليو 1952 كان نقل مسطرة أو ما يُسمّى الآن بلغة الكمبيوتر "كوبي ـ باست" مما فعله العقيد أديب الشيشكلي طيلة خمسين شهرا هي فترة وجوده في الصدارة السورية منذ ديسمبر 1949 و حتى ترك السلطة في فبراير 1954 .
الأستاذ المؤثر في أداء عبد الناصر
كان أداء العقيد أديب الشيشكلي إذاً هو المصباح المنير الذى استهدت به المرحلة الأولى( وما تلاها) من مسيرة الرئيس جمال عبد الناصر مع السلطة ، حتى إن الرئيس محمد نجيب نفسه شبه الوضع الذي أراد الرئيس عبد الناصر و زملاؤه الشبان تحجيمه فيه في فترة من الفترات بقوله إنهم يريدون أن يجعلوه مثل الرئيس فوزي سلو ، وقد ظل الرئيس عبد الناصر حريصا على ألا يستلم السلطة مباشرة وألا يكون رئيسا للجمهورية إلا بعد أن يُصفّي السياسيين ويتخلص منهم بالتدريج والتوريط والإذلال ، وقد فعل هذا بمهارة بالغة يندر وجودها ، ومن إحقاق الحق أن نقول إن الرئيس جمال عبد الناصر تفوق على الرئيس الشيشكلي في هذه الجزئية الانقلابية ثم تفوق عليه بعد ذلك في كل شيء سلطوي مكنه من الاستمرار .
ولد العقيد أديب الشيشكلي عام 1909 في حماة التي عرفت من أبنائها السياسيين عائلتين: عائلة البرازي التي كان منها حسني البرازي رئيس الوزراء في عهد الرئيس تاج الدين الحسني، ومحسن البرازي رئيس الوزراء في عهد الرئيس حسني الزعيم، وعائلة أكرم الحوراني مؤسس الحزب الاشتراكي الذي صار نائبا للرئيس جمال عبد الناصر في دولة الوحدة. وقد كانت والدة العقيد أديب الشيشكلي من عائلة البرازي وهي عائلة ذات أصول كردية، ويروى أنها كانت تنصحه وهو رئيس بالاستماع لخصومه بينما كان هو يعتقد أنهم لا يعطونه الفرصة.
جيش الإنقاذ وحرب 1948
بدأت علاقة العقيد أديب الشيشكلي بالحوراني قوية، لكنهما اختلفا حين فكر كلاهما في الرئاسة لنفسه وقد وصل الأمر بخلافهما إلى اقتتال بين العائلتين في حماة فقتل واصل الحوراني على يد غالب الشيشكلي وردت عائلة الحوراني بقتل القاتل.
كان العقيد أديب الشيشكلي في صباه يهرب من بيت أبيه ليُشارك في الثورة السورية الكبرى (1925 بل إنه فعلا انضم إلى ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق وقبض عليه في مخفر حدودي.
تلقى العقيد أديب الشيشكلي تعليما مدنيا ثم تحول إلى المدرسة الحربية في دمشق فتخرّج فيها وتطوع في جيش الشرق الفرنسي ثم انتقل إلى الجيش السوري وشارك في معركة تحرير سوريا من الفرنسيين 1945 ثم اشترك في جيش الإنقاذ الذي كونه فوزي القاوقجي لخوض معركة فلسطين وكان هو قائد لواء اليرموك الثاني في ذلك الجيش 1948.
اشترك العقيد أديب الشيشكلي في الانقلابين السوريين الأولين بقيادة الزعيم حسني الزعيم والرئيس سامي الحناوي لكنه تميّز عنهما بعلاقته بالحزب القومي السوري الاجتماعي.
أجاد تقديم نفسه وطنيا مستقلا
كان العقيد أديب الشيشكلي يُجيد الخطابة وكان يتدرب على خطبه قبل أن يُلقيها وهكذا كان لمستوى أدائه احترام افتقده العسكريون الذين لا يُعنوْن بصورتهم حين يخطئون كثيرا في خطاباتهم.
كان العقيد أديب الشيشكلي حريصا على أن يصور نفسه في الصحافة محافظا على استقلال سوريا من أن تتحد مع العراق فكانت النتيجة أنه مهّد للوحدة مع مصر، كانت علاقته متوترة مع الفرنسيين والبريطانيين ومع العراق وحزب الشعب ومع الرئيس إيميل البستاني ومشروع الهلال الخصيب
وليس هناك شك في أديب لم يكن يلقى ارتياح الإسرائيليين والأمريكيين على النحو الذي كان يلقاه غيره ومنهم الزعيم حسني الزعيم الذي كان مستحوذا على رضاهم منذ اللحظة الأولى من دون إعلان، والسبب في هذا أن العقيد أديب الشيشكلي حين حارب في فلسطين كانت له بصماته في انتصارات ذات قيمة على الإسرائيليين، وقد حفظ له التاريخ انتصاره في معركتي "ترشيحا" و"نهاريا".
كذلك فإن الكُتّاب العرب المتأثرين بالنزعات الغربية لا يُعجبهم ( بالطبع ومن دون تصريح ) من تاريخ العقيد أديب الشيشكلي مسارعته المبكرة للانضمام إلى جيش الإنقاذ العربي (الذي كان كفيلا بالقضاء على إسرائيل وهي في المهد لو أن العرب أخدوا الحرب الإسرائيلية بالجدية المطلوبة) كما أنهم لا يُعجبهم بالطبع ما أشرنا إليه لتونا من أن العقيد أديب الشيشكلي انتصر في معركتي "ترشيحا" و"نهاريا"، وقد كانت السياسة الأمريكية توجه الكتاب المتأثرين برؤية الغرب إلى التقليل من شأن كل قائد عسكري أحرز انتصارات في فلسطين (مثل محمد نجيب وعبد الحكيم عامر) لمصلحة أي ضابط لم يحقق انتصارات في فلسطين أو وقع في الحصار الإسرائيلي وتفاهم مع القوات الإسرائيلية تحت مظلة الهدنة أو الصليب الأحمر أو الأمم المتحدة (و نموذج هؤلاء معروف).
كذلك فإن حرص الموالين للغرب على التقليل من شأن العقيد أديب الشيشكلي يرجع إلى أنه أعلن عن رفضه كثيرا من العروض الأمريكية لتقوية سلطته بل إنه رفض معونات النقطة الرابعة التي كانت تجد قبولا في كثير من البلاد النامية.
أما الكُتّاب المتأثرون برؤية اليسار للصراع السياسي في المنطقة العربية فإنهم يصنّفون أديب على أنه سعودي/ أمريكي، ويبنون نقدهم له من هذا المنطلق الذي يصوره بعيدا عن البعثيين والقوميين العرب حتى على الرغم من استقلاليته أو ميله الواضح إلى القوميين السوريين. وفي تقييم الساسة السوريين (بطريقة اليساريين) فإن المعنى المقصود بلفظ الاستقلال أنه كان ضد علاقة سوريا القوية أو الوحدوية مع العراق، والمعنى المقصود بلفظ الاستقلال (على طريقة متطرفي اليساريين أو اليسار الأكثر تشددا) أنه كان مع علاقة سوريا بالسعودية ذلك أن السعودية هي التي كانت تحارب سرا وبدأب شديد أي تقوية للعرش الهاشمي في العراق أو في الأردن أو أي عودة لذلك العرش إلى سوريا.
كيف برر انقلابه الأول
برّر العقيد أديب الشيشكلي انقلابه الأول ببيان أذاعته إذاعة دمشق في 19 ديسمبر 1949 وقال فيه إنه ثبت أن رئيس الأركان الرئيس سامي الحناوي وعديله السيد أسعد أطلس يتآمران على النظام الجمهوري وأنهما لم يستمعا لنُصحه. وقد مكّنه هذا الانقلاب الأول من أن يرأس الأركان العامة وأن يخلق سلطة مزدوجة موازية لسلطة الرئيس هاشم الأتاسي، وقد كان العقيد أديب الشيشكلي رئيسا لما سُمي مجلس العقداء ثم حل هذا المجلس وكوّن المجلس العسكري الأعلى.
قبل أن يمضي عامان على انقلاب العقيد أديب الشيشكلي الأول في ديسمبر 1949 كان هو نفسه يقوم بانقلابه الثاني في 28 نوفمبر 1951 حيث اعتقل الدكتور معروف الدواليبي رئيس الوزراء وزجّ به في السجن مع معظم الوزراء، وهنا انتبه رئيس الجمهورية الرئيس هاشم الأتاسي إلى أنه هو المقصود بالإزاحة بهذا الانقلاب الجديد فتقدّم باستقالته في 24 ديسمبر 1951 ومرة أخرى لم يتقدم العقيد أديب الشيشكلي مباشرة ليحل محل الرئيس هاشم الأتاسي لكنه أحل الرئيس فوزي سلو محله. وإن كان قد أعلن نفسه متوليا رئاسة الدولة باعتباره رئيس الأركان العامة ورئيس المجلس العسكري الأعلى وذلك ليوم واحد هو 2 ديسمبر 1951، وفي اليوم التالي أسندت رياسة الجمهورية للرئيس فوزي السلو 1905- 1972 الذي ظل يشغلها حتى رأى العقيد أديب الشيشكلي أن يتولى الرياسة بنفسه فتولاها بعد استفتاء في 10 يوليو 1952 قبل ثورة مصر بأسبوعين.
هو الذي وضع دستور 1950 في عهده
فيما بين الانقلابين وضع العقيد أديب الشيشكلي دستورا جديدا في 5 سبتمبر 1950 ويذكر له أنه عند إعلان الاستفتاء على الدستور السوري أطلق الحريات وأعلن إلغاء جميع القيود الاستثنائية، ورفع الرقابة عن الصحف وأطلق سراح الموقوفين في السجون.. لكن هذا لم يشفع له، وهو ما اتعظ به جمال الرئيس جمال عبد الناصر فلم يضع دستورا إلا في 1956 ولا اتخذ إجراء من هذه الإجراءات بجدية.
ولما قام العقيد أديب الشيشكلي بانقلابه الثاني في ديسمبر 1951 ألغى الدستور الذي كان قد وضع في عهده هو نفسه، لكن السوريين أعادوا هذا الدستور في فبراير 1954 مع عزل العقيد أديب الشيشكلي، وبقوا يعملون به حتى عهد الوحدة مع مصر.
مضى العقيد أديب الشيشكلي في طريق احتكار السلطة واحتكار العمل السياسي أيضا بخطوات واسعة من خلال آليات كإنشاء (حزب) حركة التحرر العربية التي أعجب بها الرئيس جمال عبد الناصر فقرر تقلّيدها تقليدا كاملا بهيئة التحرير دون أن يعترف المصريون بأنهم يقلّدون تقليدا كاملا.
كانت عناية العقيد أديب الشيشكلي متوجّهة إلى وأد الحريات السياسية بالتدريج والتوالي فمنع الأحزاب ومنع انتماء الطلبة والمعلمين والموظفين والعمال إلى الأحزاب، وصادر كثيرا من الصحف.
وفي مقابل هذا نجح العقيد أديب الشيشكلي في أن يوفر الأمن والاستقرار على النحو المعروف في الدول الشرقية.
مناوراته مع الأحزاب
وعلى مدى 1952 بدأ العقيد أديب الشيشكلي مناوراته مع الأحزاب بسرعة بالغة:
في 15 يناير 1952 حظر الأحزاب كلها إلا حزب البعث والحزب القومي السوري.
وفي 6 أبريل 1952 أعاد حظر الأحزاب كلها بلا استثناء.
وفي 25 يونيو 1952 أعلن عن تأسيس حزبه هو، وسماه حزب التحرير العربي بادئا موجة الخداع السياسي العربي القائلة بأن من حق الحاكم أن يؤلّف لنفسه حزبا يفسد به الحياة السياسية بالأحادية والشمولية.
وفي 10 يوليو 1952 أجرى العقيد أديب الشيشكلي استفتاء للموافقة عليه هو نفسه رئيسا للجمهورية.
وبعد أن فاز برياسة الجمهورية أسند رياسة الوزارة لنفسه ‘وهكذا فإن العقيد أديب الشيشكلي تولى رئاسة الجمهورية السورية ما بين 11 يوليو 1952 و25 فبراير 1954 فقظ بينما تولى رئاسة الوزارة ما بين 19 يوليو 1953 أي بعد بداية رئاسة الجمهورية بثمانية أيام وحتى نهاية عهده في الرئاسة.
وفي 30 يوليو 1952 خفض العقيد أديب الشيشكلي عدد أعضاد البرلمان وأجرى انتخابات قاطعتها الأحزاب فجعلها تبدو كانتخابات أحادية وبحث العقيد أديب الشيشكلي عن حزب "كومبارس" يدخله معه، وفاز حزبه الصناعي الوليد ب 72 مقعدا من إجمالي مقاعد البرلمان 82 واختار الرئيس مأمون الكزبري ليكون رئيسا للبرلمان.
هكذا كان العقيد أديب الشيشكلي في روحه الانقلابية وممارسته السلطوية ملهما بأكثر بكثير من الزعيم حسني الزعيم ومن الرئيس سامي الحناوي حتى وإن قيل إن التجارب أفادته، لكنك لا تستطيع أن تُنكر أن عنايته كانت متجهة إلى السلطة نفسها وليس للزعامة وحدها، وهكذا فإنه نجح بأكثر من الزعيم حسني الزعيم وإن كان الرئيس جمال عبد الناصر قد نجح بأكثر منه بكثير واستمر لأطول منه بكثير وذلك بحكم فوائد الخبرة، وشبق السلطة، وجدوى التجربة.
إنجازاته الاقتصادية
من الإنصاف أن نشير إلى بعض إنجازات العقيد أديب الشيشكلي، فإليه يرجع الفضل في إنشاء ميناء اللاذقية، كما أنه هو الذي بدأ إقامة معرض دمشق الدولي، وفي عهده حققت سوريا طفرات في إنتاجها الزراعي.
وفي المجال الاقتصادي لجأ العقيد أديب الشيشكلي إلى فرض الضرائب التصاعدية وألغى الرقابة على النقد الأجنبي فسمح بدخوله، ومنع خروج النقد المحلي، وأصدر قانون الإصلاح العقاري لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، لكن درجة حسمه في مواجهة ديناميات السياسة وإصلاحاته الاقتصادية كانت محدودة مقارنة بصوته الإعلامي والسلطوي الجهير.
ومع هذا فإنه يُذكر للرئيس أديب الشيشكلي أنه لم يتورّط في الديون الخارجية ولا في طلب أي عون خارجي ولا في أي اتفاقية مشتركة تنتقص من استقلال السوريين وسيادتهم على أرضهم.
زعامة العنف
يُعد العقيد أديب الشيشكلي أول عربي استخدم العنف العسكري مع المواطنين العاديين، وقد قلّده الرئيس جمال عبد الناصر وحافظ الأسد فيما بعد. ويُذكر له أن لم يتورّط في المذابح والقتل بالدرجة التي أقبل عليها الرئيس حافظ الأسد وابنه، ومع أنه عسكري وانقلابي فإنه كان لا يُمانع في وجه ديموقراطي بل كان يسعى إلى مثل هذا الوجه، لكنه بالطبع، ومن دون أن يدري هو نفسه، لم يكن يُطيق المعارضة ولا الرأي الآخر ولا الوطنية ولا الحقيقة.
كانت أكثر معارك العقيد أديب الشيشكلي شراسة مع الموحدين الدروز وقد أسرف في التنكيل بهم رغم قوتهم ورغم إحرازهم انتصارات في مواجهته، لكنه قمع ما عرف بثورة الجيل (1954) .
مع تصاعد المعارضة ضد العقيد أديب الشيشكلي فإنه لكنه لم يكن قادرا على حوار ولا استجابة وظل يُعاند حتى اجتمعت ضده كل القوى في الشارع السياسي في ثورة شعبية دفعته إلى الهرب في 25 فبراير 1954 فانتقل من دمشق إلى بيروت إلى سويسرا والتقى بأسرته في اليونان 1958 ثم آثر أن يعيش في البرازيل.
مناورة الاستقالة
وحين قرر العقيد أديب الشيشكلي ترك السلطة كتب رسالة استقالته وسلّمها لمأمون الكزبري رئيس المجلس النيابي لكن إذاعة دمشق أغفلت قراءة الفقرة الأولى من الاستقالة التي تشير إلى تورط بعض ضباط الجيش في الخضوع لمؤثرات حزبية على حساب القضية العربية.
وقد تصادف تخليه عن مسئوليته مع نفس الوقت الذي كان على الرئيس جمال عبد الناصر أن يتخلى هو الآخر عن السلطة في مصر في أحداث فبراير ومارس 1954 بعد أن ثارت الجماهير المصرية والسودانية ضده بكثافة في أولى خطوات مناوراته الصريحة ، لكن الفارق أن السوريين أعادوا الرئيس هاشم الأتاسي للرئاسة باعتبار أن مدّته لم تنته و ليبدأوا فترة ربيع ديمقراطي حتي قيام الوحدة في فبراير 1958 ، أما الرئيس جمال عبد الناصر ورفاقه فقد حظوا بتوجيه خارجي مساند فوافقوا على عودة الرئيس محمد نجيب إلى مناصبه ريثما يجهزون لترتيبات أخرى يسيطرون بها بالأمن والتخويف على مقدرات الأمور وينفردوا بالسلطة وهو ما حدث مع عزل الرئيس محمد نجيب في نوفمبر 1954 وإنهاء الديموقراطية وتلاشي الأمل في أية عودة إلى الديموقراطية و ذلك تحت دعوى محاكمة الإخوان المسلمين على محاولتهم اغتيال الزعيم الذي أصبح هو مصر كما أصبحت مصر هي ذلك الزعيم.
تطوير السلطة العسكرية
لا شك أن الدروس التي تُتيحها قصة تقليد العقيد أديب الشيشكلي مع التطوير السلطوي كفيلة بأن تفتح أعين أي باحث سياسي على حقيقة انعدام الأمل في أن يسلك العسكر أي طريق للديموقراطية.
المتواتر أن العقيد أديب الشيشكلي دفع حياته ثمنا للعنف مع الدروز، فقد قتله أحدهم وهو في البرازيل بعد عقد كامل من تركه السلطة. وقد نقل جثمانه من البرازيل بعد وفاته.
ابنته تصحح وقائع تاريخه المروي
كان العقيد أديب الشيشكلي محظوظا بوفاء ابنته وفاء، وقد شاء القدر أن تتصدّى ابنته لتطرح رؤيتها في كثير من وقائع التاريخ المتعلّقة بوالدها مستغلة أجواء الحرية بعدما اندلعت الثورة السورية ضد بشار الأسد وعلى الرغم من هذا الاعتقاد الشائع بأن الدروز هم الذين قتلوا العقيد أديب الشيشكلي ثأرا لقتلاهم فإن ابنته ذهبت إلى القول بأن الذي دبّر قتل والدها في 1964 هو حزب البعث الذي تولى السلطة في 1963 (وذلك إجهاضا من السلطة لما كان يُشاع عن عودته!) وليس الدروز حتى وإن كان القاتل دُرزيا، وقد عززت استنتاجها بأن الاغتيال حدث في 1964 بعد تركه السلطة إلى المهجر بعشر سنوات، لكن بعد استيلاء البعث على السلطة بعام واحد، كما أشارت إلى أن البعث كرّم قاتل أبيها. وأن حكومة الأسد أرسلت وفدا رسميا للمشاركة وإلقاء الكلمات في جنازة "نواف أبو غزالة" الذي اغتال والدها عندما توفي، كما أن السلطة البعثية مجّدت أبو غزالة في أدبيات حزب البعث والدولة.
وقد وردت آراء السيدة وفاء ابنة العقيد أديب الشيشكلي في حوار صحفي مع عبد الله جار "زمان الوصل" (29 أبريل 2014) وقبل هذا في مقال لها في الحياة اللندنية 28 مارس 2012 تعليقا على مقال سليم نصار وفي مقال لها في عكاظ السعودية في 19 أبريل 2012 بعنوان " والدي لم يكن قاتلا مثل بشار".
وقد ألقت السيدة وفاء ابنة العقيد أديب الشيشكلي المسؤولية عن مذابح الدروز على رئيس الأركان العامة في دمشق وهو شوكت شقير وتُعلّلُ ابنة أديب هذا الاستنتاج بقولها بأن أباها اعتمد على هذا القائد في معالجة أزمة الدروز باعتباره درزيا مثلهم، ووصلت أيضا إلى القول بأن شوكت شقير هو الذي أرسل حملة عسكرية بقيادة رسمي القدسي لتدمير القوة الدرزية الثائرة ولسنا بحاجة إلى القول بأن التاريخ لا يعتد أوتوماتيكيا بمثل هذه الأقوال في تبرئة أبيها من مذبحة الدروز ، ولا من المسئولية عنها ، لكنّنا نستطيع أن نقدر فيه وأن نقدر له انسحابه من الحياة السياسية وعدم تماديه في الباطل بعد أن اتضحت الصورة له ولغيره.
بقي أن نشير إلى أن الكاتب الذي ارتبط اسمه بالعقيد أديب الشيشكلي هو الكاتب السوري قدري قلعجي 1917- 1986.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق