حديث الجرمق لـ"ابن عامر".. عن فلسطين العميقة وأهلها
فراس أبو هلال
هل أتاك حديث جبل الجرمق؟ هو أعلى جبل في فلسطين، يسكن بجانب الجليل الأعلى وصفد، ويطل على نهر الأردن وطبريا وعكا والجليل الأسفل وحيفا ومرج بيسان وابن عامر ومرج الحولة.
عندما تغفو فلسطين -وقليلا ما تغفو- يبقى الجبل صاحيا، يسرح بنظره الثاقب إلى الجنوب، فيرى جبل الكرمل وجبال نابلس -عيبال وجرزيم- وإذا نظر يسارا يتأكد دائما أن الجولان لا يزال قابضا على الجمر والعشق. من صخره العالي الأخضر يرى الفلسطيني كل نقطة في بلاده، من شمالها لجنوبها ومن نهر الأردن للبحر المتوسط، حيث لا تتوقف مياهه الزرقاء عن كتابة قصائد العشق بالأرض وأهلها، ولا تكف أعماقه عن "الرواية".
إذا تنفس الصبح في فلسطين، وقبل أن يصحو الغزاة والقتلة، يحلو للجرمق أن يحكي، وليس مثل مرج ابن عامر من يجيد الاستماع للحكاية، يهمس الجبل لصاحبه بصوت عربي فصيح، لا يفهمه الغرباء، يقرأ له كل يوم قصة الأرض والناس الذين بقوا على أهبة الصمود والذاكرة، لا يمل الجبل من تكرار الحكاية، ولا يمل ابن عامر من تكرار سماعها. كلاهما يعرف الوجوه جيدا، ويستطيع أن يفرق بين أولئك المزروعين عميقا في الأرض حتى مركزها اللانهائي، وأولئك الطارئين المدججين بالسلاح والخرافة.
ومع أن الجبل يطل على كل فلسطين، ويرى كل بقعة فيها، إلا أنه يميز أكثر "فلسطين العميقة". مدن الساحل وقراها، المجدل، اللد، الناصرة، ولا ينسى وجه "أم الفحم" التي ينطبع من انعكاس شمس الصباح واضحا على تضاريسه.
يسميها "فلسطين العميقة" لأنها كانت أول الخسارات أمام الغزاة، ولكنها أيضا أول الصمود. كانت أول الكوابيس، ولكنها أيضا أول الأحلام. في حديث الجرمق لـ"ابن عامر" يختلط الحب بالغضب، والضحك بالبكاء، والقهقهقة بالنشيج. يبتسم الجبل عندما يتذكر ثورة 1936، ويزداد علوه حتى لا يكاد "ابن عامر" يرى وجهه عندما يتذكر ابن جبلة السورية، عز الدين القسام، ويبكي طويلا بصوت مكتوم حتى لا يسمعه الغزاة ويفرحون عندما تصل الحكاية إلى "دير ياسين" و"قبية"، وينتفخ فخرا عندما يفتح الفصل الألف من فصول الثورة ليجد صورة عبد القادر الحسيني تزين صفحاته، ويتوقف عن التنفس عند صفحة أيار 1948، وفي كل مرة يصل فيها عند هذه الصفحة يغيب عن الوعي فيرتجف "ابن عامر" خوفا عليه من الموت، ولكن الحياة تدب فيه من جديد، وتعود الدماء للجريان في شرايينه كمياه نهر الأردن، ويتعالى في هذه اللحظة، لحظة "يوم الأرض" ليصبح مطلا على كل بقعة في الكون، وليس فقط على أرض فلسطين.
لا يفرق الجرمق بين أبنائه عندما يتعلق الأمر بحراستهم من الغزاة، ولكن قلبه يميل لأبناء "فلسطين العميقة"، فآباؤهم وأجدادهم هم الذين بقوا في الأرض أول الأمر، وهم الذين أفرغوا سردية الغزاة من مضمونها، وهم الذين يتمنى الغزاة كل يوم أن يصحوا فيجدوا أن المتوسط قد ابتلعهم، وهم الذين صمدوا في فترة الحكم العسكري، وهم الذين يحفِّظون أبناءهم أنها "نكبة" وليس استقلالا، وهم الذين يحفظون عن ظهر قلب "موطني" ويعلمون أن "هاتيكفاه" كذبة كبرى مثل كل رموز الغزاة، وهم الذين وقفوا مع شعبهم في الضفة والقدس غزة عند كل منعطف، وهم الذين يسميهم الغزاة عربا فيما تخلى عنهم العرب زمنا طويلا، ولكنهم بقوا على اعتزازهم بعروبتهم، ومعها ظلوا يسمون أنفسهم "فلسطينيين"، لأنهم يعلمون أن "فلسطينيتهم" تقهر الغزاة، وتثبت عشقهم الأبدي للوطن والتاريخ والشعب الممتد من البحر إلى النهر!
القدس وفلسطينيو العمق
القدس هي العقدة في الصراع، أو لنقل العقدة الأكبر. منذ الاحتلال الأول ثم النكسة وهم يبحثون بجرافاتهم وبلدوزراتهم عما يثبت "الخرافة" دون جدوى. يعلمون أن هذه الخرافة لا يمكن أن تكتمل دون تفريغ القدس من أهلها وإيجاد أي دليل عليها تحت الأقصى والقيامة. أهل فلسطين العميقة يدركون ذلك أيضا.
منذ عقود يشد فلسطينيو العمق رحالهم للقدس لقتل الخرافة، يقطعون عشرات الكيلومترات خصوصا في أيام الجمعة وفي شهر رمضان المبارك، يقومون بذلك نيابة عن أكثر من مليار مسلم يؤمن كلهم بأن الرحال لا تشد إلى إلا ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى.
تستمر المعركة في القدس بعيدا عن السياسة والمفاوضات تحديدا بين أهل "فلسطين العميقة" وبين الغزاة. يتسلح القتلة بالبنادق والخرافات والجرافات والقوة العاتية، ويتسلح فلسطينيو العمق بالحب، وبالصلاة، وبالخيط الواصل بين الأرض والسماء من صخرة المعراج حتى سدرة المنتهى. يرحلون من مدنهم وقراهم بالباصات والسيارات وأحيانا مشيا على أقدام العشق الإلهي، يركضون بخفة الأطفال نحو البقعة التي صلى بها النبي عليه السلام بإخوانه ليلة الإسراء، ولا ينسون في طريقهم نحو المصلى المرواني أن يأخذوا زادا من الكعك المقدسي المسمسم بالإيمان، يفترشون الأرض في الساحات القريبة من باب العامود، ولا تكتمل فرحتهم إلا عندما تشخص أنظارهم نحو وجه صلاح الدين في محرابه المغروس بالأرض والصاعد نحو سقف السماء.
في الرحلة نحو القدس، يمر أبناء فلسطين العميقة على أطلال حي المغاربة، يسلمون على محبي الأقصى من عرب وأمازيغ المغرب الأقصى، حيث كانوا يزورون البلدة القديمة في رحلتهم إلى بيت الله الحرام. بنى المغاربة حارتهم لتكون دليلا على حبهم للمدينة، وعلى ارتباط المؤمنين في كل العالم بمسجدهم، وعلى التصاق البشر بأحجار الطرق القديمة. بنى المغاربة المدينة لأنهم يعشقون الحياة، وهدمها الغزاة لأنهم منذورون للموت والدمار. لم يعد الحي مغاربيا في الشكل، ولكن روح عقبة بن نافع الفهري القرشي وروح يوسف بن تاشفين الصنهاجي تحلقان فوق خيالات الجدران والدور المهدمة، يراهما فلسطينيو العمق في كل رحلة يذهبونها للقدس.
بين أهل فلسطين العميقة والقدس قصة وجد تتجدد كل يوم، يجتمع فيها التاريخ مع الحاضر فيرسمان لوحة من الألم والأمل، وتحفظ ما تبقى من الجدران القديمة قصة المدينة مع أجدادهم، يحضر عمر فوق دابته فاتحا كل صباح، ويتلاشى غزاة كثيرون مروا على المدينة، ويختلط صهيل خيول جيش صلاح الدين مع صوت الأذان، ويحضر المسيح في درب آلامه نحو القيامة، يسلم عبد القادر على فلسطيني العمق وهم يطاردون حلم التحرير. يحضر الغزاة أيضا، ولكنهم يظهرون على حقيقتهم غرباء، فيما تتشابه حجارة أزقة الأسواق في البلدة القديمة مع وجوه أبناء فلسطين العميقة. تعرف الأرض دائما أبناءها الحقيقيين.
قد يخطئ البشر والوثائق المزورة والمعاهدات المكتوبة بموازين القوى، وقد تخطئ الأمم المتحدة واليونسكو وحفارو القبور الذين يسمون "علماء آثار"، وقد يخطئ المفاوضون -وكلهم خطاءون- أما الأرض فلا تخطئ أبدا، وهل يمكن للأم أن تجهل عن أبنائها؟ وهل يمكن لسرة الأرض أن تنسى أطفالها الذين لا تزال تغذيهم بالحب والبهجة والوجد والحنين والثورة والشهادة واليأس أحيانا والأمل دائما؟
في الرحلة نحو القدس، يتمسك فلسطينيو العمق بأمل الوصول أحياء للمساطب وحنفيات المياه وباب نابلس، ولكن الغزاة يحاولون قتل الأمل دائما، ويفشلون دائما. يقتلون الزاحفين أحيانا بسلاحهم وعنصريتهم. يموت الشهداء ولكنهم يموتون واقفين، يحبون الحياة ولكنهم يدركون أيضا أن الوصول إلى الصلاة في القدس يستحق التضحية، فـ"ركعتان من العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم" أحيانا!
اللد
"مد جناحيك على الكرمل.. واللد والرملة والمجدل". كانت هذه القصيدة لعبد الكريم الكرمي تدرس في المدارس الابتدائية، قبل أن تتصهين المناهج الدراسية! كانت الصورة المرافقة للقصيدة في الكتاب المدرسي على ما أذكر هي صورة طائر يحلق بجناحيه. لو كنت مكان لجنة المناهج لوضعت صورة لجبل الجرمق، فهو الآخر يمد جناحيه على الكرمل واللد والرملة والمجدل.
لسنوات طويلة ظلت "اللد" في خيالي وخيال أبناء جيلي هي تلك المدينة التي تمر على عجل في قصيدة "أبو سلمى". كانت ترتبط أيضا بالرملة، فلا تكاد تذكر إحدى المدينتين إلا وذكرت الأخرى، ولا غرابة فالمسافة بين بطينهما الأيمن لا تتجاوز خمسة كيلومترات من التاريخ والجغرافيا والنضال والعذابات المشتركة.
كانت المدينة بحسب كتب التاريخ عاصمة لفلسطين التاريخية عندما بدأ الفتح الإسلامي لها في عهد الفاروق عمر. وصارت اللد عاصمة لفلسطين مرة أخرى أثناء الانتفاضة العظيمة التي بدأت في القدس وانتقلت إلى غزة والضفة وفلسطين العميقة في رمضان المبارك.
تحركت اللد وما تبقى من أبنائها الأصليين عندما توسعت المواجهات مع الغزاة في القدس وغزة. صارت المدينة عاصمة الثورة وليس فقط عاصمة التاريخ أثناء الأحداث. استشهد فلسطيني وجرح الكثيرون في المظاهرات، واستطاع "اللدادوة" أن يحرروا مدينتهم لعدة أيام. كان وزير حرب الغزاة يدرك خطورة انتقال الثورة إلى اللد، وصار يشعر بالخطورة أكثر عندما انتقلت الانتفاضة منها إلى كل مدن العمق الفلسطيني. في لحظة من اللحظات كان جيش الاحتلال يريد وقف العدوان على غزة حتى لا تتدحرج الأمور في اللد وغيرها من مدن فلسطين العميقة، فهم يدركون أن اللد لا تقل خطورة على احتلالهم وسرقتهم من غزة، بل ربما هي الأخطر عليهم.
مع تصاعد الأحداث عرفنا وجوههم الفلسطينية دون تدقيق، كانت وجوههم تشبهنا، وتشبه اللد. لمحنا في عيونهم فرحا واضحا بلحظة الولادة، ولادة تاريخ جديد من التحام الشعب الفلسطيني في كل مدنه وقراه لأول مرة منذ عقود. نقلت شاشات الفضائيات صورهم وهم يثأرون للنكبة الأولى. كان خروجهم للشوارع بمثابة رد متأخر على تهجير أجدادهم من "البلاد" وسرقة بيوتهم وقتل الكثيرين منهم. لا بد بأنهم تخيلوا للحظة جيرانا محتملين كانوا سيولدون من آباء وأجداد هجِّروا أو قتلوا أثناء النكبة. لا بد بأنهم عانقوا أصدقاء متخيلين لم يسمح الغزاة بولادتهم، لا بد بأنهم غازلوا حبيبات كان يمكن أن يولدن هنا وأن يعشقن هنا وأن يُلمحن عند "حلة المدارس" لو لم تحدث النكبة، ولا بد بأنهم شعروا بأنهم فلسطينيون بما يكفي ليكونوا في صف واحد مع أبناء شعبهم الفلسطيني في غزة والقدس والضفة.
لم يصدق أبناء اللد أكذوبة "التعايش" التي يروجها الغزاة، فالتعايش مع المحتل هو رضوخ العبد لأحلام سيده بالتذويب، وهيهات أن يقبل أبناء اللد بالأسرلة والخضوع. قاوموا الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاما بأسمائهم الفلسطينية، ولهجتهم العامية، وحفلات زواجهم وطقوس موتهم، وبطبخة المقلوبة والحمص الذي يريد الغزاة سرقته ونسبته إليهم، وبالنشيد الوطني المكتوم بين الجدران خوفا من الاعتقال والمحاكمة، وبالعلم المطبوعة ألوانه في سويداء قلوبهم، وبانتمائهم لشعبهم الواحد في كل مكان. قاوموا الاحتلال وإغراءاته وآلة قتله، وعندما دقت ساعة اللحظة الثورية عمَّدوا انتماءهم لهذا الشعب بدم الشهداء. كانت اللد عاصمة لفلسطين التاريخية، وأعادها الشهيد "موسى حسونة" عاصمة لفلسطين من جديد.
انتهت المظاهرات في اللد وبدأ الاحتلال باعتقال أبناء المدينة وغيرها من مدن فلسطين العميقة، ولكن مشهد ارتفاع العلم الفلسطيني فوق مؤسسات حكم الغزاة في اللد لا يزال يصنع تاريخا غير مسبوق في الصراع، وسيبقى كذلك. سيرى العلم كل فلسطيني عندما يمر بجانب هذه المؤسسات، وسيبقى العلم مرفرفا على تلك السارية في وسط المدينة والتي أنزل "لدّاوي" علم الاحتلال عنها ورفع علم فلسطين. أنزل الغزاة العلم عن السارية، ولكنه سيبقى في قلوب فلسطيني اللد، وستبقى صورة الشاب الذي رفعه قصة يتناقلها "اللدادوة" جيلا بعد جيل. وسيبقى إلهام المدينة حافزا للثورة على القتلة في كل حين.
الدحّيّة
الدحّيّة هي دبكة بدوية يعرفها أبناء فلسطين والأردن وربما غيرهم من بدو المنطقة. يردد المغني الشعبي بيتا شعريا من سطرين بلهجة بدوية، ثم يهمهم من ورائه الحضور أصواتا غير مفهومة، ويضربون كفيهم ببعضهما البعض وهما تتجهان نحو مركز الأرض، ويلتصق الشباب تقريبا أثناء تأدية الدبكة بصورة تمنح العرس حميمية توزع على شعوب الأرض كلها.
انتقلت "الدحية" من طقس يمارسه بدو النقب/ بئر السبع إلى أعراس فلسطين في معظم مدن فلسطين العميقة. يغنيها شباب كثيرون، ولكن نجمهم الأكبر أثناء انتفاضة الكرامة في رمضان وما بعده كان "معين الأعسم".
وقف معين مع شريكه في الغناء وفرقته ليغني للقدس والمقاومة. غنى للملثم ومقاتلي الحرية. غنى انتصارا لغزة والقدس، ولكنه في صميم قلبه كان يغني أكثر لانتمائه للشعب الفلسطيني. كانت كلماته البسيطة رفضا للصورة النمطية عن بدو فلسطين ودورهم في مواجهة الأسرلة. كان يواجه تاريخا مزورا عن تذويب البدو، ويكتب التاريخ الحقيقي للمنطقة وأهلها الذين ينتمي غالبيتهم العظمى لفلسطين وشعبها دون هوادة. غنى معين الأعسم لـ"أبو عبيدة" وهو يعرف أن ثمن الغناء للمقاومة تحت الاحتلال قد يودي للسجن، ولكنه أراد أن يكون جزءا من "حفل" الانتماء والالتحام الوطني في ساعة المواجهة. كانت الدحية جزءا من المعركة، وكانت أيضا جزءا من الغضب الممزوج بالحداء والإرث البدوي والانتماء للصحراء في مواجهة حرب التهجير وهدم البيوت التي يشنها الاحتلال ضد بدو النقب في "رهط" و"العراقيب" و"الزرنوق" و"أم بطين" وغيرها من المدن والتجمعات البدوية.
قد يضطر معين الأعسم وغيره للتوقف عن الغناء للمقاومة تحت ضغط القوة، ولكن كلماته ستبقى حاضرة عند كل "دحّيّة" يغنيها في عرس فلسطيني، وسيشتعل انتماء بدو فلسطين مع كل كف يضرب بكف في "دحّيّة" أخرى. كان معين الأعسم جميلا أثناء المواجهة، وكان بدو النقب أجمل حينما أعادوا اكتشاف أنفسهم من جديد، وقاطعوا أسواق الغزاة بعد انتهاء الحرب.
محمد كيوان
إذا كان لوجه واحد واسم واحد أن يلخص ثورة الكرامة في فلسطين العميقة أثناء رمضان وما بعده فليس هناك سوى الشهيد محمد كيوان من "أم الفحم" ليقوم بهذا الدور. شاب يبلغ من العمر 17 عاما. يبتسم دائما في الصور التي نشرت له بعد استشهاده. يحافظ على أناقته وتسريحة شعره. كان شابا عاديا قبل استشهاده ينتظر إنهاء التعليم الثانوي، وصار رمزا فلسطينيا بعده، يحتفي به جميع أبناء فلسطين العميقة.
وعندما يذكر "محمد كيوان" فلا بد أن تذكر "أم الفحم" وهي إحدى مدن العمق التي تؤرق الاحتلال، منها خرج "رائد صلاح"، ومنها خرجت حملات نقل المصلين للقدس عند كل جمعة، في خطوة تهدف للحفاظ على المدينة وعروبتها وإسلاميتها وفلسطينيتها.
في التشييع الكبير للشهيد محمد كيوان ترى فلسطين كلها حاضرة، بناسها الذين تجاوز الحضور منهم خمسين ألفا على الأقل، وبأناشيدها، وشعاراتها، وتراثها، وانتمائها للأرض والشعب في مواجهة الغزاة.
صدحت مدن وقرى فلسطين العميقة كلها مع المشيعين "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله".. "جنة والله جنة.. يا شهيد يا حبيب.. يابو قليب الطيب". كان شهداء يوم الأرض حاضرين في التشييع ينتظرون احتضان الأرض لمحمد كيوان ليسهر معهم ليلته الأولى في الخلود، وكان شهداء ثورة 1936 يرددون الحداء خلف نعش الشهيد، وكانت أمه تقاوم حزنها الغافي بالزغاريد، وكانت أخته تبكي لأنها لم تودعه قبل الخروج الأخير.
في زيارتين من مجموعة من زملاء وزميلات الشهيد لأمه يحضر كل الرمز، ويطغى الخيال، وتتوارى حقيقة الوجع ولو للحظات. في الفيديو الأول يظهر أصدقاء محمد وهم يتوجهون بالأعلام والكوفيات نحو بيته. تخرج الأم لاستقبالهم أمام عتبة الدار التي طالما وقفوا عندها مع صديقهم الشهيد. لابد بأن الأم شعرت بالندم لأنها كانت تتضايق أحيانا من اجتماعهم عند عتبة الدار كما تفعل كل الأمهات! كانت عيناها تدور في الظلام الذي كسر حدته نور وجوههم وأضواء السيارات يمينا ويسارا لعلها ترى محمد بينهم. لم يحضر محمد ولكنهم كانوا جميعا "محمدا"، وغنوا لها "يا ام الشهيد وزغردي.. كل الشباب أولادك". كان صوتهم ثابتا في البداية ليمنحوا بعض العزاء والعزيمة للأم المكلومة، ولكن حشرجة متأخرة كشفت حزنهم الشفيف على فراق صديقهم.
في مشهد آخر تدخل مجموعة من الصبايا، من زميلات محمد في المدرسة كما يبدو. تسير الصبايا مثل صف من الكشافة المنظمين، تتقدمهم صبية غطت رأسها بكوفية فلسطينية، وخلفها صبايا تقول تفاصيل وجوههن إنهن فلسطينيات حتى النخاع. تصفق الصبايا بصوت متجانس وعال عند الدخول للأم الباكية، وتهتفن بصوت قوي لا ينقصه الحزن: "يا ام الشهيد نيالك.. يا ريت امي بدالك". بكت الأم وهي تحتضن زميلات ابنها وبكين معها. جئن لها ببعض المواساة وعدن إلى بيوتهن مع بعض الحزن، واحتفظت لوحدها بما تبقى من الحزن وبالفخر كله.
مات شهداء فلسطينيون كثيرون خلال الحرب الأخيرة وانتفاضة الكرامة التي رافقتها، ولكن محمد كيوان سيظل شيئا مختلفا. في وجهه، وتوقيت استشهاده، ورمزية المكان، وفي التشييع الحاشد، وفي زيارات الأصدقاء والصديقات للتعزية، وفي هتاف جماهير نادي أم الفحم في الجمعة الماضية باسمه في مدرجات ملعب كرة القدم. مات محمد كيوان، ولكنه سيظل موضوعا يوميا في حديث "الجرمق" لسهل "ابن عامر" عن فلسطين العميقة وأهلها.
اقرأ أيضا: تعرف إلى "جبل الجرمق" أعلى قمم فلسطين المحتلة
اقرأ أيضا: لماذا تحولت اللد لساحة حرب في وجه الاحتلال.. وما أهميتها؟
اقرأ أيضا: جماهير أم الفحم تشيع جثمان الشهيد كيوان (شاهد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق