حفلة الشيخ يعقوب في مصر… ما وراء الكواليس
إحسان الفقيه
عاشت مصر السبع العجاف في زمن يوسف عليه السلام، فأعقبها عام فيه يغاث الناس ويعصرون، وعاشت السبع العجاف في الشدة المستنصرية زمن الفاطميين، ثم أعقبها الفرج، وتختتم في هذه السنة سبعًا عجافًا أذهلت عقل اللبيب، في عصر يُضبط فيه إيقاع حياة المصريين على هوى النظام، وما مِن أمارة تلوح في الأفق لتزف بشرى قريبة.
سبعة أعوام فحسب منذ توليه الحكم في 2014، تغير وجه الحياة في مصر، ويجد كل متابع للشأن المصري بدون عناء، أن ثمة مشكلة بين النظام والتدين، نعم بلا مواربة أقول، إن الرجل لديه مشروع تحديثي يغير ملامح الهوية الإسلامية لدى المصريين، وهذه السطور تتضمن حدثا مهما هو الأبرز في مصر في الأيام القليلة الماضية، يعد علامة واضحة على توجهات النظام السالف ذكرها.
الحدث هو مثول الداعية المصري محمد يعقوب أمام المحكمة، كأحد شهود النفي في قضية عرفت بقضية «داعش إمبابة» وهو أبرز الدعاية السلفيين الذين راجت محاضراتهم في العالم الإسلامي، وأبرزها كانت محاضرة «لماذا لا تصلي» التي حققت انتشارات واسعا في زمن شريط الكاسيت، وكانت علامة بارزة في حياة يعقوب الدعوية.
ولمن لا يعلم، فالسلفية في مصر ليست شيئا واحدا، فهناك الدعوة السلفية التي يترأسها الداعية ياسر برهامي، ولها ذراع سياسي ممثل في حزب النور، وهو حزب يتخندق مع النظام، حتى يؤمّن وجود الدعوة ويحصل لها على مساحات للتحرك الدعوي، وكان معارضا بشدة لحكم الدكتور مرسي، رحمه الله، تأثرا بجذور الخلاف بين السلفيين والإخوان.
وهناك سلفية المشايخ، وهي عبارة عن شيوخ غير مؤدلجين لا ينتمون لأي جماعة أو فصيل، ولهم طلابهم الذين يتعلمون على أيديهم فروع العلم المختلفة، إضافة للقاعدة الجماهيرية من العامة، وهذه السلفية يمثلها عدد من الشيوخ منهم، محمد حسين يعقوب، وهو يركز في دعوته على البسطاء بشكل كبير.
استندت المحكمة في طلبه للشهادة على قول أحد المتهمين في القضية بأنه تأثر بالشيخ يعقوب وغيره من مشايخ السلفية المعروفين، لكن المثير للدهشة، أن القاضي وجّه سيلا من الأسئلة للداعية – الذي جاء على كرسي متحرك – لا علاقة لها بالقضية، وبات واضحا من الأسئلة المنهجية والفكرية والفقهية التي طرحها على الرجل، أن القاضي يريد أن يجعل من يعقوب وليمة ينهشها الإعلاميون والسياسيون، ويحاول توريطه في الإجابة عن أسئلة، يكون مخيرا فيها بين إجابتين كلتاهما تؤول به إلى سوء العاقبة.
خرج يعقوب من هذه الجلسة وهو لا يعلم أنه سيكون حديث الساعة، إذ تعقب حديثه كلُ الأطياف، معارضو النظام الحالي ومؤيدوه على السواء.
فمن يعارض النظام، اعتبر أن الشيخ قد أجاب بميوعة، ولم يقل كلمة الحق في هذا الموطن، أرادوه العز بن عبد السلام في عصر خلا من ظهير شعبي، كذلك الذي ألجأ الملك إسماعيل لإعادة العالم الجليل إلى أرضه، فصبوا جام سخطهم على الداعية الواعظ المسن، الذي لم يدّع يوما أنه أحد قادة الرأي، وحياته منصبة على العلم والتعبد.
معظم هذه الفئة هم من أنصار الرئيس مرسي، الذين سخطوا على مشايخ سكتوا عن جرائم النظام الحالي، بينما كانوا يصولون ويجولون على المنابر وفي الفضائيات يعارضون بعض سياسات مرسي، ويتوعدون بتقويمه إذا اعوجّ، على غرار ما كان يفعله علماء الأمة السابقون. أما مؤيدو النظام والسائرون في ركبه، فحدث ولا حرج عن رعونتهم في تناول هذا الحدث، اتهموا الرجل بالكذب والتدليس وإخفاء الحقيقة عندما أجاب على بعض الأسئلة بقوله: «لا أعلم» وحمّلوا كلامه ما لا يحتمل، فعندما قال: «أنا لا أفتي» اتهموه بأنه كان يضلل الناس طيلة أربعين عاما في دعوته بإجاباته في مسائل الحلال والحرام.
وهذا جهل فاضح أو تعمد واضح للتشهير به، فالرجل لم يتجاوز الحقيقة، وبيان الحكم الشرعي يختلف عن الفتوى، الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين؛ طلبا أو اقتضاء أو تخييرا، أما الفتوى، فهي إنزال الحكم الشرعي على واقع المستفتي.
وعندما سئل عن رأيه في ما أقره أحد المتهمين بأن «الجهاد في سبيل الله هو القيام بعمليات إرهابية» فرد الداعية: «هو قال ذلك، يكون إذن غلطان، لا أظن أن هناك عاقلا يقول هذا» هذه الإجابة استفزت الإعلامي عمرو أديب الذي كان يريد إجابة بعينها في ما يبدو، ولذا استشاط غضبا وقال: «هذا الرجل لم يكن حقيقيا، لم يكن الشخص ذاته أو الإنسان ذاته، كما أنه لم يقل ما في صدره، يعقوب استخدم مبدأ يقول: عندما تكون مستضعفا وخائفا من المشركين، اعمل أي شي، وسيغفر لك الله ذلك».
أما الإعلامي إبراهيم عيسى، فكان يأمل في إثبات أن أفكار محمد يعقوب هي ما أنتج الإرهاب، مستندا بذلك إلى ما جاء في اعتراف أحد المتهمين بأنه تأثر بالشيخ يعقوب ومحمد حسان والحويني وغيرهم، ولم يُفصّل إبراهيم عيسى ولا غيره مجال هذا التأثر وطبيعته، فالداعشي الإرهابي قد يتأثر بمحاضرات عن الرقائق والإيمانيات من أحد المشايخ، فهل يُحكم من خلال ذلك على الشيخ بأنه مسؤول عن أفكاره الأخرى المتطرفة؟ كما أن الداعية بطبيعة الحال يحضر دروسه المئات وأحيانا الآلاف، وربما الملايين من خلال الإنترنت، فهل بالضرورة تكون هناك صلة بين الداعشي والداعية؟ وذهب البعض إلى رفع دعوى قضائية على يعقوب بتهمة الكذب على القضاء، ودخلت دار الإفتاء على الخط، عن طريق مستشارها، الذي اتهم يعقوب بتبني فكر الخوارج، مع أن الرجل في إجاباته قد خطّأ التفجيرات، وعندما سئل عن رأيه في تكفير الحاكم، قال إن الكلام في التكفير يجب أن لا يكون في المطلق، ويجب أن يكون لشخص معين وأنها مسألة قضائية، فالقاضي هو من يحكم عليه ونحن دعاة ولسنا قضاة، وليس لنا أن نحكم في هذه المسألة.
أشقاؤنا المصريون يطلقون لفظ «حفلة» أو «تحفيل» على من يتعرض لموجات السخرية والنقد اللاذع، وهذه الحفلة التي أقيمت على الشيخ يعقوب لها دوافعها التي تختبئ خلف الكواليس، فالحفلة ما هي إلا ستار للتغطية على حدثين مهمين يشغلان الرأي العام المصري والعربي الإسلامي عموما، أولهما قائم منذ فترة وهو مشكلة سد النهضة، التي تفاقمت بالعنت الإثيوبي والأداء المصري المترهل، والثاني: هو تأييد حكم الإعدام بحق 12 من أنصار الشرعية، أبرزهم الدكتور محمد البلتاجي أحد أبرز رموز الإخوان وثورة يناير واعتصام رابعة، بعد أكثر من سبعة أعوام خلف القضبان، في محاكمة هزلية لا تستند إلى دليل إدانة، ينهض لتوقيع حكم الإعدام. الهدف الأبرز من وراء هذه الحملة هو مأسسة التدين، بإسقاط كل رموز الدعوة، وحصر مهمة الدعوة في المؤسسات الدينية التابعة للدولة التي تحتكر وحدها حق الحديث في مسائل الدين، فبعد أن قام النظام بتجميد دعوة الإخوان عن طريق التصفية والاعتقال والتشريد، اتجه لإقصاء الدعاة السلفيين عدا التيار المدخلي الذي يشرعن باطل الأنظمة، وعدا سلفية حزب النور التي تتماهى مع النظام ـ رغم أنها لا تسلم من بطش إعلامه ـ مقابل الحصول على مساحة صغيرة لممارسة الأنشطة الدعوية.
أما عن الأزهر فهو يواجه ضغوطات شديدة من أجل موافقة النظام على تطوير الخطاب الديني، الذي لا يعني سوى تفريغ الدين من محتواه، واعتماد نسخة جديدة تريدها أمريكا والكيان الصهيوني، تتمثل في الإسلام الطرقي الانسحابي القائم على الاستغراق في الجانب الروحي، بدون التوجه لإصلاح مناحي الحياة وتغيير الواقع السيئ، ولذا يعتمد النظام على مؤسستين لهذا الغرض، المفتي والأوقاف، كبديل عن الأزهر.
هذا المسلك الإقصائي بحق كل الدعاة ومأسسة التدين وحصْر كلمة الدعوة في الإفتاء والأوقاف، تتيح للنظام السيطرة على ما يتعرض له المواطن المصري من مواد تتعلق بالشريعة، حينها تتوافق كل مخرجات الخطاب الديني مع توجهات النظام، ويقتصر دور هذه المؤسسات على الترويج لسياساته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق