المنهجية المفتوحة للشفاء من الأيديولوجيات المغلقة
قدرة التفكير على اتخاذ أصوب القرارات تقل إن تلوث الفكر بالمشاعر السلبية، كما تقل قدرة المصباح على الإضاءة إذا تراكم فوقه الغبار.
إذن..
- لا تغضب ممن يقدح. يستحسن إحالته (مع تجاهل كلامه الموجع) لمقولة أبي حنيفة "هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه، فهو أولى بالصواب".
- لا تغترّ بمن يمدح. يستحسن إحالته (مع الامتنان لكلامه اللذيذ) لمقولة "لا شكر على واجب".
- في مواجهة الأغبياء والأدعياء التجاهل أمضى سلاح وأقله تكلفة.
- لا تلتفت لمن يشتم وإلا نزلت لمستواه.
- حذار من الرد على من يرفع في وجهك إصبع الاتهام، وإلا حققت مرامه، وأنت تقبل وضع المتهم.
- أنصت بكل انتباه لنقد ليس فيه عدوانية، لن تجد أثمن منه لتصحيح المسار.
- عبث مناقشة ضحايا الأيديولوجيات المغلقة. هم أحاطوا قناعاتهم بسياج لا يخترق من الحجج والمعاذير، والسبب الذي يرفضون الاعتراف به خوفهم من تعقيد الواقع والبحث عن حماية الأب الواقي من كل ضياع، أجدى تعامل معهم الصبر والرفق كما يُعامل الأطفال، أما المتاجرون بها فهم اللعنة، التي يجب أن تتعود عليها تعودك على كل منغصات العيش الأخرى.
- لا تعكّر مزاجك، ولا تصدّع رؤوس الناس بالشكوى من الظلم، من الغباء، من الجهل، من القبح، ومن غدر الأصدقاء. كما يقول لاو-تسو لا وجود للشيء إلا بنقيضه. من أين لك التمتع بالجمال لولا وجود القبح، وبنعمة السعادة لولا وجود الشقاء، وبضحكة المرح لولا وجود الغباء والأغبياء؟.
سترحل عن الدنيا وكل السلبيات، التي تُوجِد الإيجابيات، موجودة بعدك إلى يوم يبعثون، فعلام مواصلة العراك مع طواحين دون كيشوت؟.
إن ضايقك الظلام أشعل شمعة بدل تضييع وقتك في شتمه.
- لدخول عقول البشر وقلوبهم، لفهم ما يعلنون وما يخفون، تعامل معهم على أنهم دوما -أيا كان موقعهم من الهرم الاجتماعي- كائنات مسكينة تتخبط في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر، بحثا بكل وسائل الخير والشرّ الفعالة وغير المجدية، المضحكة المبكية، نعن التقدير والاعتراف والحب، وهم ممثلون يجاهدون لتأدية أدوار ندر من يتقنها. لا تنظر لهم لا بعين الرضى ولا بعين السخط، وإنما بعين التسامح والتعاطف، وإلا كنت أتعسهم.
- لتعهّد صفاء الذهن يجب دوريا تحويل وجهة الوعي لما يجلب المتعة، ولا يحتاج لأي جهد مثل الاستماع للشعر، أو للموسيقى، أو شغل اليدين بالطبخ، بالبستنة أو أي عمل آخر.
هكذا يستطيع اللاوعي أن يعمل بصمت بدون أن يزعج الوعي. سيفاجئك حين لا تتوقع بأفكار لمشاكل خلت، كنت تظن أن لا حل لها.
لاتخاذ أحسن القرارات أو أقلها سوءا وخطرا عليك وعلى الناس:
1- احترز من أفكارك قبل احترازك من أفكار الآخرين.
عرّضها دوما لأقسى نقد، راجع حكم التجربة فيها، حلل كل ما نجحت فيه، كل ما أخفقت فيه كأنك قاض محايد.
إن صمدت لمثل هذا التقييم الصارم واصل العمل بها، وإن أظهر التقييم عيوبا قابلة للتدارك أصلحها، إن اتضحت هشاشتها ارمها غير مأسوف عليها.
2- اجلس دوريا للأفكار التي تكره، والتي نبعت من داخلك كالهواجس، ولم تستطيع لها دفعا، أو داهمتك من ألدّ الأعداء. مثلا: الديمقراطية آخر الأوهام، هناك شعوب يُضحى من أجلها، وشعوب يُضحى بها، انقراض الجنس البشري الضمان الوحيد لتواصل الحياة على هذا الكوكب، أعدائي هم المحقون في هذه المسألة وأنا المكابر، أبالغ في تقييم ذكائي والتقليل من ذكاء نقّادي.. إلخ.
تحمّل ألم مثل هذه الأفكار، ابحث عن أسباب كرهك لها وهروبك من مواجهتها.
ثم اعرضها على التحكيم العقلي وفق ما ارتضيت لنفسك من قواعد التفريق بين ما يجب أن تقبل وأن ترفض من الأفكار.
3- أداة الفرز الأولى: ما تأمر به القيم، إذ لا أجدى منها بوصلة للإشارة إلى الطريق الصحيح.
-أداة الفرز الثانية: التجربة، وأصدق مؤشرات هذا المعيار مقارنة ما افترضته الأفكار بما أثبتته الأحداث، ما أعطته من وعود بما تحقّق من إنجاز، ما بدأت به من آمال وما تسببت فيه من آلام.
-أداة الفرز الثالثة: السخرية.
لا أقوى ولا أسرع فضحا وفتكا منها لفضح عيب هيكلي مخفي بمهارة، أو تزييف مخفي بخبث.
كل ما يفجّر نوبة من الضحك فاسد بامتياز، كل ما لا تنال منه السخرية إلا تكلفا وبذاءة صالح بدون شك.
نمّها في ذاتك وداوم عليها شريطة ألا تمس القيم وأولها احترام كل مخلوقات الله.
4- لكل الخيارات السياسية أو الشخصية دوما إيجابيات، وهي التي يتوقف عندها المتحمسون (إ)، وسلبيات يتجاهلونها (س)، تؤدي إلى ظهور أشكال ما من المقاومة تفاجئهم دوما (م).
لا تضع خطة عمل قبل تفحصها طويلا بمنهجية
ثم استعدّ للمواجهة ومواصلة الصراع إلى أن "يلين لماضغه الحجر".
رجاء، لا تضع فشلك على حساب العنصرية والجهوية والطبقية وشراسة المنافسين وتآمر المتآمرين وسوء الطالع وحالة الطقس. ضعه على سوء تقدير تعاملك مع العقبات الأزلية على كل طريق. وإن نجحت، حُق لك الشعور بأنك لا تدين بالنصر إلا لنفسك.
اجعل دوما نصب عينيك أنه:
- لا صحّة أو شرعية أو إمكانية نجاح على الأمد البعيد لأي أفكار تؤسس أو تدافع عن مواقف وتصرفات، تتعالى بحجة قداسة نصوصها على التجربة، رافضة أحكامها والتعلم منها.
- لا صحّة أو شرعية أو إمكانية نجاح على الأمد البعيد لأي أفكار تؤسس أو تدافع عن مواقف وتصرفات، تنتهك باسم المصالح المبادئ المسندة للحقوق الشرعية للبشر ولبقية مخلوقات الله.
في كل ما يتعلق بالخيار بين المبادئ والمصالح، لا تكن من الموفّقين الملفّقين الممسكين دوما العصا من الوسط. إنهم أبغض الحلال إلى العقل.
- تمسك بالقيم، تمسكك بجلدك، وتعامل مع الأفكار كما لو كانت ثيابك الداخلية؛ لأنها هي التي تتسخ وتبلى بفعل الزمان.
أخطر البشر على أنفسهم وعلى المجتمع أصحاب الأفكار الثابتة والقيم المتحولة.
مصداقيتك مثل مصداقية أي شخص لا تقاس إلا بمؤشرين؛ القدرة على مراجعة الأفكار، والقدرة على عدم التراجع عن المبادئ.
- أشدّ ضررا من نقص الالتزام بالقيم الغلوّ فيها.
القاعدة أن كل الفضائل إذا تجاوزت حدا، أصبحت رذائل؛ كانقلاب الصراحة المفرطة إلى وقاحة، والشجاعة المبالغ فيها إلى تهوّر، والتدين الفائت لكل حدود إلى تعصب.
في ممارستك للقيم اترك المزايدة للمنافقين والمتشددين. كل المطلوب منك الثبات عليها والاعتدال فيها.
اقبل بالتجاوزات البسيطة بالتناقضات، بحالات ضعف عابرة فيك وفي الآخرين.
إنها الدلالة على تواصل الإنسانية فيك، وإلا أصبحت كائنا ثقيلا على نفسك مزعجا لبقية البشر، وحتى -لا قدّر الله- روبوتا أو ملاكا.
لمواجهة طفرة المعطيات وتعقيدها المتصاعد، التمسك أو العودة لهذه القواعد:
1- الثوابت الوحيدة في هذا العالم هي القوانين المكتوبة بلغة الحسابيات، التي تكتشفها العلوم الطبيعية؛ مثل الفيزياء والبيولوجيا وعلوم الأحياء والفلك.
في المجتمعات البشرية الثوابت، التي لا تتغير أيا كان الزمان والمكان هي:
- طبيعة الإنسان بغرائز الخير والشر الموجودة فيه.
- الحاجيات المادية والنفسية للفرد والجماعات.
- القيم -سواء كان غلافها دينيا أو علمانيا- لانتقالها هي الأخرى بدون تغيير من جيل لآخر في كل الثقافات.
نتيجة ما أظهرته تجربة كل الشعوب وكل الأفراد من كونها أضمن وأنجع الأفكار والمواقف والتصرفات لضمان الحد الأدنى من السلام داخل المجتمع، وتحقيق المصالح المشروعة للأفراد بدون الإضرار بالمصالح المشروعة للآخرين.
2- خارج هذه الثوابت كل ما ينتجه الفكر البشري لوصف العالم وفهمه وتطويعه متحرّك باستمرار، نقضا وإضافة وتغييرا في عملية لا تنتهي؛ لعجز هذا الفكر عن استنفاذ تعقيده الهائل، أو اللحاق بحراكه المتفجّر.
3- لا وجود لمرض يتيم اسمه السكّري، وإنما لطيف من أمراض متباينة الخطورة، وأسباب مندرجة تحت هذا العنوان، كذلك لا وجود للإسلام السياسي، للشعب، للدين، للدولة، للمجتمع؛ إلا كعنوان عريض يخفي كما هائلا من الأشكال والحالات، هي التي يجب تفحصها الواحدة تلو الأخرى، وإلا بقيت على مستوى سطح الظواهر لا تدري شيئا عن أعماقها. من يكتفي من كتاب بدراسة العنوان؟.
تشبّه بالفيزيائي، الذي يبحث وراء اللون البسيط الظاهر للنور عن طيف الألوان السبعة، التي يحتوي عليها، والتي يكتشفها وهو يسلط شعاعه على "منشور زجاجي" (Prisme).
4- أي ظاهرة تُدرس في عزلة عن الشبكة، التي هي دوما جزء منها، أولى الخطوات في الاتجاه الخاطئ.
فلا مجال مثلا لفهم النظام السياسي في أي مجتمع بدون الرجوع إلى تاريخ هذا المجتمع وعقيدته وثقافته واقتصاده وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى والشخصية القاعدية لأفراده، كما لا مجال لفهم النظام الصحي بدون الرجوع للنظام السياسي والاقتصادي والتربوي وقيم المجتمع التي أنتجت هذا النظام.
5- لا تستسلم لإغراء السبب البدهي واليتيم لأي ظاهرة. لا تقل التدخين سبب سرطان الرئة. إنه السبب الرئيس، الذي لا بد منه لظهور السرطان؛ لكن ما كان لهذا السرطان أن يظهر حتى بالتدخين لولا وجود أسباب مسهلة، مثل التلوث وأسباب هيكلية مثل التركيبة الجينية للشخص.
عند تحليل ما وراء أي ظاهرة تساءل ما السبب الرئيس؟، ما الأسباب المسهلة؟، وما الأسباب الهيكلية؟
كل ظاهرة تتحرك دوما داخل شبكة واسعة من العلاقات وتحركها شبكة واسعة من الأسباب.
6- لا تحكم على أي منظومة فكرية تتقدم كوصفة خلاص إلا بعد تفحّصها على ضوء كمّية العنف الضروري لغرسها وتثبيتها والدفاع عنها، وكمية الآلام التي تتسبب فيها.
كلما ارتفع هذا الثمن كلما وجب رفضها وحاجتها للعنف أصدق شاهد على فسادها، وأن ما تدعيه من اكتشافها للحقيقة مجرد خدعة حرب.
7- هذا عالم لا شيء فيه إلا وهو بصدد النموّ، بصدد التحلّل أو بصدد التأقلم والبحث عن توازن مهدّد على الدوام.
لا تتعامل مع أي فكر، ولا تنخرط في أي فعل قبل التأكّد في أي اتجاه يتحرك.
لا أسهل من التنبؤ بالمستقبل بدون المرور بقارئة الفنجان.
- على صعيد الأشخاص بما أن ما بالطبع لا يتغيّر، راهن على أن أغلب الأشخاص في أغلب الحالات سيتصرفون في العشر سنوات المقبلة، كما تصرفوا في العشر سنوات الماضية.
- على صعيد السياسات تأكد أن الفاتورة الثقيلة ستقدم عاجلا أو آجلا لمن ضربوا بعرض الحائط ما تأمر به القيم، وما تحذر منه التجارب السابقة؛ لأن من لا يعرف التاريخ مجبر على تكراره كما قيل.
- على صعيد المجتمعات والأنظمة التي تكوّنها، فإنها لن تتوقف أزمة بعد أزمة عن التغيير، محافظة على ما يمكن الحفاظ عليه (ولو كره المجددون)، مضحية طوعا أو كرها بأجزاء أخرى (ولو ثارت ثائرة المحافظين)، تُواصل ماضيها وتقطع معه في الوقت نفسه، أحيانا بسلاسة وبطء وأخرى بصفة انفجارية.
- القاعدة العامة أن المستقبل لا يتمخّض إلا نادرا عما نأمل، أو عما نخشى، وإنما عما يفاجئنا دوما.. من حسن حظنا، لنبقى دوما منتبهين، لا شيء أهم للفكر من الانتباه والحراك، ولا أكره عنده من الجمود والتبلّد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق