السيسي يريد إسقاط الانقلاب
تبدو مصر، في هذه اللحظة، وقد لفت رقبتها بحبل، طرفه الأول في أبو ظبي والثاني في تل أبيب، من دون أدنى قدرةٍ على المقاومة، أو محاولة للانعتاق.
هذا التسارع المخيف في خطوات الحلف الإماراتي الإسرائيلي، للسيطرة على المنطقة، يقدّم دليلًا آخر على أن أبو ظبي لم تكن تلهو بالأموال، عندما أنفقت على عبد الفتاح السيسي بسخاء، وموّلت انقلابه، في مراحل التحضير، وبعد التنفيذ، بمنتهى الكرم، بل لم يكن ذلك كله مجانًا، أو حبًا في السيسي، أو مصر.
كانت المسألة أقرب إلى مشروع استثماري للمستقبل، أكثر من كونها عملية تغيير سياسي، تل أبيب تخطط، وأبو ظبي، ومعها الرياض، تموّلان، والسيسي ينفذ، وها هو المستقبل قد حضر، وصار واقعًا كئيبًا، تعلن فيه كل من الإمارات وإسرائيل نجاحهما في الهيمنة الكاملة على حكم مصر.
إذن، لم تكن أبو ظبي تبعثر فوائضها المالية عبثًا، في العام 2013، بل كانت تنفق على بنية أساسية محورها هو عبد الفتاح السيسي، لتبدأ جني الثمار في العام 2020.
موّلت الإمارات عبد الفتاح السيسي لإقامة مجتمعات عمرانية، أشبه بكانتونات عازلة، تضع مجتمع السلطة والثروة في أماكن مغلقة، ومنفصلة عن الواقع الحقيقي للمجتمع المصري، فأنشأت له عاصمة إدارية أقرب جغرافيًا وقيميًا للكيان الصهيوني، وضخّت له المال الغزير لإنشاء منتجعات سياحية، على ساحل المتوسط، تشبه علب دبي الزجاجية الصمّاء، ولم تبخل عليه الرياض، في البدايات، بما يكفي لإنشاء مجتمعات للأثرياء في العين السخنة.
أنماط مختلفة من الاستثمار البذخي السفيه، يصنع معمارًا، لكنه لا يقيم عمرانًا، بالمعنى الاجتماعي والحضاري والإنساني لمفهوم العمران. وفي المقابل، تتعطل عملية التنمية الحقيقية، ويتم تدمير ما تبقى من معالم قاعدة صناعية قديمة، من خلال بيع وتفكيك المصانع وشركات الإنتاج الحقيقي، الحديد والصلب نموذجًا صارخًا، والبقية في الطريق.
من ينظر من بعيد يرى مصر وكأنها تتحوّل من وطن يسعى إلى النهوض زراعيًا وصناعيًا وثقافيًا، إلى مقاولة بناء إسكان سياحي فاخر لشعب غير الشعب المصري، ولأناس آخرين، فيما تتعطّل التنمية الحقيقية، ويصبح مشروعًا مثل تنمية محور قناة السويس مجرّد عناوين في صحف كذوب، ودوائر ومربعات حمراء وخضراء وزرقاء في عرض تقديمي presentation في حفلٍ من حفلات السيسي، يقدّمه موظف التسويق الموهوب في ترتيب الكلام الخادع، السيد مصطفى مدبولي، رئيس حكومة جنرال الانقلاب.
عندما كانت كل من أبو ظبي وتل أبيب حاضرتيْن بقوة في تنفيذ انقلاب السيسي على مرسي، قلت عنه إنه "انقلاب جبل علي"، تلك المنطقة التجارية الحرّة التي تعيش على عوائدها الإمارات، والتي وجدت نفسها أمام تهديد وجودي، مع إعلان حكومة الرئيس محمد مرسي عن البدء في تنفيذ محور تنمية قناة السويس، لتعود معها مصر المرتكز الأهم للتجارة والصناعة في العالم.
هذه الخطوة كانت من أسباب القرار الإقليمي، بشن العدوان الثلاثي (الإماراتي – الإسرائيلي - السعودي) على مصر الجديدة، مصر ما بعد ثورة يناير، وإجهاض هذه التجربة مهما كلفهم الأمر .. وقد كان، حيث كانت الخطوة الأولى لنظام الجنرالات، بقيادة السيسي، تجميد مشروع تنمية خليج السويس، وقلت، في ذلك الوقت، إنه لو صحّت الأخبار الخاصة بإلغاء حكام مصر الجدد مشروع تنمية خليج السويس، على وقع أنباء التبرّعات والمكافآت القادمة من ثلاثي دعم الانقلاب، فإننا نكون أمام صورةٍ شديدة الوضوح لمصر التي في خاطر أصحاب العروش، وليست تلك التي في خاطرك وفي دمك، بل مصر العجوز المحتاجة، لا مصر الباحثة عن الانطلاق والتحرّر والقيام من تحت ردميات زمن التبعية والتطبيع.
الآن بعد سبع سنوات، جاء الوقت لتحصد الإمارات وإسرائيل العوائد والثمار، وتسرّعان خطوات الانتقام من قناة السويس، بتحويلها إلى بحيرة ميتة، أو ممر مائي معطّل، فيما تنفذان مشاريعهما البديلة للاستحواذ على حركة التجارة العالمية، وبشكل خاص نقل البترول والطاقة، عبر الأراضي السعودية، ليتضح، في نهاية المطاف، أن بيع عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير، أو تنازله عنهما، لم يكن سوى حلقةٍ من حلقات مشروع متكامل، لفرض نفوذ المحور الاستعماري الجديد على مصر والشرق الأوسط، فتكون الخسارة المصرية مضاعفة: فقدان جزيرتين استراتيجيتين بما يهدر أمن مصر القومي.. ومنحهما للمحور الناشئ قاعدتين بحريتين للتجارة والنقل، على حساب حصة قناة السويس.
يحدث ذلك كله، بينما صارت تل أبيب قريبةً من تعليق لافتة تقول "التطبيع بأسبقية الحجز"، بالنظر إلى التساقط السريع لقطع الدومينو العربية، والتدافع المحموم على أبواب إسرائيل، فيما تجد مصر نفسها تحت حصار مافيا نظام السيسي في الداخل، وقوى الهرولة الإقليمية في الخارج، غير قادرةٍ على المقاومة أو الرفض، والدفاع عن وجودها، بعد أن سمّموها ببلح الإمارات المسموم، فأصابتها لوثةٌ تدفعها إلى الصراخ ضد تركيا وقطر، كلما أحكمت الإمارات وإسرائيل وضع الحبل على رقبتها.
على أن الصورة لا تخلو من مفارقاتٍ أكثر إثارة، حين يدرك الجنرال الذي هو صنيعة الانقلاب الإماراتي الإسرائيلي، أنه مهدّد في وجوده مع وصول الانقلاب الذي بدأ في صيف 2013 إلى محطته الأخيرة في خريف 2020، وبدء مرحلة قطف الثمار الجديدة، والتخلص من كل الثمار القديمة المعطوبة، عملًا بقاعدة "الانقلاب يأكل أبناءه" الذين يقفزون من الحافلة، هاتفين بسقوطه، والباقين حتى الرمق الأخير.
وائل قنديل
تبدو مصر، في هذه اللحظة، وقد لفت رقبتها بحبل، طرفه الأول في أبو ظبي والثاني في تل أبيب، من دون أدنى قدرةٍ على المقاومة، أو محاولة للانعتاق.
هذا التسارع المخيف في خطوات الحلف الإماراتي الإسرائيلي، للسيطرة على المنطقة، يقدّم دليلًا آخر على أن أبو ظبي لم تكن تلهو بالأموال، عندما أنفقت على عبد الفتاح السيسي بسخاء، وموّلت انقلابه، في مراحل التحضير، وبعد التنفيذ، بمنتهى الكرم، بل لم يكن ذلك كله مجانًا، أو حبًا في السيسي، أو مصر.
كانت المسألة أقرب إلى مشروع استثماري للمستقبل، أكثر من كونها عملية تغيير سياسي، تل أبيب تخطط، وأبو ظبي، ومعها الرياض، تموّلان، والسيسي ينفذ، وها هو المستقبل قد حضر، وصار واقعًا كئيبًا، تعلن فيه كل من الإمارات وإسرائيل نجاحهما في الهيمنة الكاملة على حكم مصر.
إذن، لم تكن أبو ظبي تبعثر فوائضها المالية عبثًا، في العام 2013، بل كانت تنفق على بنية أساسية محورها هو عبد الفتاح السيسي، لتبدأ جني الثمار في العام 2020.
موّلت الإمارات عبد الفتاح السيسي لإقامة مجتمعات عمرانية، أشبه بكانتونات عازلة، تضع مجتمع السلطة والثروة في أماكن مغلقة، ومنفصلة عن الواقع الحقيقي للمجتمع المصري، فأنشأت له عاصمة إدارية أقرب جغرافيًا وقيميًا للكيان الصهيوني، وضخّت له المال الغزير لإنشاء منتجعات سياحية، على ساحل المتوسط، تشبه علب دبي الزجاجية الصمّاء، ولم تبخل عليه الرياض، في البدايات، بما يكفي لإنشاء مجتمعات للأثرياء في العين السخنة.
أنماط مختلفة من الاستثمار البذخي السفيه، يصنع معمارًا، لكنه لا يقيم عمرانًا، بالمعنى الاجتماعي والحضاري والإنساني لمفهوم العمران. وفي المقابل، تتعطل عملية التنمية الحقيقية، ويتم تدمير ما تبقى من معالم قاعدة صناعية قديمة، من خلال بيع وتفكيك المصانع وشركات الإنتاج الحقيقي، الحديد والصلب نموذجًا صارخًا، والبقية في الطريق.
من ينظر من بعيد يرى مصر وكأنها تتحوّل من وطن يسعى إلى النهوض زراعيًا وصناعيًا وثقافيًا، إلى مقاولة بناء إسكان سياحي فاخر لشعب غير الشعب المصري، ولأناس آخرين، فيما تتعطّل التنمية الحقيقية، ويصبح مشروعًا مثل تنمية محور قناة السويس مجرّد عناوين في صحف كذوب، ودوائر ومربعات حمراء وخضراء وزرقاء في عرض تقديمي presentation في حفلٍ من حفلات السيسي، يقدّمه موظف التسويق الموهوب في ترتيب الكلام الخادع، السيد مصطفى مدبولي، رئيس حكومة جنرال الانقلاب.
عندما كانت كل من أبو ظبي وتل أبيب حاضرتيْن بقوة في تنفيذ انقلاب السيسي على مرسي، قلت عنه إنه "انقلاب جبل علي"، تلك المنطقة التجارية الحرّة التي تعيش على عوائدها الإمارات، والتي وجدت نفسها أمام تهديد وجودي، مع إعلان حكومة الرئيس محمد مرسي عن البدء في تنفيذ محور تنمية قناة السويس، لتعود معها مصر المرتكز الأهم للتجارة والصناعة في العالم.
هذه الخطوة كانت من أسباب القرار الإقليمي، بشن العدوان الثلاثي (الإماراتي – الإسرائيلي - السعودي) على مصر الجديدة، مصر ما بعد ثورة يناير، وإجهاض هذه التجربة مهما كلفهم الأمر .. وقد كان، حيث كانت الخطوة الأولى لنظام الجنرالات، بقيادة السيسي، تجميد مشروع تنمية خليج السويس، وقلت، في ذلك الوقت، إنه لو صحّت الأخبار الخاصة بإلغاء حكام مصر الجدد مشروع تنمية خليج السويس، على وقع أنباء التبرّعات والمكافآت القادمة من ثلاثي دعم الانقلاب، فإننا نكون أمام صورةٍ شديدة الوضوح لمصر التي في خاطر أصحاب العروش، وليست تلك التي في خاطرك وفي دمك، بل مصر العجوز المحتاجة، لا مصر الباحثة عن الانطلاق والتحرّر والقيام من تحت ردميات زمن التبعية والتطبيع.
الآن بعد سبع سنوات، جاء الوقت لتحصد الإمارات وإسرائيل العوائد والثمار، وتسرّعان خطوات الانتقام من قناة السويس، بتحويلها إلى بحيرة ميتة، أو ممر مائي معطّل، فيما تنفذان مشاريعهما البديلة للاستحواذ على حركة التجارة العالمية، وبشكل خاص نقل البترول والطاقة، عبر الأراضي السعودية، ليتضح، في نهاية المطاف، أن بيع عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير، أو تنازله عنهما، لم يكن سوى حلقةٍ من حلقات مشروع متكامل، لفرض نفوذ المحور الاستعماري الجديد على مصر والشرق الأوسط، فتكون الخسارة المصرية مضاعفة: فقدان جزيرتين استراتيجيتين بما يهدر أمن مصر القومي.. ومنحهما للمحور الناشئ قاعدتين بحريتين للتجارة والنقل، على حساب حصة قناة السويس.
يحدث ذلك كله، بينما صارت تل أبيب قريبةً من تعليق لافتة تقول "التطبيع بأسبقية الحجز"، بالنظر إلى التساقط السريع لقطع الدومينو العربية، والتدافع المحموم على أبواب إسرائيل، فيما تجد مصر نفسها تحت حصار مافيا نظام السيسي في الداخل، وقوى الهرولة الإقليمية في الخارج، غير قادرةٍ على المقاومة أو الرفض، والدفاع عن وجودها، بعد أن سمّموها ببلح الإمارات المسموم، فأصابتها لوثةٌ تدفعها إلى الصراخ ضد تركيا وقطر، كلما أحكمت الإمارات وإسرائيل وضع الحبل على رقبتها.
على أن الصورة لا تخلو من مفارقاتٍ أكثر إثارة، حين يدرك الجنرال الذي هو صنيعة الانقلاب الإماراتي الإسرائيلي، أنه مهدّد في وجوده مع وصول الانقلاب الذي بدأ في صيف 2013 إلى محطته الأخيرة في خريف 2020، وبدء مرحلة قطف الثمار الجديدة، والتخلص من كل الثمار القديمة المعطوبة، عملًا بقاعدة "الانقلاب يأكل أبناءه" الذين يقفزون من الحافلة، هاتفين بسقوطه، والباقين حتى الرمق الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق