نظرات وعبرات | أفغانستان وشجون زيدان!
محمود عبد الهادي
الحديث عن أفغانستان حديث ذو شجون، ما إن تفتح بابه حتى لا تستطيع إغلاقه من جديد، شجون البدايات المضطربة والنهايات المجهولة، شجون مريرة قاسية حارّة، مصبوغة بدم المجرمين والأبطال والشهداء والأبرياء وعذابات النازحين والمهاجرين، شجون البطولة والثبات في وجه أعتى الإمبراطوريات، شجون الأحلام الوردية والأماني الصاخبة وهي تتحطم على صخرة الواقع البليدة، وتغيب تحت ركام الخراب ولهيب الصراعات ورعونة الطموحات، شجون الماكرين من دهاقنة السياسة والغافلين السذّج من البسطاء المنفعلين والوكلاء المأمورين، شجون الصادقين ممن استجابوا للنداءات التي ملأت الساحات وواجهات الإعلام ومنابر الخطباء في بلدانهم، فهبّوا لنصرة دينهم وإخوانهم، شجون المرتزقة والعملاء والجبناء الذين احتشدت بهم الطرق، يجمعون المعلومات ويرسلون التقارير استعدادًا للحظة المصير المشؤوم. إنه حديث ذو شجون أثاره صدور كتاب "صيف أفغانستان الطويل: من الجهاد إلى الإمارة" قبل أيام، للزميل والصحفي القدير الدكتور أحمد موفق زيدان، المدير السابق لمكتب قناة الجزيرة في باكستان.
الكتاب بحق موسوعة فريدة من نوعه، ولم يسبق إليه أحد من العرب أو العجم على هذا النحو، ولا غنى عنه في القضية الأفغانية عامة، وفي جماعات الإسلام السياسي الأفغانية خاصة، ويعتمد على السرد المعلوماتي المستمد من الاتصال المباشر بالأحداث، أو من الأشخاص المشاركين في صناعتها، متجنّبًا إلى حد بعيد جدًا الدخول في التحليلات وسرد وجهات النظر.
موسوعة فريدة
أكثر من 35 عاما قضاها الدكتور زيدان في معايشة لصيقة، وتغطية متخصصة في الشأن الأفغاني والباكستاني، وكان في سنواته الأولى منصبًّا على تغطية أحداث وتطورات ما كان يعرف حينئذ بالجهاد الأفغاني، مع اهتمام خاص بالحركة الإسلامية الأفغانية ونشأتها وتطورها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، فما كان يترك شاردة ولا واردة تخص هذا المجال إلا والتقطها، ولا فرصة لقاء مع أحد الشخصيات إلا أجرى معه حديثًا مطوّلًا أو مقتضبًا، ولا مرجعًا من كتب أو مجلات أو صحف إلا اقتناه، فهو إلى جانب كونه صحفيًّا ملتزمًا بتقديم احتياجات المؤسسات الإعلامية التي يعمل معها، إلا أنه كان باحثًا نهمًا متخصصًا ومتفردًا في ملف الحركة الإسلامية الأفغانية.
وبعد سنوات من الجهد والمثابرة خرج إلى النور هذا الكتاب المرجعي الفريد الذي لم يسبق إليه أحد، لا من العرب ولا من العجم، ليؤرّخ لنشأة الحركة الإسلامية في أفغانستان وتطورها وانتظامها في العمل العسكري في وجه الحكم الشيوعي، ثم إعلانها الجهاد على الاتحاد السوفياتي السابق بعد احتلاله أفغانستان، وإرغامه على الانسحاب، ثم انفراط عقدها وذهاب ريحها، لتحلّ محلها حركة طالبان بتوجهها الإسلامي المتشدد، وفكرتها السياسية الشمولية.
جاء الكتاب في نحو 500 صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على 7 فصول، تناول الفصلان الأول والثاني منه نشأة الحركة الإسلامية في أفغانستان، والكيفية التي تمت بها، والمراحل التي مرّت بها والتيارات الفكرية التي أثّرت فيها، وبالأخص فكر حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي، وصولًا إلى تكوين الأحزاب السياسية وتشكيلاتها العسكرية، وبدايات انتظامها في اللعبة السياسية الإقليمية والدولية، وقد عدّد المؤلف 4 مراحل مرت بها الحركة الإسلامية منذ نشأتها هي: الكمون، والظهور، والتحفز، والانقضاض، قبل أن تصل إلى نهايات لم تكن في الحسبان.
وتناولت الفصول الثالث والرابع والخامس الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979م، وانسحابه منها نهائيًّا في فبراير/شباط 1989م، وما أعقبه من فوضى سياسية وصراعات مسلحة، حيث غطى الفصل الثالث الذي جاء تحت اسم "سنوات الجمر" الانتفاضة الشعبية في سائر الولايات الأفغانية عام 1979، وبخاصة بعد مذبحة هيرات التي جاءت ردًّا على الانتفاضة الشعبية التي قامت هناك على الحكم الشيوعي، وراح ضحية هذه المذبحة أكثر من 5 آلاف من المدنيين تحت قصف الطائرات ودكّ الدبابات.
هذه الانتفاضات سرّعت من دخول القوات السوفياتية لدعم انقلاب الرئيس الشيوعي بابرك كارمل على سلفه حفيظ الله أمين الذي كان رئيسًا للوزراء في عهد الرئيس نور محمد تراقي قبل أن ينقلب عليه، وكان تراقي قد انقلب بدوره على الرئيس محمد داود سنة 1978، ابن عم الملك ظاهر شاه، الذي حكم البلاد في الفترة 1933-1973م، وأطاح حكمه ابن عمه حين كان في رحلة استجمام في إيطاليا. ويستعرض هذا الفصل تفاصيل اتساع الحرب في أفغانستان في سائر الولايات، بين المجاهدين الأفغان والقوات الحكومية المسنودة من القوات السوفياتية، وتفاصيل الدعم الأميركي والغربي للمجاهدين عن طريق باكستان والدول العربية التي فتحت الباب واسعًا لمواطنيها ومنظماتها الإنسانية للإسهام في دعم الجهاد الأفغاني بكل أنواع الدعم.
انتظمت الحركة الإسلامية الأفغانية بكاملها في الجهاد الأفغاني، وأصبحت ندًّا بند للقوة الثانية في العالم وقتئذ، ووجدت الحركة الإسلامية في أتون نارين، نار الحرب المستعرة التي راح ضحيتها نحو مليون وربع المليون من الأفغان، ونار صراع المصالح الإقليمية والدولية التي لا ترحم. ويعرض الفصل الرابع لتفاصيل ما حدث في أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفياتية، وسقوط العاصمة كابل بأيدي المجاهدين إذ تخلى عنهم الداعمون وتناقص الدعم المالي تدريجيًّا حتى توقف، ودخلوا في صراعات مسلحة بين حزبي الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني، والحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، وأخفقوا في الاتفاق على مشروع سياسي يملأ الفراغ الحادث، ويحقق الاستقرار والأمن لأفغانستان، وهو ما لم تكن الحركة الإسلامية الأفغانية مستعدة له على المستويات الفكري والتربوي والتنظيمي.
أما الفصلان السادس والسابع فقد تناولا ظهور حركة طالبان، واستيلاءها السريع على السلطة في أفغانستان، واضعة الحد للفوضى وغياب الأمن الذي انتشر في أفغانستان بعد سقوط كابل بيد المجاهدين وانشغالهم في صراعاتهم البينية، فضلا عن علاقة أسامة بن لادن بالحركة، وأحداث سبتمبر/أيلول 2001 التي أعقبت تفجير برجي التجارة الدوليين في نيويورك، حيث احتلت الولايات المتحدة والتحالف الدولي معها أفغانستان بعد أن دكّت مقارّ طالبان والقاعدة، لتبدأ فصول جديدة في تاريخ أفغانستان تحت حماية قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، واضعة نفسها من جديد في مواجهة فلول طالبان الذين لجؤوا إلى الجبال، ليعيدوا تنظيم صفوفهم ويقفوا عائقًا منيعًا أمام الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها واستعادة الاستقرار في أفغانستان حتى اليوم.
كنت أرجو لو أن هذا الكتاب صدر قبل 10 سنوات من اليوم، حتى يستفيد منه قادة الحرب في الدول العربية التي لا تزال تكتوي بنار صراعاتهم، فقد حفل الكتاب بدروس بالغة عن عبثية هذه الصراعات، والمشاهد التي لا تراها أعينهم بفعل النزق والهيجان الذي يلفّهم، والارتباطات الإقليمية والدولية التي تأسرهم.
دروس بليغة
لم يقتصر الدكتور زيدان على مسار نشأة الخط الإسلامي السياسي الحركي والطالباني في أفغانستان، وإنما تناول جميع الأحداث والمتغيرات الإقليمية والدولية المتزامنة معها والمؤثرة فيها بصورة مباشرة، وبخاصة ما يتعلق بالصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على المنطقة، والتغيرات الدراماتيكية المتعاقبة في باكستان وإيران، فضلا عن أدوار الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية. لقد جاء الكتاب موسوعيًّا بصورة فريدة، ولم يسبق إليه أحد من العرب أو العجم، ولا غنى عنه في القضية الأفغانية عامة، وفي جماعات الإسلام السياسي الأفغانية خاصة، معتمدًا على السرد المعلوماتي المستمد من التغطية المباشرة للأحداث، أو من الأشخاص المشاركين في صناعتها، متجنّبًا إلى حد بعيد جدًّا الدخول في التحليلات وسرد وجهات النظر. لقد أراح الدكتور زيدان الأجيال القادمة، عندما تحتاج إلى معرفة هذه الحقبة الزمنية الممتدة وفهمها.
تنتهي فصول هذا الكتاب الثمين، الذي لا يتسع هذا المقال للتعريف به، فضلًا عن عرضه، وتبقى فصول القضية الأفغانية مفتوحة لم تنته بعد، فحركة طالبان التي تحمل التوجه العام الذي انطلقت منه الحركة الإسلامية الأفغانية بإقامة دولة إسلامية، ما زالت تناوئ الحكومة الأفغانية وتصرّ على الاستجابة لطلباتها، وإخراج القوات الأجنبية منها، وها هي القوات الأميركية ومعها قوات التحالف تستعد لمغادرة أفغانستان، وسط تزايد العمليات العسكرية بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، دون أن تلوح في الأفق أي مؤشرات تبشر بحل قريب، يحقق الاستقرار، ويطلق التنمية، ويبني دولة أفغانستان التي تتطلع إليها الأجيال الجديدة وأهالي المليون وربع المليون قتيل الذين ذهبوا في أتون صراعات أيديولوجية، على مدى أكثر من نصف قرن، تتنافس على السلطة، على اختلاف نيات كل منها.
كنت أرجو لو أن هذا الكتاب صدر قبل 10 سنوات من اليوم، حتى يستفيد منه قادة الحرب في الدول العربية التي لا تزال تكتوي بنار صراعاتهم، فقد حفل الكتاب بخبرات تاريخية ثمينة ودروس بليغة عن عبثية هذه الصراعات، تنقل لهم مبكرًا المشاهد التي لا تراها أعينهم حاليًّا بفعل النزق والهيجان الذي يلفّهم، والارتباطات الإقليمية والدولية التي تأخذهم بعيدًا عن تطلعات شعوبهم وأوطانهم.
قلت لأحد الزملاء في بداية "الحرب الأهلية السورية" عام 2012 "لقد فُتح كتاب أفغانستان من جديد الآن في سوريا، وسوف تتوالى فصوله تباعًا، ولا يعلم أحد إلا الله متى ستنتهي. وها هو الكتاب بين أيديكم، تصفحوه وقارنوا بين ما جاء فيه، وما حدث ويحدث معكم حاليًّا".
ولعلنا نقف على تفاصيل هذه الخبرات والدروس في مقال آخر بحول الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق