القاهرة الغريبة التي ضاقت بأهلها
نحن بصدد قاهرة جديدة، مختلفة كليًا عن شخصيتها الحقيقية، كما خطّها التاريخ بقلمه، وأطّرتها الجغرافيا بخطوطها، ودوّنها الأديب ورسمها الفنان، وخبرها المارّون والمقيمون.
هي قاهرة أجبروها على الانتحار، والتنازل عن كل ميراثها لعاصمة إدارية جديدة، لا ترحب بالمحبين، ولا تطيق العاديين والحقيقيين، لا تفتح ذراعيها إلا للمدجّجين بالثروة والنفوذ.
من الطبيعي والحال كذلك أن تُطرد فلسطينية المولد، مصرية الروح والشخصية والعيش، بيسان عدوان، تحتجز لدى ذهابها لتجديد إقامتها القانونية الممتدة ربع قرن تقريبًا، ويتم ترحيلها، وهي التي عاشت القاهرة وعرفتها، وعرفتها القاهرة وعاشتها أكثر من الذين اتخذوا قرار تجريدها من إقامتها ومصريتها الثابتة بالعمل والنضال وشراكة الخبز والملح والعرق والفرح والحزن والانتصارات الصغيرة والانهزامات الفادحة.
بيسان عدوان كانت جزءًا من كل مشاريع الصحافة المصرية الجديدة منذ نهاية التسعينيات، وحاضرة في الحياة الثقافية، حتى صارت مديرة لدار نشر تُعنى بالتنوير والثقافة الحقيقية. وقبل ذلك أو بعده هي تنتسب إلى عائلةٍ فلسطينيةٍ كانت القاهرة تباهي بنضالها، عندما كانت قاهرةً عربيةً كاملة الأوصاف، وليست قاهرةً تستدفئ بالغاز الإسرائيلي، وترهن قرارها السياسي وإرادتها بما تمنحه وتقرضه أبو ظبي والرياض، وغيرهما من حواضن الكراهية لثورات التغيير، ومشاريع الانعتاق من الاستبداد الذي يتغذى على التطبيع مع العدو.
قبل بيسان عدوان، فعلتها القاهرة مع رامي شعث، الفلسطيني المصري المولد والإقامة والجنسية، الذي عرف مصر وطنًا وعرفته مصر مواطنًا حقيقيًا وصالحًا، مشاركًا في كل ما عبر من أحداث وحوادث، حاضرًا في ثورة المصريين، وموجودا في كل فعاليةٍ تعلن حبها لمصر ودفاعها عنها، وتنتصر لفلسطين، فكانت تلك جريمته التي عاقبته عليها قاهرة عبد الفتاح السيسي بالاعتقال والحبس وترحيل زوجته الفرنسية.
اعتقلوه وحبسوه لأنه ناشط في حركة مقاطعة الكيان الصهيوني، وكما روى والده نبيل شعث، بعد أن فاض به الكيل "عندما ذهب رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، إلى مصر، واجتمع مع المسؤولين المصريين بشأن اعتقال ابني رامي، قالوا له: عامل لنا مشاكل، والبي دي إس عامل لنا مشاكل، وكلها يومين وبنفرج عنه".
رامي شعث الآن محبوس في السجون المصرية على ذمة قضية "خلية الأمل"، وهو المصري ابن المصري نبيل شعث الذي يحمل الجنسيتين، الفلسطينية والمصرية، منذ عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بموجب مرسوم رئاسي.
قبل بيسان عدوان ورامي شعث، فعلتها سلطات عبد الفتاح السيسي مع اللبنانية ليليان داود، مذيعة التلفزيون التي أمضت أعوامًا تعمل في الإعلام المصري، حتى طالتها آلة الإقصاء الشوفينية، على الرغم من أنها كانت تعيش وتعمل في مصر بموجب إقامة قانونية، لكنها مثل سابقيها عوقبت على انتمائها وانحيازها للشعب المصري في ثورته على الطغيان والاستبداد.
في مقابل استئصال المحبين وترحيلهم، وفي سياق مشروع السيسي لتحويل القاهرة إلى مجرد أطلال للماضي، والانتقال إلى عاصمة جديدة، أقرب إلى إسرائيل، جغرافيًا وروحيًا، يمكن لأي صهيوني الآن أن يتملك في الأراضي المصرية، ويشتري بيتًا ويحصل على إقامة وجنسية مصرية، بعد أن أقرّ البرلمان ووافق مجلس وزراء السيسي تشريع منح الجنسية مقابل نصف مليون دولار، ثمنًا لشراء عقار مملوك للحكومة، أو المشاركة في مشروع استثماري بما لا يقل عن أربعمائة ألف دولار، أو إيداع ثلاثة أرباع مليون دولار، مع إمكانية استردادها بعد خمس سنوات، أو ربع مليون دولار تؤول للخزانة العامة.
هكذا ببساطة، يمكن أن يكون الصهيوني مالكًا ومواطنًا في العاصمة الجديدة لمصر، بينما مصير محبيها والمخلصين لها الإبعاد والترحيل، أو التجريد من الجنسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق