إلى أمة أصبحت ذليلة.. ألَّا تستصرخنا عِزّتنا أبدًا؟
في عهد ملوك الطّوائف -الذّي بدأ بحدود عام 422 هـ لمّا أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدّولة الأمويّة في الأندلس- كان كلّ ملوك وأمراء الأندلس، يدفعون الجزية إلى ألفونسو السّادس ملك قشتالة ومن معه من النّصارى، إلَّا رجل واحد كان يملك عِزّة وأنفًا، ولم يرضَ بهذا، وهو المتوكّل بن الأفطس أمير مملكة بطليوس.
فرغم ذلك الجوّ المليء بالذّلّ والخِزي، وأنّ مملكة بطليوس هذه كانت صغيرة جدًا، إلَّا أنّ المتوكّل بن الأفطس لم يكن يدفع الجزية، وبالطّبع فقد كان النّصارى يعلمون أنّ هذا الرّجل مارق وخارج عن الشّرعيّة، تلك التّي كانت تحكم البلاد في ذلك الوقت؛ حيث خرج عن المألوف واعتزّ بإسلامه ولم يقبل الذلّ كغيره من أبناء جلدته.
فأرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللّهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية كما كان يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلاميّة المجاورة وإلَا هاجمَهُ وانْتَزع منه بطليوس وما حولها من حصون، فكان من نبأ المتوكّل بن الأفطس أنّه أرسل له ردًّا عجيبًا برسالة حفظها التّاريخ ليعلم النّاس جميعًا أنّ المؤمن وهو في أشدّ عصور الانحدار والانهيار إذا أراد أن تكون له عِزّة فهي كائنة لا محالة، يقول المتوكّل بن الأفطس في رسالته:
"وصل إلينا من عظيم الرّوم كتاب مُدّعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارّة ثمّ يفرق، ويهدّد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أنّ لله جنودا أعزّ بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيّه محمّد عليه الصّلاة والسّلام أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون، بالتّقوى يُعرفون وبالتّوبة يتضرّعون، ولئن لمعت من خلف الرّوم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيّب ويعلم المنافقين.
ما أوهن حالنا! ونحن لا نقدر حتّى أن نذود عن حِمَانا وأعراضنا، الأقصى يُدنّس، ومكّة والمدينة تغزوها دور السّينما والحفلات والقادم أعظم، وغزّة تُخنَق |
أمّا تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم فبالذّنوب المركومة، ولو اتّفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمتَ أيّ مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرّعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لمّا أجبر أجدادك على دفع الجزية حتّى أهدى بناته إليه -وكان ملك "نافار" جدّ ألفونسو السّادس قد أرسل ابنته هديّة إلى المنصور حتّى يأمن جانبه، وهي أمّ عبد الرحمن بن المنصور الذّي انتهت بحكمه الدّولة العامرية-.
أمّا نحن فإن قَلّت أعدادنا وعُدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلّا السّيوف، تشهد بحدّها رقاب قومك، وجلّاد تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسوّمين نتقوّى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربّصون بنا إلّا إحدى الحسنيين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنّة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنّة، وفي الله العوض ممّا به هدّدت، وفرج يفرج بما ندّدت ويقطع بما أعددت".
فما كان من ألفونسو السّادس إلّا أن وَجم ولم يفكّر ولم يستطع أن يرسل له جيشًا، فقد غزا كلّ بلاد المسلمين في الأندلس ما عدى بطليوس لم يتجّرأ على أن يغزوها، فكان يعلم أنّ هؤلاء الرّجال لا يقدر أهل الأرض جميعهم على مقاومتهم، فأعزّ الإسلامُ ورفع من شأن المتوكّل بن الأفطس ومن معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرّد أن لوّحوا بجهاد لا يرضون فيه إلّا بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة. ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
فقد فطن ابن الأفطس أنّ رأس الأمر يكمن في العِزّة، وأنّ الخنوع والهوان لن يثني عدوّا ولن يردع متمرّدًا، فمن رأى في قلبك حُبّ المنصب والدّنيا فسيظلّ يتوعّدك ويعتدي على حُرمِك إلى أن تقصيهم عنهُ، فما داموا قابعين في قلبك هو يعلم عِلم اليقين أنّك على استعداد أن تضحّي بالغالي والنفيس في سبيلهما! فالعِزّة هي من تحرّكك، من تدفعك دفعًا للذّوْد عن حِمَاك، أرأيت إن كان لك حِمَى وتَجَرَّأ عليه أحد فما فِعلك وقتها؟ ستقاتله حتّى يمتنع أو تهلك دونه!
لمّا ملكنا العِزّة واليقين.. أقمنا الدّنيا ولم نُقعدها، تسيّدنا الأرض ومزّقنا حصون الجبابرة، رفعنا رايات الحقّ وأنصفنا المظلومين
دينك حِمىَ، عِرضُكَ حِمَى، دَمُ أخيك حِمَى، كَرامة أبيكَ وأُمُكَ حِمَى، شَرَفُ أهلِكَ حِمَى، العِزَة أن تذود عن حِمَاك ولا تقبل الدّنيّة فيه أبدًا وإن كنت باذلًا دَمك. فماذا عنّا وعن حالنا اليوم؟ وماذا سيكتب التّاريخ عنّا؟ وهل من سيأتي بعدنا يترحّم علينا؟
ما أوهن حالنا! ونحن لا نقدر حتّى أن نذود عن حِمَانا وأعراضنا، الأقصى يُدنّس، ومكّة والمدينة تغزوها دور السّينما والحفلات والقادم أعظم، وغزّة تُخنَق، واليمن تُحَاصر وتُجَوَّع، وسوريا تُقصف وتُهجَّر، يسلبوننا أرضنا، ويغتصبون نسائنا أمام أعيننا، وعلماؤنا يسجنون ويقتلون، يطعنون في أشرافنا وينعتون مقاومتنا بالإرهاب ويشوّهون صورهم ونظلّ صامتين غاضّين الطّرف، أمراؤنا وولّاة أمورنا باتوا يدفعون الجزية لأعدائنا كي يحافظوا على مناصبهم، ولا يأتمرون إلَّا بأمرهم، نقتل بعضنا بعضا، نحاصر ونشارك بذبح إخوتنا بإمرة أعدائنا.
قد أماتتنا ولَوَّثَتنا الشّهوات، بعدما كنّا أطهارًا في أجسادنا وأرواحنا.
فما أوهن حالنا! ألَّا تستصرخنا عِزّتنا أبدًا؟ لَمّا ملكنا العِزّة واليقين.. أقمنا الدّنيا ولم نُقعدها، تسيّدنا الأرض ومزّقنا حصون الجبابرة، رفعنا رايات الحقّ وأنصفنا المظلومين، فتحنا فارس ومزّقنا دولة الرّوم وبيزنطة، فتحنا الهند والأندلس وبلغراد وأوروبا وكنّا الأقوياء المنصفين، وحّدنا الأمصار وشحذنا أعناق الكفرة والمرتدّين يوم اليمامة، واليرموك، والقادسيّة، وحطين، والأراك، وفتح القسطنطينيّة.
فقوّتنا في إيماننا، وعزّتنا بديننا، وثقتنا بربّنا.لا تنال من ذلك صروف الدّهر، ولا تمحوه من نفوسناا أحداث الزّمان، وقد بشّرنا الله من قبل فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق