الاثنين، 5 أكتوبر 2020

أسرار الصحة النفسية

أسرار الصحة النفسية

د. ليلى حمدان
الصحة النفسية مطلب عام لكل نفس بشرية، تناولته الدراسات النفسية القديمة والحديثة باهتمام وتركيز مستمرين، ولكن علماء المسلمين كانوا الأكثر قدرة على سبر أغوار هذا العلم منذ زمن بعيد وعلى رأسهم الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله الذي سأعتمد على خلاصاته النيّرة في هذا الطرح.

وبالمقارنة بين خلاصات الدراسات النفسية الغربية والإسلامية نصل لنفس خلاصة المختص في هذا المجال، محمد الشناوي في كتابه “خصائص شخصية المسلم في كتابات ابن القيم” حين قال:”ومن هنا نجد أنه من غير المناسب أن يستعير أي مجتمع نظريات للشخصية تطورت في مجتمعات أخرى تختلف عنه في المعتقدات والعادات والقيم، ولذا لابد للباحث المسلم أن يبحث عن التصور الإسلامي لشخصية الإنسان وطبيعتها ومفهوم إسلامي للسلوك السوي والمنحرف”.

تعريف الصحة النفسية

اختلفت تعريفات الصحة النفسية وتباينت باختلاف الأفهام وتباينها، فبعضهم يرى الصحة النفسية خلو النفس من الأمراض، وآخرون يرونها تحقيق التوازن في النفس، وذهب آخرون إلى أنها تحقيق التوافق والتكيّف، أو تحصيل السعادة والاستقرار، وعرفها فريق بعبارة واحدة “تحقيق الذات”.

لن نطيل الحديث في تعريفات الصحة النفسية، فهي مختلفة باختلاف مدارس وثقافات الباحثين ووجهات نظرهم.

وما يهمنا في هذا الطرح هو تقديم الخلاصات المتينة التي تُستقى من مصادر الإسلام العظيم، وبالتالي فإن الصحة النفسية وفق الإسلام هي أن يعيش الإنسان على فطرته في قرب من الله وسلام مع الناس ووئام مع النفس، وسلامة في الجسد ونجاح في الحياة.

وما يزيد الإلحاح للتمسك بالتعريف الإسلامي للصحة النفسية هو القصور اللافت الذي يعتري الدراسات الغربية مع النفس وإغفالها للجانب الروحي مما ألحق الاضطراب بخلاصاتها التي اقتصرت على النفس بحد ذاتها والماديات بعيدًا عن حقيقة خالق هذه النفس، الله سبحانه وتعالى، وعن حقيقة الخلق وما بعد الموت.

ولا يختلف عاقلان في أن الصحة النفسية مطلب عام بغض النظر عن خلفيات الناس ومراتبهم الدنيوية والفكرية، ذلك أن تحقيق الصحة النفسية يعني ببساطة العيش في سعادة وراحة واستقرار.

ومما يجدر تسجيله في هذا المقام ارتفاع معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية والأمراض العقلية والانحرافات السلوكية وأنواع الشذوذ السلبي في عصرنا الحاضر. وترتفع هذه المعدلات بشكل أبرز في المجتمعات الغربية التي طغت فيها الماديات على جانب الروح.

ويعرف الواقع المسلم هذه الحالات أيضا بحكم الظروف التي يعيشها المسلمون من ضعف واضطهاد وبؤس وخوف تسبب كل هذا في سوء الحالة النفسية لبعض الناس.

ومع أن الإسلام يحمل الحلول لكل هذه المشاكل النفسية إلا أن إهمال جانب القيم ومحاربة مصادر العقيدة والأخلاق وارتفاع النبرة المادية الجشعة تسبب في هجران جوهر الإسلام، وهذا هو ببساطة سبب الفساد وعيشة الضنك التي تعاني منها المجتمعات.

مناهج تحقيق الصحة النفسية

سنجد الدراسات النفسية للصحة النفسية تتفق على 3 مناهج في تناول هذا الموضوع الهام.

المنهج الإنشائي، ويعتمد هذا المنهج على دراسة قدرات وإمكانيات الأفراد والمجتمعات وتوجيهها لأفضل حياة سعيدة وطيبة، وأحسن درجة رضا وكفاية وتوافق.

المنهج الوقائي، ويعتمد على مبدأ الوقاية من الوقوع في المشكلات والاضطرابات النفسية، كما يقول المثل “الوقاية خير من العلاج” فالوقاية من المرض ثم إن ظهر المرض العمل على تشخيصه والتقليل من آثاره.

المنهج العلاجي، ويعتمد على تقديم العلاج بشكل مباشر للأمراض والاضطرابات النفسية للعودة إلى حالة الصحة النفسية السليمة.

والهدف من المناهج الثلاث هو حفظ الصحة النفسية للمرء سليمة ومعافاة ليتمتع صاحبها بعيشة طيبة هانئة مستقرة.

فالشخصية التي تتمتع بصحة نفسية سليمة، هي شخصية قادرة على التوافق وتجاوز الأزمات وتحمل الصدمات، تشعر بالسعادة مع نفسها ومع غيرها، قادرة على تحقيق ذاتها واستغلال قدراتها، وتنعم بعيشة طيبة مطمئنة مهما اشتدت بها الخطوب هي قادرة على الاستمرار باتزان.

واتفق ابن القيم في تحديد مناهج تحقيق الصحة النفسية مع الدراسات النفسية وهي الإنشائي والوقائي والعلاجي.

يقول ابن القيم في الطب النبوي: “إن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية من المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة”.

ويضيف في إغاثة اللفهان:”إذا عرف هذا فالقلب يحتاج لما يحفظ عليه قوته وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية من المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، وإلى استغفاره من كل مادة فاسدة تعرض له بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات”.

ومع أن ابن القيم يتفق في المناهج وقواعد الصحة النفسية مع الدراسات النفسية لكنه يختلف معها في تفسير هذه المناهج.

ذلك أن هذه المناهج تتحدث فقط عن تحقيق سعادة وقتية مرتبطة بالتوافق النفسي والاجتماعي، بينما يركز ابن القيم على السعادة الدائمة المرتبطة بالتوافق مع الحق ويدخل ضمن ذلك التوافقان النفسي والاجتماعي. وهنا نقطة فارقة بين الدراسات النفسية الغربية المحدودة والإسلامية المتسعة.

وعن تحقيق الصحة النفسية فيتم من خلال ثلاث جوانب

*جانب الإنسان مع الله سبحانه وتعالى ويشمل العبودية لله والصدق والأدب والذكر.
*وجانب الإنسان مع نفسه ويشمل العبودية لله والصدق والتكميل والأدب والتوسط.
*وجانب الإنسان مع الآخرين والمجتمع، ويشمل العبودية لله والصدق والتكميل والأدب والتوسط.

فتكون خلاصة الجوانب الثلاث الطمأنينة والرضا.

وهنا يجدر التأكيد على ضرورة تنمية الجانب الروحي وقوة تفاعله مع الجانب الجسمي الذي يقوم على التوسط والاعتدال في إشباع حاجات البدن التي لابد منها وإشباع حاجات الروح وتطلعاتها التي لا حياة للإنسان بدونها.

لابد من الاهتمام بالآخرة مع عدم إهمال الدينا، يقول محمد عثمان نجاتي أحد الباحثين في الدراسات النفسية في كتاب “الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام” :”مما هو جدير بالملاحظة أن مؤشرات الصحة النفسية التي وضعها علماء النفس المحدثون من الغربيين والعرب تدور كلها حول تكيّف الفرد أو توافقه مع نفسه ومع المجتمع ومدى قدرته وفعاليته في القيام بشئون حياته الواقعية وإشباع حاجاته المادية الدنيوية إنهم بذلك لم يوجهوا أي اهتمام نحو الجانب الروحي في الإنسان وإلى أهمية دور الدين والإيمان في الصحة النفسية وإن كان عدد قليل منهم بدأوا يدركون أهمية الدين والإيمان بالله في الصحة النفسية”.

مرتكزات لتحقيق الصحة النفسية

الصحة النفسية كما لخّصها ابن القيم

يطلق ابن القيم اسم “السعادة القلبية” أو “الحياة الطيبة” على الصحة النفسية، ويقول في ذلك:”ولما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل العافية أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظًا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضرها”.

وعن سبيل تحقيق ذلك يقول ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: “يحتاج الإنسان لأمرين بهما يتم سعادته وفلاحه:

أحدهما أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره وما سمعه من أخبار الأمم قديمًا وحديثًا.

الأمر الثاني: أن يحذر من مغالطة نفسه على هذه الأسباب.”.

ويوضح ابن القيم أكثر الصحة النفسية أو الحياة الطيبة حين يقول في مدارج السالكين: “فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا فمن فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة، وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)”.

فالحياة الطيبة ليست مجرد القناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك مما تركز عليه الدراسات النفسية، بل الحياة الطيبة هي حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة،كما لخص ذلك ابن القيم رحمه الله.

يقول ابن القيم أيضا:” وسمي الوحي روحًا: لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله سبحانه وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة”.

ويواصل موضحا: “ولكل عبد روحان:

روح يحيي بها الله قلب من شاء من عباده .. وروح يحيا بها البدن .. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته”.

ولذلك يشقى من خالف أمر الله وابتعد عن هدي نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم:” وأنه إذا خولف أمره ونهيه (يقصد مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى ونهيه) ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والمهانة والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، قال تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) “.

“والضنك في الدنيا ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثان فهو هكذا مدة حياته”.

وأما السعادة فقسمها ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة لأنواع:

السعادة الأولى: سعادة خارجية عن ذات الانسان بل هي مستعارة له من غيره تزول باسترداد العارية وهي سعادة المال والحياة.

والسعادة الثانية: سعادة في جسمه وبدنه كصحته واعتدال مزاجه وتناسب أعضائه، وحسن تركيبه وصفاء لونه وقوة أعضائه فهذه ألصق به من الأولى ولكن هي في الحقيقة خارجة عن ذاته.

والسعادة الثالثة: هي السعادة الحقيقة وهي سعادة نفسانية روحية قلبية وهي سعادة العلم النافع ثمرته فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره وفي دوره الثلاث، ويعني بذلك دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وبها يترقى معارج الفضل ودرجات الكمال.

والسعادة سعادة القلب والروح والنفس، وذلك لا يأتي إلا بهدي من الله تعالى فالحياة الطيبة الهانئة المطمئنة نتاج طبيعي للإيمان بالله والعمل الصالح، وهي سعادة ممتدة ومصاحبة للإنسان في دنياه وقبره وآخرته كما علمنا القرآن الكريم.

أما الدراسات النفسية الحديثة فاقتصر تركيزها على السعادة الدنيوية واختلفوا في سبب إيجادها فمنهم من ربطها بالتوزان ومنهم من ربطها بالتوافق والتواؤم مع النفس والمجتمع وآخرون يربطونها بمواجهة الأزمات معتمدين بذلك على أقول المتخصصين وتجاربهم وآرائهم.

ولا يختلف ابن القيم مع الدراسات النفسية على أهمية طلب الحياة السعيدة الطيبة لكنه جعل السعادة والحياة الطيبة أكثر امتدادًا منها عند علماء النفس فهي تشمل الدور الثلاث: الدنيا البرزخ والآخرة.

كيف نحقق الصحة النفسية

نحقق الصحة النفسية والسعادة القلبية والحياة الطيبة بما يلي:

بالعلم والإرادة
بالإيمان بالله تعالى ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم
بالتوكل على الله
بالتفكر
بحسن الخلق
بالصبر
بعلو الهمة والجد (الطموح)
بالتنظيم والمحافظة على الوقت
بالاهتمام بغذاء البدن والقلب (الروح)
بالمحاسبة
بالاستغفار والتوبة

وفيما يلي تفصيل ذلك:

بالعلم والإرادة

يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: “ولما كان في القلب قوتان قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستكمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصالحه وسعادته، فكماله باستعماله قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل”.

فالكمال الانساني لاينال إلا بالعلم والإرادة، كما أن النقص والمرض ينال الإنسان بتقصيره في أحدهما، ويقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: “فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين أو من أحدهما إما أن لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها أو يكون عالما بها ولا تنهض همته إليها”.

وعلى قمة هذا العلم العلم بالله عز وجل وشرعه، يوضح ذلك ابن القيم في مفتاح دار السعادة بقوله: “إن العلم بالله أصل كل علم وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به”.

والعلم هو المعرفة والفهم الصحيح النافع، بينما الإرادة هي عزم القلب على العمل، وتحرك الجوارح نحوه بقوة ودون تردد فهو يمثل السلوك.

وللإنسان إرادة مسئولية تقع تحت إرادة الله تعالى، وهي مناط الجزاء من ثواب وعقاب.

بالإيمان بالله تعالى ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم

وهذه ركيزة أساسية في تحقيق سلامة النفس وسعادتها بل هي سبب الصحة النفسية الأعظم وطريقها الأكبر وبها تتحقق الحياة والسعادة القلبية يقول في ذلك ابن القيم في مفتاح دار السعادة:”الإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة، حياة بدنه التي يدرك بها النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، وحياة قلبه وروحه التي يميز بها بين الحق والباطل والغي والرشاد فيختار الحق على ضده فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال”.

ويقول في إغاثة اللهفان:”الله أقسم على أن كل أحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بطاعة الله”.

والإيمان “هو روح الأعمال وهو الباعث عليها والآمر بحسنها والناهي عن قبحها وعلى قدر قوة الإيمان، يكون أمره ونهيه لصاحبه وائتمار صاحبه وانتهاؤه”.

وقوة الإيمان سبب أول في سعادة القلب وسكينته.

بالتوكل على الله

فالتوكل من الإيمان ولكن لأهميتة ترى الدراسات النفسية الإسلامية فيه أحد أهم المرتكزات لتحقيق سلامة النفس وسعادتها، وهو لفظ يجمع الاعتماد على الله والاستسلام لشرعه والتفويض إليه، يقوم على حسن الظن به.

يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “وكُلَّمَا كانَ العبدُ حَسَنَ الظَّنِّ باللهِ، حَسَنَ الرَّجاءِ لهُ، صادقَ التوكُّلِ عليهِ، فإنَّ اللهَ لا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فيهِ الْبَتَّةَ، فإنهُ سُبحانهُ لا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، ولا يُضَيِّعُ عَمَلَ عامِلٍ… فإنهُ لا أَشْرَحَ للصَّدْرِ، ولا أَوْسَعَ لهُ بعدَ الإيمانِ مِنْ ثِقَتِهِ باللهِ ورَجائهِ لهُ وحُسْنِ ظَنِّهِ بهِ”.

وثمرة التوكل الرضا ومعناه القناعة والسعادة القلبية والاطمئنان.

ولذلك يعد التوكل سببا مهما في تحقيق الصحة النفسية السليمة فهو يؤدي إلى:

تعلق الإنسان بخالقه وركونه إليه فيتقدم في الحياة مستمدًا قوته من الله سبحانه، فلا يعجز ولا ييأس لأنه يعلم أن له ربًا يستعين به ويهديه سبله.

وينفي عن القلب الحزن والخوف، لأن صاحبه قد فوض أمره لله وقد قدم ما يستطيع، فإن تعسرت الأمور أو كانت النتائج عكسية فإنه راضٍ بذلك لأن قلبه معلق بالله لا بالأشياء الدنيوية.

بالتفكر

ونحقق سلامة النفس بالتفكر، يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: ” التفكر يوقع صاحبه من الإيمان ما لا يوقعه العمل المجرد، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها ومعرفة أسبابها الموصلة إليها وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هو الفكر وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة”.

إذن التفكر عبادة شرعية وشعيرة إيمانية وطريقة عقلية مما يزيدها قوةً وارتباطًا.

بحسن الخلق

وحسن الخلق سبب في تحقيق الصحة النفسية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: “الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”. وأضاف: “وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل”.

فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة وعدم الطيش والعجلة.

والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والعمل.

والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته.

والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو سط بينهما وطرفاه خلقان ذميمان.

وحسن الخُلق يكون هبة من الله ويكون كسبيًا عن طريق المجاهدة، قال ابن القيم في مدارج السالكين :”فإن قلت هل يمكن أين يقع الخلق كسبيًا؟ أم هو أمر خارج عن الكسب؟ قلت: يمكن أن يقع كسبيًا بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة”.

إذن لابد من مجاهد النفس والتحلي بأحسن الأخلاق ومعاملة الناس بها، وفي ذلك الكثير من الأدلة من القرآن والسنة التي تشدد على أهمية هذه الخصلة في المؤمن.

يقول الشيخ عبد العزيز الطريفي فرج الله عنه: “يُسلب من إيمان الإنسان بمقدار بذاءة لسانه، ففي الحديث: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذئ).

والصحة النفسية لا تعطى للفرد ببساطة لكنه يكتسبها بجده واجتهاده في عمل ما يربطه بربه ويزكي نفسه ويحفظ حياته ويوطد علاقاته.

بالصبر

قال ابن القيم في الفوائد: “وهذا طلب السعادة يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبدائها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية فإذا فقد الصبر واليقين تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير واللذة الدائمة”.

والصبر يشمل فعل الطاعة واجتناب المعصية والرضا بالقضاء.

وهو تحمل التكاليف الشرعية وتحقيق العبودية والرضا بالمقدور.

والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وهو ثلاث أنواع كما لخصها ابن القيم: “صبر على فرائض الله فلا يضيعها، وصبر عن محارمه فلا يرتكبها، وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها. ومن استكمل هذه المراتب الثلاث، استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمهما والفوز والظفر فيهما فلا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خير عيش أدركناه بالصبر، وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم رأيتها كلها منوطة بالصبر وإذا تأملت النقصان الذي يذم صاحبه عليه ويدخل تحت قدرته رأيته كله من عدم الصبر فالشجاعة والعفة والجود والإيثار كله صبر ساعة”.

فالصبر طلسم على كنز العلى من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

وتعرف الدراسات النفسية الحديثة الصبر على أنه القدرة على ضبط الذات وتحمل المسئولية والقدرة على مواجهة الصراعات والإحباط والأزمات والقدرة على الصمود، وعرفه بعضهم على أنه تحمل الإحباط دون قلق ومواجهة المكاره دون جزع، وتقبل المصائب دون هلع.

ومما يجدر ذكره في مقام الصبر، قول “بيرسل” أنه قد تبين من دراسات كثيرة أن سبب الانهيارات والأمراض الجسمية في المصائب ليست من شدتها وقسوتها، ولكن من عدم الصبر عليها وسوء التفكير فيها والجزع منها”.

وفي هذا الصدد يقول محمد عثمان نجاتي في كتابه القرآن وعلم النفس: أن “الإنسان إذا تعلم الصبر على عبادة الله وطاعته، وعلى مقاومة شهواته وانفعالاته، والصبر على العمل والانتاج ، فإنه يصبح إنسانًا ذا شخصية ناضحة متزنة متكاملة منتجة فعالة ويصبح عصيًا على القلق وفي مأمن من الاضطرابات النفسية”.

بعلو الهمة والجد (الطموح)

ولا شك أن علو الهمة وسمو المطالب من أسباب تحقيق الصحة النفسية السليمة، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “وكما أن علوم الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة الطيبة وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبا”.

والهمة المطلوبة “أن لا تقف دون الله ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان”.

ويقول أيضا: “إنه قد استقرت حكمة الله أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، وأن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة”.

وحديث علو الهمة حديث ذو شجون!

بالتنظيم والمحافظة على الوقت

وهذه من أهم الأسباب لتحقيق الإنجازات وسعادة النفس، يقول ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي:”ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول: خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه، وخطرات يستدفع بها مضار دنياه، وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته، وخطرات يستدفع بها مضار آخرته، فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة، فإذا انحصرت له فيها، فما أمكن اجتماعه لم يتركه لغيره، وإذا تزاحمت عليه الخطرات لتزاحم متعلقاتها قدم الأهم فالأهم الذي يخشى فوته، فهو موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ومن هنا ارتفع ونجح من نجح وخاب من خاب”.

وهذا يعني استثمار الفرص واستغلال القدرات والمحافظة على الوقت فلا يشتغل بشيء أقل أهمية من شيء أكثر أهمية وأكبر نفعا. وهي قاعدة الأولويات.

قال ابن القيم في مدارج السالكين:” وإذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانه بالوقت وجعل وقته مساعدا له وإذا أراد به شرًا جعل وقته عليه وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده الوقت والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده”.

بالاهتمام بغذاء البدن والقلب (الروح)

ولتحقيق الصحة النفسية لابد من الاهتمام بالبدن والروح معا، قال ابن القيم في الطب النبوي: “معرفة فاطره ومحبته وتوحيده، والسرور به والابتهاج بحبه والرضا عنه والتوكل عليه والحب فيه والبغض فيه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه”.

وأما غذاء البدن ” فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة – لضرورة بقائه – وهو الطعام والشراب ومتى زاد على مقدار التحلل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته فاستحالت مواد رديئة فعاثت في البدن وأفسدت فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [ الأعراف : 31 ] فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض، أعني عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه، فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين ولا ريب أن البدن دائما في التحلل والاستخلاف”.

وعن الصحة القلبية والبدنية قال ابن القيم في الطب النبوي:”فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن”.

“والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه من الاعتدال وقد يكون من فساد العضو وقد يكون من ضعف في القوى والأرواح الحاملة لها”.

فالعلاقة وطيدة بين النفس والبدن يتأثر كلاهما ببعض مرضًا وصحةً.

ولا يفوتني في هذا المقام ذكر لفتة مهمة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: “لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: رياضة الأبدان بالحركة والمشي، ورياضة النفوس بالأخلاق الحسنة، ورياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم”.

فكن رياضيًا بالمعاني الثلاث لتنعم بصحة نفسية سليمة وسعادة قلبية وحياة طيبة.

بالمحاسبة

ويُقصد بها متابعة الإنسان لنفسه عملًا وقولًا واعتقادًا، ومعرفة نتائج ذلك هل هي حسنة أم سيئة، فماكان حسنًا يزداد منه وما كان سيئًا يباعد عنه.

والسكينة عند المعاملة تحصل بثلاثة أشياء:

الأول: محاسبتها على طاعة قصر فيها من حق الله فلم تقم بها على الوجه الذي ينبغي.

ثانيًا: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.

الثالثة: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم يفعله. وهل أراد به الله والدار الآخرة.

أي أن المحاسبة تشمل التخطيط قبل العمل، والرقابة أثناءه والمراجعة بعد العمل فهي لفظ شامل لهذه المعاني.

ويقول كمال مرسي: “فمحاسبة الإنسان لنفسه وتقويمه لجهوده يوقفه على جوانب القوة والضعف”.

بالاستغفار والتوبة

ويأتي الاستغفار والتوبة بعد المحاسبة والمراجعة للأعمال الماضية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: “التوبة لا تصح إلا بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا”.

وقال أيضا: “ومنزل التوبة أول المنازل – الطرق- وأوسطها وآخرها فلا يفارقها العبد السالك ولا يزال فيها إلى الممات فالتوبة هي بداية الصبر ونهايته”.

وقال أيضا في الطب النبوي:”وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فمما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة، أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف وضيق الصدر، وأمراض القلب حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعًا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلب فلا دواء لها إلا الاستغفار والتوبة”.

وفي مدارج السالكين قال طبيب القلوب: “فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله”.

ومشاعر الذنب نوعين:

مشاعر سالبة وهي المقنطة القاتلة للإنسان وذاته التي تحول بين الإنسان والتصحيح. ومشاعر إيجابية وهي التي تقف الانسان على خطأه ومعرفة أثره على النفس ومن ثم التصحيح.

يقول كمال مرسي في كتاب تنمية الصحة النفسية: “فالتوبة عملية نفسية صحية يتم فيها التخلص من مشاعر الذنب (السلبية) وتحويل أفكار العجز والتشاؤم والحط من شأن الذات إلى أفكار ومشاعر كفاءة وتفاؤل ورفع من شأن الذات (المشاعر الإيجابية) فينبعث في النفس تفاؤل ورضا وإقبال على الحياة ورغبة في الإصلاح وترك الأخطاء”.

خلاصة الدراسات النفسية الإسلامية

تجمع الدراسات النفسية الإسلامية بين العناية بالروح (النفس)، والعقل والجسم وبين معرفة الله والإيمان به ومعرفة النفس وحاجاتها لله، وفهم المجتمع والتعامل معه. ويحكم ذلك كله العلم النافع والعمل الصالح مما يثمر الانتاج والعمل الدؤوب والدعوة والمصابرة.

وكل ذلك يفضي بالإنسان لحياة طيبة وصحة نفسية في الدارين الدنيا والآخرة.

وعند معرفة الله والإيمان به ومعرفة النفس ومعرفة الناس يمكن للمرء استغلال الحياة الدنيا واستثمار نعم الله عليه وفق شرع الله وفطرته مما يحقق التوافق مع الحق والإيمان الصادق وبناء الحياة الطيبة لينعكس ذلك في الإنتاج والعمل الصالح، والصبر والدعوة والمجاهدة، وهو مفهوم شامل لصحة نفسية وحياة طيبة في الدنيا والآخرة. وهي خلاصة ابن القيم أيضا التي استخلصها من الكتاب والسنة والعقل والتجربة والملاحظة. فكانت شاملة متكاملة متينة.

سمات ومظاهر الصحة النفسية والحياة الطيبة

سنتناول الآن مؤشرات الصحة النفسية السليمة وهي:

العبودية لله وحده لا شريك له

وهي شرف الإنسان وأول معلم له يحفظه من الأعداء، يقول ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين:” والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب.” فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله عَلَمًا عليها وشاهدًا على مَن ادَّعاها، فقال تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ) (آل عمران:31).

الوسطية

تتكرر الوسطية كثيرًا مع خلاصات ابن القيم في تحقيق السعادة النفسية، حيث قال:”وما قام الوجود إلا بالعدل فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير”. والوسطية تدخل في جميع جوانب الإنسان وأثناء تفاعله مع الآخرين سواء في العبادة أو الأكل والشرب أو النكاح أو النوم أو الأخلاق وهو ما نجده في القرآن الكريم مثل قوله تعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31) وهذه حقيقة ثابتة كلما انحرفت النفس عن “التوسط” انحرفت إلى طرفي نقيض، كما يوضح ذلك ابن القيم بخلاصة ثاقبة حيث يقول: فلابد (للنفس) إذا انحرفت عن خلق التواضع أن تنحرف إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جنابه، حبيب لقاؤه. وكذلك ضرب أمثلة لمختلف الأحوال التي ينحرف فيها الإنسان من خلق سوي إلى خلقين ذميمين. فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة، وهكذا مع جميع الأحوال.

ثم إن تحقيق التوازن بين البدن والروح في طبيعة الانسان أحد المرتكزات لتحقيق الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية.

البركة

وهي تحقيق الانجاز بأسرع وقت وأقل جهد، لنفس العامل ولمجتمعه وأمته، وهي “أن يكون الإنسان خيرا في نفسه نافعا لمن حوله مستثمرا أوقاته”. والمعاصي تمحق بركة العمر والرزق والعلم والطاعة والدين والدنيا، وليست سعة الرزق والعمل بكثرتها ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه. فمن أحسن واتقى نال فضل البركة والسعادة، ومن أساء وطغى محقت بركة دينه ودنياه.

وحياة الإنسان بحياة قلبه وروحه.وحياة الإنسان بحياة قلبه وروحه.

الذكر

(وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وإن للذكر أثر عظيم على البدن والقلب وعلى الحياة كلها قال ابن القيم في الوابل الصيب: “وفي الذكر أكثر من مائة فائدة منها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب، وأنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط، وأنه يورث المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة”. وأضاف: “إن ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل، إذا بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان، والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حس قد جرب هذا والله المستعان”.

ومن أبرز الإشارات على صحة النفس ذكر الله تعالى.

الصدق

ولاشك أن الصدق في التوجه والإرادة والقول والعمل أحد أهم أسباب السعادة والراحة النفسية وأحد إشارات الصحة النفسية، يقول ابن القيم في الفوائد: “ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة فيصدقه في عزمه وفي فعله فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل، فصدق العزيمة جمعها وجزمها، وعدم التردد فيها، بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور.

وبينما ترى المدارس النفسية أهمية هذا المؤشر إلا أنها تجعله كضرورة ومطلب فردي لكن ابن القيم يؤكد على أنه استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.

الطمأنينة وفرح القلب

وهي منة وفضل من الله على عبده، يقول ابن القيم: “فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره، وهو كلامه الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم”.

وفي الواقع الصحة النفسية شعور بالسعادة والطمأنينة وهي من الله سبحانه وأعظم مؤشراتها الإيمان والعمل.

الرضا

وهو القبول القلبي والحالي، لا يتسخط صاحبه، ويرضى بقدر الله يقول ابن القيم في مدارج السالكين:”والرضا يشمل الرضا بربوبيته وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، وطريق الرضا طريق مختصرة قريبة جدا موصلة إلى أجل غاية ولكن فيها مشقة وعقبتها همة عالية، ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله، وثمرة الرضا الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى”.

ولا يعني الرضا عدم التحرك والأخذ بالأسباب وإنما يعني لزوم الهمة العالية بنفس راضية.

فيرضى الإنسان قبل العمل بالتوجه والطلب، مؤمنا بالله راضيًا بقدره، ثم يرضى بعد الفعل، سواء قل أو أخطأ فيه أو أصابته مصيبة، فيسلم لقدر الله ولا يتسخط،. ويسعى من جديد بقلب راض. وهذا دليل على صحة النفس.

الأدب

وهو اجتماع خصال الخير في العبد وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.

والأدب هو الدين كله كما أكد ذلك ابن القيم في خلاصاته.

والأدب يكون مع الله عز وجل، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدب مع الخلق.

يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “والأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله سبحانه وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه وأدب مع خلقه، فالأدب مع الله تبارك وتعالى هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا، وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول، وأما الأدب مع الخلق فهو معالجتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم فلكل مرتبة أدب”.

التعاون والتكميل

وهي صفة تدل على سلامة النفس، فالتعاون بين المؤمنين أمر مطلوب وصحيّ، وينعكس جمال ذلك على النفس والمجتمع، يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة:” فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل”.

ويدخل في ذلك المواساة بالمال والجاه والبدن والخدمة والنصيحة والإرشاد والدعاء والاستغفار، وغيره، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، كلما قوي الإيمان قويت المواساة. فصاحب النفس السليمة يقظ متحرك ينفع الناس ويسعى لتكميل نفسه وتكميل غيره.

التفاؤل

صاحب النفس السليمة يتفاءل ويستبشر يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة يذم التشاؤم:” فأين هذا التشاؤم من الفأل الصالح السار للقلوب المؤيد للآمال، الفاتح باب الرجاء، المسكن للخوف، الرابط للجأش، الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه، والاستبشار المقوي لأمله السار لنفسه، فهذا ضد الطيرة “التشاؤم”، فالفأل يُفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد، والطيرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك”.

والتفاؤل مرتبط بالثقة في الله والرضا بقضائه فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، لا سخط على رزق ولا استعجال على خير ولا قلق من المستقبل.

الرغبة في الآخرة

ومن أهم علامات الصحة النفسة الرغبة في الآخرة بإيمان بها، واستعداد لها، يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “فأعقل الناس من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة، وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما، بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء”. ولا شك أن الأمل في الآخرة والفوز بنعيم الجنة ورضا الله سبحانه يحث صاحبه على النشاط والجد، ويحفزه للمسابقة والعمل.

الصحة النفسية كما لخصتها الدراسات النفسية الحديثة
تعتمد الدراسات النفسية الحديثة في تحقيق الصحة النفسية على المحاور التالية:

إشباع الحاجات الأولية والشخصية، سواء جسدية كالحاجة للطعام، أو اجتماعية نفسية كالحاجة للانتماء. تقبل الذات، بغض النظر عن ضعفها أو قصورها وتقبل الواقع الذي يعيشه والتخطيط لمستقبله وفق ما توفر له من معطيات. القدرة على ضبط الذات وتحمل المسئولية فالشخص الذي يتمتع بصحة نفسية سليمة يمكنه التحكم في رغباته مهما كانت جامحة ويتصرف بمسؤولية ونضوج. ويصف ذلك بعض الباحثين بالتهذيب الذاتي أو التحكم في الذات. اكتساب الفرد المهارات اللازمة لإشباع حاجاته وتطوير ذاته.

ومنها كذلك، التفاعل مع المجتمع والآخرين، فيمكنه التعاون والتكامل وتقديم خدماته كما يدرك حاجته للآخرين ويقدرها وبذلك يحصل التوافق المثمر مع من حوله، ويظهر الانسجام في مواجهة الأزمات. الثبات وعدم التردد والاضطراب في اختيار القرارات في شئون الحياة المختلفة ثباتًا يسهل فهم شخصيته وتوقع اختياراته، يصفه بعض الباحثين بالاتزان الانفعالي والثبات الوجداني ووجود حالة من التماثل بين الانفعالات ومثيراتها. والمسايرة والمرونة فيتجاوز الصدمات التي قد تؤثر سلبًا على حياته وقدرته على الاستجابة للمؤثرات في حياته فيتقبل ما يطرأ عليه ويتعامل وفقه.

بالإضافة إلى اتخاذ أهداف واقعية، يمكنه تحقيقها في إطار إمكانياته وليست خيالية تعجيزية. القدرة على المواجهة، مواجهة الصراعات والاحباطات والأزمات والشدائد التي يتعرض لها المرء في حياته. العناية بالصحة الجسمية فالأمراض مجلبة للحزن والكآبة.

وإضافة لهذه المرتكزات والسبل لتحقيق الصحة النفسية، يذكر الباحثون الاستقلال الذاتي، والهدوء العقلي، والقدرة على الثقة المتبادلة والمحبة وغيرها مما وصلت له الدراسات النفسية الحديثة التي ترتكز على أساسين:

الفهم السليم ومعرفة إمكانيات الفرد واستغلال ذلك.
الفهم السليم للمجتمع وأنظمته وأهدافه.
وهو خلاصة التوافق الذاتي والاجتماعي الذي مع حسن استغلال إمكانيات الفرد والمجتمع يوصل لمرحلة توافق عام وتفاعل وإنتاج وعمل واستقرار وهو مفهوم الصحة النفسية الشامل.

وفي الواقع تتأثر الصحة النفسية بطبيعة الظروف والبيئة والأحداث التي تراكمت على طول حياة المرء وقدرته على التكيف ودرجة تأثره إضافة إلى رصيد الخبرات والتجارب والمهارات المكتسبة.

ولذلك نشدد على أهمية التربية والتنشئة الاجتماعية في تحقيق الصحة النفسية وعلى أهمية بناء الذت وتطويرها لتحقيق السعادة والاستقرار في الحياة.

وبعد هذه الرحلة مع تعريف الصحة النفسية ومناهج دراستها وسبل تحقيقها وسماتها، نكون قد لخصنا جزءًا مهما وحاسما في معرفة النفس البشرية لكنه غير كافٍ بعد لتحقيق الدراية الكافية لصناعة الهمة لذلك سنتناول في الحلقة السادسة المقبلة “النفس السوية والنفس المضطربة وعوائق الارتقاء” لنتقدم مسافات أخرى في رحلة صناعة الهمة.

إلى ذلك الحين، تأمل قول ابن القيم “العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة”، و”لا تكون الروح الصافية إلا في بدن معتدل، ولا الهمة العالية إلا في نفس نفيسة”. فاستعن بالدعاء والاجتهاد ولا تعجز!



 سلسلة “صناعة الهمة” للدكتورة ليلى حمدان.



    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق