الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

رهين المحبسين.. طليق الحريتين

 رهين المحبسين.. طليق الحريتين


منصف المرزوقي

الرئيس التونسي

4/12/2018

من حقك بل من واجبك تنظيفٌ دوري للذهن، كأن تنسى ولو لحظة منشار محمد بن سلمان.. وسيارة يوسف الشاهد.. وأموال سليم الرياحي.. ومعطف الباجي السبسي.. و"سروال عبد الرحمن". أدِرْ ظهرك للمستنقع؛ سدَّ أنفك وابحث عن الهواء النقي وشساعة الرؤية بتسلق جبل، سواءً أكان من صخر أم من فِكْر. الجبل الذي أتسلقه هذه الأيام بكثير من المشقة واللذة هو "رسالة الغفران" للمعري (ذخائر العرب، دار المعارف – الطبعة التاسعة، تحقيق د. عائشة عبد الرحمن).

 

تجعلني الظروف أقرأ النص بروح السخرية التي أصبحَت لا تفارقني وقد حُكم عليّ -كما حُكِم علينا جميعا- أن نشاهد مآسينا تنقلب مهازل لم يعد ينفع في تحملها إلا الضحك.. وعلى كل حال أنت لا تفهم المعري إن لم تتسلّل لعقله الساخر، والتهكّمُ حاضرٌ في "الرسالة" من البداية إلى النهاية، متعدد المواضيع ومتعدد الطبقات في كل موضوع.

 

بالمناسبة؛ أليس من سخرية الأقدار أن "رسالة الغفران" -وهي أعظم نص أدبي ساخر بالعربية- بقيَت لِقرون مخفية، إلى أن أعادها لنا في نهاية القرن التاسع عشر إنجليزي اسمه نيكلسون؟ ناهيك عن أن عرب العصر لم يقدّروه حق قدره إلا وهم يكتشفون عمق تأثيره في الآداب الأوروبية، وكيف أن الشاعر الإيطالي الكبير دانتي استعار منه الكثير في رائعته "الكوميديا الإلهية". إنها نفس الظاهرة التي جعلتنا لا نكتشف ونعشق رباعيات الخيام إلا بفضل إنجليزي آخر اسمه فيتزجرالد.

 

في نفس السياق؛ تروي الدكتورة عائشة عبد الرحمن -الأديبة الكبيرة التي اشتهرت بـ"بنت الشاطئ"، وقضت عمرها في تتبع وتدقيق المخطوطات المتفرقة "للرسالة"- أنها سقطت بالصدفة في قرية مصرية على مخطوط بدون عنوان ولا مؤلف، ينام بين الرفوف منذ زمن لا يعلمه إلا الله؛ فإذا به "الرسالة" المنسية. صدق عزّ وجلّ في قوله "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ". ربما تناساه القوم وأهملوه كلَّ هذه العصور عمدا لأنهم لم يتحملوا تهكم المعري على كل مقدساتهم وأبطالهم المزعومين، بمن فيهم بطله هو في رحلته الخيالية العجيبة للآخرة واستكشاف المخلَّدين في الجنة وفي النار.

 

مرحبا بك في جحيم المعرّي. المفاجأة غير السارة ليست في غياب من تودّ رؤيتهم في السلاسل والأصفاد فحسب، وإنما في وجود كل من تحب من فطاحل الشعراء: عنترة، امرؤ القيس، طرفة، الأخطل، الشنفرى

الصدمة من البداية حيث لا يدخل "ابن القارح" الجنة بفضل أعماله الصالحة (وهي معدومة) وإنما بالمحسوبية والوساطة (وساطة أهل البيت)، وكأن المعري يقول: البشر هم البشر؛ أحياءً وأمواتا يحتالون على الآخرة كما يحتالون على الدنيا. تعالَ معي نتابع هذا البطل وهو يتفقد أحوال أهل النار وسنعود معه لاحقا للجنة.

 

أتوغّل في "الرسالة" لأنتبه إلى أنني أقضي في قراءة الهوامش وتفسير المحقّق للكلمات أكثر مما أقضي من الوقت في قراءة النص نفسه. ها أنا أنفجر في وجه أبي العلاء: يا رجل، كُفّ عنا استعراض عضلاتك اللغوية والبلاغية والنحوية، وعدد من تعرف من كبار الشعراء؛ فالشيء إذا بولغ فيه انقلب إلى ضده. مجرّد انتقام سحري من كاتب موسوعي كما لم تعرف له لغة الضاد مثيلا، يجعلني أكتشف عمق جهلي بلغة كنت أتوهم أنني ضليع بها ومِنها متمكن.

 

مرحبا بك في جحيم المعرّي. المفاجأة غير السارة ليست في غياب من تودّ رؤيتهم في السلاسل والأصفاد فحسب، وإنما في وجود كل من تحب من فطاحل الشعراء: عنترة، امرؤ القيس، طرفة، الأخطل، الشنفرى (الذي لي معه حسابات قديمة صفّيتُها في كتابي "شعراء بلا حدود")، وغيرهم. الأكثر ضربا للمعنويات هي الأسباب التي بها حَكم القضاء والقدَر على خيرة العقول العربية لتلك العصور، لكي تجد نفسها في الأصفاد والأغلال. قد أفهم أن يُخلّد في جهنم زنديق من اليمن يُعرف بالمنصور، مَدح نبيا مزيّفا وجاهر بكفره منشدا:

 

خذي الدف يا هذه والعبي ** وبثّي فضائل هذا النبي

فما نبتغي السعي عند الصفا ** ولا زورة القبر في يثرب

إذا القوم صلّوا فلا تنهضي ** وإن صوّموا فكُلي واشربي

 

لكن أن يُحكم بالعذاب الأبدي على الأخطل فوالله إنه لضرب من تجاوز السلطة. انظر ما يورد المعري على لسان ابن القارح كسبب لإدانة هذا الشاعر العبقري بأقصى عقوبة، بما أنه لم يعد هناك إعدام يكون خلاصا بالموت:

 

"وإذا هو برجل يتضوّر فيقول: من هذا؟ فقال: الأخطل التغلبي. فيقول له: ما زالت صفتك للخمر حتى غادرتك أكلا للجمر".

 

ما الأبيات التي ارتكبها الشاعر لتسلمه لجمر لا ينطفئ أبدا؟ قوله:

 

فصبّوا عقارا في الإناء كأنها **  إذا لمحوها جذوة تتأكّل

فلذّت لمرتاح وطابت لشارب ** وراجعني منها مراح وأخيل

(ص 345)

 

خلافا لأغلبية الشعراء؛ وضع المعري الباكية المزمنة في الجنة حتى وإن كان مكانها على الحدود المتاخمة لجهنم. إنه موقف مسؤول لا يسعني إلا الثناء عليه

بضعة أبيات في مدح خمر -أصبحت مُجازة في الجنة- كافية لتنتهي في سقَر!! ثمة أيضا سبّ الرؤساء، أو حرية الرأي والتعبير كما نسميها اليوم. انظر لماذا انتهى بشار بن بُرد أسوأ نهاية، بيت يتيم وإذا هي المصيبة العظمى:

 

ليس الخليفة بالموجود فالتمسوا ** خليفة الله بين الناي والعود

 

يصل الكلام إلى الخنساء. تابعْ معي ما يقوله المعري على لسان ابن القارح:

 

"فإذا هو بامرأة في أقصى الجنة قريبة من المطلع إلى النار؛ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا الخنساء السلمية".

 

أوف.. خلافا لأغلبية الشعراء؛ وضع المعري الباكية المزمنة في الجنة حتى وإن كان مكانها على الحدود المتاخمة لجهنم. إنه موقف مسؤول لا يسعني إلا الثناء عليه. لأذكّر هنا الجهّال بالأنساب بأن المرازيق أحفاد بني سليم، وهم قوم الخنساء. مما يعني أنها جدتي الأسطورية وربما الحقيقية، ومن ثَم كان ابتهاجي بموقف المعري (حتى ولو أن فكرة قضاء جدتي كل الأبدية محفوفة بالغلمان المخلّدين تثير لديّ مشاعر ملتبسة، والكل يعلم فِيمَ يقضي وقتهم الصالحون والصالحات).

 

لا علينا من هذه الجنة التي لا شغل فيها غير ممارسة كل ما حرمه الدين في الدنيا وأباحه في الآخرة. المهمّ. تردّ الخنساء على سؤال ابن القارح عن سبب وجودها على التخوم الفاصلة بين النار والجنة: "أحببتُ أن أنظر إلى صخر، فاطّلعت فرأيته كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه، فقال لقد صحّ مزعمك فيّ، يعني قولي:

 

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ** كأنه علَم في رأسه نار"

(ص 308)

 

هنا أتوجه بلغة أهل الحداثة والنمط للمعري: "ستوب" يا هذا.. الخنساء خط أحمر!! تقول لماذا هي خطّ أحمر؟ ألم أقل لكم إنها جدتي الأسطورية وربما الحقيقية؟ كيف أرضى لجدتي أن تضام؟ ثم بالله عليكم ألا يكفي أن المرأة بكت طيلة حياتها موت صخر، وها هي بسبب كلمة طائشة تتسبب له فيما هو أفظع من الموت: العذاب الأزلي. مما يعني أنها ستعود من جديد للبكاء أبدية بأكملها. يا للعقاب الرهيب (حتى ولو أن مزيته الوحيدة أنه سيشغل جدتي عن "الغلمان المخلّدين" آنفي الذكر، وعدم تعريض شرف القبيلة لما لا يقبله الأجداد والأحفاد).

 

والآن تأمّل خطورة ما يوحي بها هذا الرجل غير المسؤول وهو يسخر من امرأة احترمها الفاروق أيما احترام. كيف يخلّد في النار شخص مثل صخر؟ أليس…

 

هو الفتى الكامل الحامي حقيقته ** مأوى الضريك إذا ما جاء منتابا

المجد حُلّتُه والجود علّتُه ** والصدق حوزته إن قرنُه هابا

خطّاب محفلة فرّاج مظلمة ** إن هاب معضلة سَنّى لها بابا

 

أيُحكم بالعذاب الأبدي على جواد صادق "فرّاج مظلمة"؟ إله ظالم في الآخرة ظلمه في الدنيا؟ وربما إله ساديّ افتعل الاستجابة لدعاء الخنساء ليسخر من بريئيْن وقعا في حبائل مكره. أضف لهذا أن المعري لم يكفّ جهرا وتلميحا عن التأكيد بأن الآخرة -كما يروّج لها الخبثاء ويؤمن بها السذّج- صورة مضخّمة لدنيا الظلم التي يتمتع فيها صغار النفوس بكل الملذات الحسية البهيمية، بينما يُحكم على كبار العقول بالشقاء والبؤس..؛ وهو ما معناه: لا تنتظروا عدلا من إلهكم إنه ظالم لكم دنيا وآخرة.

 

تأتي بعد هذا بنت الشاطئ لتقول لك إن المعري ليس زنديقا. يا بنت الحلال.. الرجل زنديق ونصف، ولم يكذب عليه ابن الجوزي وهو يعدّه إلى جانب التوحيدي وابن الراوندي ثالث أكبر الزنادقة في الإسلام. أليس هو من قال متهكما على جميع الأديان:

 

عجبتُ لِكسرى وأشياعه ** وغسل الوجوه ببول البقر

وقـــول اليـهـود إلـه يحـب ** رشاش الدماء وريح القتـر

وقول النصارى إله يُضـــام ** ويُظلــم حيــًّـا ولا ينتصــر

وقوم أتوا من أقاصي البلاد ** لرميِ الجمار ولثم الحجر

 

بنت الشاطئ كالكثيرين سجينة للثنائيات الساذجة: إما أن تكون مؤمنا وإما أن تكون ملحدا، لذلك رمت بكل إلحاد المعري جانبا لتركّز فقط على إيمانه

كفى حبا أعمى يا ستّي، فأنا أيضا أحب الرجل لكن بعينين مفتوحتين. هنا قد تواجهك المرأة الطيبة بكم من استشهاد وكأن قائله شيخ تقي ورع من أجود طراز. عيّنة:

 

"الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب. فتبارك الله القدوس".

 (ص 226)

 

ولو!

 

كيف لي أنا المسلم المؤمن أن أغفر للمعري سخرية لا تطاق من مقدساتي؟ بتفحص الإشكالية بالعقل الذي وضعه المعري نبراسا للفكر. بنت الشاطئ كالكثيرين سجينة للثنائيات الساذجة: إما أن تكون مؤمنا وإما أن تكون ملحدا، لذلك رمت بكل إلحاد المعري جانبا لتركّز فقط على إيمانه. لكن حصر الرجل في إيمانه ونسيان إلحاده مثل حصره في إلحاده وإغفال إيمانه؛ فالمعري عقل أوسع من أن تسعه الثنائيات الساذجة، لأنه في الواقع ملحد ومؤمن.. مؤمن/ملحد.. "مؤمنملحد".

 

والآن أهم سؤال: بماذا هو مؤمن وبماذا هو كافر؟ ما الذي قبله عقله وقلبه وماذا لفظ العقل والقلب؟ بداهة هو مؤمن أشد الإيمان بوجود واحد أحد أرفع من أن يختزل في أي منظومة فكرية، وخاصة في ثنائيات تبسط كل شيء مثل ثنائية الظلم والعدل. هو كافر أشد الكفر بالتصورات السطحية له نتيجة قراءات حرفية ساذجة للنصوص المقدسة، وبهذا تراه سبق بتسعة قرون غاندي في مقولته الشهيرة: "إنما الأديان لغات ناقصة يتكلم بها بشر ناقصون في محاولة يائسة للتعبير عن حقيقة كاملة".

 

هو لم يسخر من الحقيقة الكاملة بل بالعكس أراد أن يخلصها من الأدران التي ألصِقت بها لتشعّ أكثر. هو سخر فقط من اللغة الناقصة ومن الناقصين الذين يستعملونها كأنه يقول لهم: أفيقوا.. انضجوا. قيل عن رابعة العدوية إنها ردّت على من سألوها: إلى أين تركضين بهذا المشعل الملتهب وبهذا الطشت من الماء؟ قالت لأطفئ نار جهنم بالماء وأحرق الجنة بهذا اللهب، حتى يُعبد البشر الله دون خوف أو طمع. لم يفعل المعري إلا نفس الشيء ولنفس الهدف، والماء والنار عنده الكلمات.

 

المعري صاحب معادلة وُفّقت في تربيع الدائرة: الإيمان العميق الطاهر غير الخائف غير الطامع في الذي يعطي لكل موجود وجوده ولكل معنى معناه + التمسك بمكارم الأخلاق التي جاء الرسول الكريم ليعلمنا إياها + التصدي بالسخرية والتنديد لتدين الخبثاء وهم لا يبتغون به إلا الدنيا + الصبر على تدين البؤساء وهم لا يبتغون به إلا العزاء والسلوى لكل ما رفضته لهم هذه الدنيا.

 

لم يبق لي إلا ذريعةُ تغفر للمعري فعله بصخر وبالخنساء: العَدَس طبعا. كان الرجل معرضا عن كل ملذات الدنيا، ومن ثمة ضعف إغراء ملذات "آخرتهم". كان نباتيا عاش طول عمره على الخبز الحافي والعدس. مؤكَّدٌ أنه كان في أوج عسر هضم عدس مغشوش، فتعكّر مزاجه وشاءت الصُّدف اللعينة أن يَحدث ذلك وهو يكتب في الخنساء. تقول: أتسخر يا هذا من شيخ الساخرين؟ لا والله لن أتجاسر على رجل قال مغلقا الباب في وجه كل متطاول:

 

وما يُضير البحرَ أمسى زاخرا ** أنْ رمَى فيه غلامٌ بِحجرْ

رحم الله أبا العلاء.. أتعبَ كارهيه كما أتعب محبّيه على مر العصور.

 

سَمَّوه رهين المحبسين: البيت والعمى، والحال أنه كان وسيبقى طليق الحريتين: حرية الفكر.. والحرية القصوى التي لا يحققها إلا التعفف والزهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق