نظرات وعبرات
أفغانستان ودروس الصراع: (١) الحرب الأهلية
محمود عبد الهادي
الشجون التي أثارها صدور الكتاب المرجعي للدكتور أحمد موفق زيدان "صيف أفغانستان الطويل.. من الجهاد إلى الإمارة"، شجون لا تنتهي، وقد ازدادت مؤخرا بانفلات كرة اللهب من جديد بين الحكومة الأفغانية بمكوناتها السياسية المتباينة من جهة، وحركة طالبان من جهة أخرى، حيث استغلت الحركة ظروف انسحاب القوات الأميركية والتحالف الدولي لتصعّد من هجماتها ضد قوات الحكومة، بطريقة يبدو منها أن طالبان وبقية القوى السياسية الأفغانية لم تستوعب بقدر كافٍ الدروس والخبرات التي خلّفتها الحرب في أفغانستان على مدار السنوات السابقة، وما زالت مصرّة على العمل بالطريقة نفسها التي كانت عليها قبل 20 عاما. فمتى تعي طالبان والقوى الأفغانية هذه الدروس والخبرات، وتلفت إلى واجباتها تجاه دولة أفغانستان وشعبها؟
إن ما يجمع بين المكونات السياسية والاجتماعية الأفغانية، دينيا وتاريخيا واجتماعيا، أكثر من أن تفرقهم أحلام قيادية أو تطلعات سلطوية تزجّ بهم وبمن معهم في حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، وإن ما تمتلكه أفغانستان من ثروات وإمكانات أولى أن يستثمر لصالح أهلها ومستقبل أجيالها، من أن تحولها هذه الحرب إلى هباء منثور.
وثّق كتاب زيدان لسنوات الحرب في أفغانستان والصراعات المتباينة في منطلقاتها الفكرية، المتشابهة في نتائجها التدميرية، على مدى أكثر من نصف قرن، سنوات ملتهبة حفلت بالعديد من الدروس القاسية والخبرات البليغة التي تحتاج إليها طالبان على وجه الخصوص في المرحلة الراهنة، ومن ينحو نحوها داخل أفغانستان وخارجها، ليستفيدوا منها في إدارة أهدافهم الأيديولوجية وبرامجهم السياسية، وأول درس من هذه الدروس سنتناوله في هذا المقال حول الحرب الأهلية.
مفهوم الحرب الأهلية وأسبابها
المقصود بالحروب الأهلية هي تلك التي تدور بين المجموعات البشرية داخل حدود الدولة الواحدة، لأسباب سياسية أو فكرية أو دينية أو عرقية أو مناطقية أو طبقية، حيث تلجأ أطرافها إلى استخدام العنف والصراعات المسلحة ضد بعضها بعضا، لحسم خلافاتها، وفرض تصوراتها على الدولة والشعب. هذه الحروب أيا كانت أسبابها ودوافعها، إنما تحدث بين أبناء الوطن الواحد، ونتائجها كارثية وعبثية، على حساب حاضر الوطن ومستقبله، وغير قادرة على تحقيق الاستقرار والأمن وفرض الشرعية الدستورية لفترة طويلة، ولا على شطب الثارات والنزعات الانتقامية، ولا على تجاوز الاستبداد والشمولية، وقد رأينا نماذج كثيرة لذلك في اليمن والسودان وليبيا والجزائر والعراق ولبنان ومصر وسوريا، وأميركا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا واليونان والنرويج والبوسنة والهرسك، وموزمبيق وبورندي، وإندونيسيا وباكستان.. وغيرها.
وتدخل الأطراف الوطنية في الحرب الأهلية منطلقة من تصوراتها الخاصة لأسباب الحرب، ويضع كل منهم لنفسه قائمة المبررات التي تسوّغ له محاربة شريكه في الوطن، وما ينتج عن الحرب من قتل لأبناء الوطن، وتدمير لبنيته التحتية والفوقية، وشل لحركته، وتشريد لشعبه، حتى لا تترك آثارا سلبية على نفسيات القائمين بهذه الأعمال، بل تحولهم إلى أبطال. وهذه المبررات غالبا ما تتمحور حول تحقيق استقرار الوطن ومصلحة أبنائه، وتأمين مستقبله، والحفاظ على استقلاله وسيادته، وتطهيره من الخونة والعملاء والمارقين الذين يريدون إفساد هوية الشعب وتدمير أعرافه ومكتسباته، ومنعه من التقدم والتطور. وغالبا ما تختلف لغة هذه المبررات من طرف إلى آخر حسب طبيعة الدوافع الأساسية للحرب، ولكنها تتمحور في النهاية حول القضايا نفسها.
تنطلق الأطراف الوطنية في الحرب الأهلية من تصوراتها الخاصة لأسباب الحرب، ويضع كل منهم لنفسه قائمة من المبررات التي تسوّغ له محاربة الأطراف الأخرى، وما ينتج عن ذلك من قتل لأبناء الوطن، وتدمير لبنيته التحتية والفوقية، وشل لحركته، وتشريد لشعبه، حتى لا تترك آثارا سلبية على نفسيات القائمين بهذه الأعمال، بل تحولهم إلى أبطال.
النتائج المترتبة على الحرب الأهلية
إن على المجموعات الوطنية المختلفة أن تلجأ إلى الأدوات والوسائل السلمية لحل خلافاتها وتحقيق تطلعاتها وطموحاتها، وأن تلتقي فيما بينها على برنامج وطني يحقق لها الاحترام والتعايش والعمل المشترك من أجل تنمية الدولة وتطويرها، وتأمين حياة الشعب، وتعزيز الأمن والاستقرار، لأنها إن لم تفعل ذلك، فإن النتائج المترتبة على الحرب فيما بينها ستكون فادحة وكثيرة ومتعددة وفي غاية الخطورة، على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد:
1. على مستوى الدولة:
- انهيار مؤسسات الدولة وأجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.
- انتشار الفوضى وزعزعة الاستقرار وانعدام الأمن، وانتشار الجريمة.
- تدمير البنية التحتية والفوقية في كافة المجالات الصناعية والزراعية واللاسلكية.
- انهيار الاقتصاد، وهبوط قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، والاعتماد على الديون والمساعدات، وارتفاع نسبة البطالة.
- انهيار التعليم والصحة، وتعطل التنمية.
- التأسيس لحكم شمولي في حال تحقق الغلبة لبعض الأطراف على غيرها، والفتك بالأطراف المهزومة بصورة انتقامية تخلو من العدالة.
- تدخل الأطراف الإقليمية والدولية، وتضارب مصالحها، مما يؤدي إلى إطالة أمد الحرب وزيادة خسائرها.
- هيمنة السلطة العسكرية التي لا تحسن التفكير إلا على وقع القذائف والانفجارات.
- زيادة اعتماد الدولة على الخارج.
2. على مستوى المجتمع:
- ارتفاع عدد القتلى والمصابين والمعاقين، وخاصة في صفوف المدنيين.
- انتشار الأمراض والأوبئة بسبب قلة الغذاء والأدوية وانعدام الرعاية الصحية.
- زيادة معدل الوفيات، وانخفاض متوسط العمر عند الولادة.
- كثرة النزوح داخل أرجاء الوطن، أو اللجوء إلى خارج الحدود.
- انتشار تجار الحروب الذين يستغلون حاجة أطراف الحرب والمجتمع إلى مساعداتهم في المجالات المختلفة العسكرية والتموينية واللوجستية.
- كثرة المرتزقة من أبناء الوطن، الذين لا يجدون سوى الانخراط في الحرب لتأمين لقمة العيش والأمان النسبي.
- تمزيق النسيج الاجتماعي، وشيوع الانهيارات النفسية.
- سيطرة التعبئة الحزبية أو الطائفية أو المناطقية أو العرقية.
3. على مستوى الأفراد:
- كثرة الانتهاكات ضد النساء والأطفال وكبار السن.
- انتشار الإدمان والمخدرات والانحرافات الأمنية والسلوكية والأخلاقية.
- انهيار الوضع النفسي، وتفاقم الإحباط، وخاصة لدى النساء والأطفال والشباب.
- ضعف الانتماء، وزيادة الرغبة في اللجوء والهجرة إلى بلدان جديدة.
على مدى ما يقرب من نصف قرن قدمت أفغانستان أكثر من مليون وربع المليون من القتلى، علاوة على الجرحى والمعاقين ومعاناة النازحين واللاجئين، وما زالت تدور في طاحونة الحرب الأهلية دون جدوى، وما زال زعماء الحرب يصرّون على استخدام الأساليب ذاتها لفرض توجهاتهم الفكرية ورؤاهم السياسية.
إن الفرصة متاحة أمام حركة طالبان لتجلس على الطاولة مع بقية المكونات السياسية الأفغانية، داخل أفغانستان وليس خارجها، ومن دون وساطات دولية، للتعمق المتأني في بحث الواقع الأفغاني ومشكلاته في كافة المجالات، والخروج بتصور مشترك لترميم حاضر أفغانستان وبناء مستقبلها، بما يضمن المشاركة السياسية الدستورية للجميع. ولكن المخيف أن الأخبار التي تتوارد مؤخرا توحي بأن الطاحونة توشك أن تعيد دورتها من جديد. إن ما يجمع بين المكونات السياسية والاجتماعية الأفغانية، دينيا وتاريخيا واجتماعيا، أكثر من أن تفرقهم أحلام فردية أو تطلعات سلطوية تزجّ بهم وبمن معهم في حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، وإن ما تمتلكه أفغانستان من ثروات وإمكانات أولى أن يستثمر لصالح أهلها ومستقبل أجيالها، من أن تحولها هذه الحرب إلى هباء منثور.
فهل تعي طالبان وبقية المكونات السياسية الأفغانية خطورة إشعال الحرب الأهلية في أفغانستان من جديد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق