حياة المصريين مهمة
وائل قنديل
تبدو مصر، مع فاجعة سحل فتاة محجّبة، في ضاحية المعادي في القاهرة، حتى الموت، قريبة للغاية من إطلاق شعار "حياة المصريين مهمة"، على غرار "حياة السود مهمة"، الشعار الذي جاب العالم كله، ولا يزال، بندًا ثابتًا في افتتاح الفعاليات الرياضية، منذ واقعة مقتل أميركي على يد رجل شرطة، وضع ركبته على رقبة الضحية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، صارخًا "لا أستطيع التنفس".
الفتاة مريم التي كانت قد خرجت إلى الشارع، عائدة إلى بيتها، بعد انتهاء مواعيد العمل. دفعت حياتها ثمنًا لحالة توحّش بشري عام، تتدحرج من أعلى هرم السلطة حتى تصل إلى القاع، حيث كان يكمن ذئبان بشريان في سيارة نقل ركاب قرّرا التحرش بالضحية، وخطف حقيبة يدها، فعلقت بالسيارة وسقطت على الأرض، حتى الموت مسحولة على أسفلت الطريق.
الصورة المنشورة للفتاة لا تشي على الإطلاق بأنها وجبة مناسبة للذئاب الشاردة، إذ لا تقول ملامحها أو ملابسها أنها من ذلك النوع المثير للإنتباه، والذي يقتل في مثل هذه الكوارث مرتين: مرة بمخالب التوحش السارح في الشوارع، ومرة أخرى بالتبرير الغبي الصادر عن أبواق محشوة بالبلادة، تجعل من هيئة الضحية مسوّغًا مساعدًا على افتراسها.
انفعال الناس مع تفاصيل اغتيال فتاة المعادي، وإن كان يعبر عن ضمير مجتمعي لا يزال حيًا، إلا أنه، من الناحية الأخرى، يشير إلى أن هذا الضمير يصحو على سطر، وينام على سطر آخر، أو ربما كان يكيل بمكيالين، أو يتأثر بإشعاعات الآلة الإعلامية التي ادّعت العمى والصمم في فاجعة اغتيال عويس الراوي في الجنوب، لكنها استنفرت كل أجزائها مع كارثة فتاة المعادي.
لا فرق بين جريمتي اغتيال عويس الراوي وقتل فتاة المعادي، إلا في نوعية القاتل.
في الأولى، كان الذئب يرتدي الزي الرسمي للشرطة.
وفي الثانية، كان الفاعلان ذئبين شاردين، مطلقي السراح في مدن مصر وقراها، استثمرا في مناخ عام للتوحش، يبدأ من السلطة، وينتهي عند المحكومين، وهو توحش يكون مبررًا وحلالًا إذا كان ضحاياه من"الإخوان"، الاسم الكودي الذي تعتمده السلطة لكل من يعارضها، ويكون التوّحش غير ذلك، إن أرادت السلطة استغلاله، لكي تزعم أمام الكل إنها طيبة وإنسانية ومحترمة.
ليس معلومًا بالضبط إن كان لدي ذئبي فتاة المعادي علم بذئابٍ مثلهم افترسوا فتاة تشبه ضحيتهما، اسمها هالة أبو شعيشع، في يوليو/ تموز 2013 بمدينة المنصورة أم لا.. لكن المؤكّد أن كل الذئاب في مصر باتت أكثر اطمئنانًا منذ سبع سنوات، وهي ترى لقب "المواطن الشريف" يمنح لبعضها، وهو الاطمئنان الذي يتزايد بمعدلات تتساوى مع معدلات تصاعد الرعب لدى المواطن العادي، من شيوع التوحش من القمة إلى القاع.
في يوليو/ تموز 2013، اعتدى "مواطن شريف"، يدعى سيد العيسوي، على مجموعة من المتظاهرات في مدينة المنصورة المصرية، فسقطت شهيدة تدعى هالة أبو شعيشع، من دون أن تهتز الضمائر الثورية والمجتمعية والقانونية، المشتعلة بالحماس للسلطة الجديدة التي استدعوها للتخلص من حكم الرئيس المنتخب، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، الدكتور محمد مرسي.
لم يعاقب القانون القاتل، ولم يعتبره الضمير المجتمعي قاتلاً، ولم يحاول أحد إشعال الضوء الأحمر، لكبح الاندفاع إلى المقتلة المصنوعة بعناية فائقة، إذ كان الكل مبتهجاً بالجريمة التي حققت غاياتهم السياسية اللحظية، من دون أن يتصدّى أحد إلى طغيان عصر القتل على الهوية، باسم الوطنية.
هذا السكوت على التوحش امتدّ ليخيم ويسود في مذابح جماعية أخرى، من رابعة العدوية، وحتى عويس الراوي، مرورًا بحوادث أخرى لا تختلف في تفاصيلها عن وقائع اغتيال فتاة المعادي، كما حدث مثلًا في واقعة سحل المستشار هشام جنينة، الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات، قبل نحو عامين، حين قطع عليه الطريق ذئبان شريفان، وأجبراه على النزول من سيارته، وأوسعاه لكمًا وضربًا، حتى سالت دماؤه، وانتهى الأمر بأن المستشار جنينة في السجن، بينما الجناة براءة، بل أن رعاة الذئاب لم يتورّعوا عن رواية الواقعة بالمعكوس، بحيث صار رجل القانون والمحاسبات، القاضي جنينة، هو من حاول افتراس الذئاب.
الشاهد أن التوحش يبدأ من الأعلى، فيتدحرج نزولًا إلى القاع، فيصير قانونًا مجتمعيًا، يعلو على القوانين المحبوسة في مجلدات التشريع، فإذا لمس المجتمع أن التوحش يصنف نوعًا من البطولة والوطنية أحيانًا، فلماذا لا يجرّب حظه مع التوحش ضد الفئات المستضعفة؟
وإذا وجد المجموع أن حياة الجزء لا قيمة لها في ظل مناخ هادر من الفاشية، فلماذا لا تنخفض قيمة الفرد عن الأفراد أنفسهم؟
في المجمل، ليس بعيدًا عن الحقيقة القول إن توحش السلطات ضد معتقلات ومسجونات يتم التنكيل بهن على منصّات القضاء، وسحلهن بالاتهامات الملفقة، كان المقدمة لحالة توحش عامة، تجسدت في كارثة اغتيال فتاة المعادي.
وكما سحلت السلطة هالة أبو شعيشع وأسماء البلتاجي، ثم عائشة الشاطر وعلا القرضاوي وهدى عبد المؤمن وإسراء عبد الفتاح وسلافة مجدي وسناء سيف، على أرضية القانون المعطّل والإجراءات الجائرة، سحلت الذئاب الفتاة مريم، على أسفلت الشارع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق