السبت، 12 يونيو 2021

الحكّاء (18)| الرجل الذي حاكم دكتاتوره

 الحكّاء (18)| الرجل الذي حاكم دكتاتوره

أسعد طه

(1)

سليمان غونغونغ يعمل محاسبا في إحدى المؤسسات بالعاصمة التشادية نجامينا، مواطن بسيط، لا شأن له بالسياسة، ألقت الشرطة القبض عليه صبيحة أحد أيام أغسطس/آب 1988 بتهمة المشاركة في أنشطة سياسية غير قانونية، في زنزانته يرفع رأسه يوما إلى السماء ليقسم على النضال من أجل العدالة إن خرج حيا، وبعد عامين ونصف يخرج بالفعل حيا.

(2)

حسين حبري رجل نحيف طويل القامة يكاد وجهه الصارم أن يعلن صراحة أنه أحد أعتى مستبدي أفريقيا، يقضي في حكم تشاد 8 أعوام، فترة ليست طويلة إذا ما قورنت بما يقضيه في الحكم مستبدون آخرون، لكن سنوات حكمه تعد سنوات من الجحيم، فيها يعدم 40 ألف مواطن، ويتعرض للتعذيب 200 ألف آخرون، وتشهد البلاد ترهيبا وقمعا وفسادا غير مسبوق، إلى أن يهرب الرئيس الدكتاتور إلى السنغال إثر هزيمة عسكرية على يد معارضيه، يحمل معه ثروته التي اختلف حول تقدير كم مليونا من الدولارات هي، وهناك في السنغال يعيش هادئا لمدة 25 عاما، قبل أن يحل موعد القصاص.

(3)

سليمان غونغونغ لا يملك ما يمكن أن يحارب به دكتاتوره السابق، لكنه قرر أن يفي بوعده، وأن يحارب من أجل العدالة، يعمل على تجميع شهادات الناجين وأقارب الذين قُتلوا بأمر من حبري، يتمكن بالفعل من تسجيل حوالي 700 شهادة تشرح بالتفصيل ما جرى لأصحابها.

يصل خبره إلى أعضاء سابقين في نظام حبري ممن استمروا في مناصبهم بعد فرار الدكتاتور المخلوع، يهددونه بالقتل، فيقوم بإخفاء الوثائق، يصيبه وآخرين ممن قرروا ملاحقة الدكتاتور الهارب بعض اليأس الذي سرعان ما يبدده خبر القبض على دكتاتور تشيلي السابق أوغستو بينوشيه في بريطانيا في أكتوبر/تشرين الأول 1998، وذلك بناء على مبدأ سلطة القضاء العالمية التي تتيح عرض القضايا التي تنطوي على أعمال تعذيب وإبادة جماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية دون النظر إلى المكان الذي تم ارتكاب الجريمة فيه أو جنسية مرتكبي تلك الجرائم أو جنسيات ضحاياهم.

(4)

في عام 1999 يطرق محاميان شابان باب منزل غونغونغ باعتباره أحد الناجين من سجون نظام حبري، يخبرانه أنهما ومؤسسات حقوقية أخرى يعملون على جمع شهادات الضحايا لبدء اتخاذ إجراءات قانونية ضد حبري، يستقبلهم الرجل مبتسما، حان أخيرا اليوم الذي طالما انتظاره.

يدلهما على الجزء الخلفي من منزله، حيث أخفى حوالي 800 شهادة لضحايا الدكتاتور المخلوع، يقومون جميعا بنسخها خلسة ثم تهريبها إلى الولايات المتحدة.

وفي يناير/كانون الثاني 2000 يتقدم سليمان وزملاؤه من الرابطة التشادية لضحايا الجرائم والقمع السياسي بشكوى ضد حبري في السنغال التي تؤويه.

وفي الشهر التالي يوجه القاضي السنغالي ديمبا كانجي اتهاما رسميا إلى حبري بالتعذيب وارتكاب جرائم ضد الإنسانية ويضعه قيد الإقامة الجبرية.

يفرح الضحايا، إلى أن يقرر الرئيس السنغالي الجديد عبد الله واد نقل القاضي كانجي إلى مكان آخر واستبعاده من التحقيق في ملف الدكتاتور حبري، لتقرر لاحقا محكمة الاستئناف رفض لائحة الاتهام الموجهة ضد حبري، وتحكم بأن المحاكم السنغالية ليس لها اختصاص للنظر في القضية، لأن الجرائم لم ترتكب في السنغال.

يصيب الإحباط الضحايا، لكنهم لا ييأسون، تقرر الرابطة التشادية استئناف الحكم أمام محكمة النقض، وهي أعلى محكمة في السنغال، لكن المحكمة للأسف تُسقط القضية ضد حبري، لكن الضحايا عازمون على المضي في طريقهم، فيتقدم 17 منهم في تشاد نفسها بشكاوى جنائية ضد شرطة حبري بشأن التعذيب والقتل والاختفاء.

(5)

يحل مايو/أيار 2001 ويحمل معه خبرا سعيدا، لقد اكتشفت منظمة هيومن رايتس ووتش ملفات لشرطة حبري تضم آلاف الصفحات من ملفات الاستخبارات التي تعرض بالتفصيل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام.

المستبدون دائما في غرور، يعتقدون أنهم أذكى ممن سبقهم، وأنهم سيفلتون من العدالة، وأن أحدا لن ينال منهم، ينسون أن عزيمة الضحايا وإصرارهم على القصاص قادران على أن يوقعا بهم العقوبة التي يستحقونها

وبالتوازي مع ذلك يتقدم ضحايا انتقلوا للحياة في بلجيكا بشكاوى جنائية في بروكسل بموجب مبدأ سلطة القضاء العالمية ضد الدكتاتور حبري.

وفي العام التالي يزور قاض بلجيكي وفريقه تشاد للتحقيق في القضية، يستمر التحقيق لمدة 4 سنوات تنتهي بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق حبري بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب وانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، وتقدم بلجيكا طلبا إلى السنغال بتسليم حبري.

لكن السنغال تصر على رفض الطلب الدولي لترحيله أو حتى لمحاكمته في السنغال نفسها، تمر 7 سنوات لتطالب بلجيكا محكمة العدل الدولية بإجبار السنغال على محاكمة حبري أو تسليمه، تمضي 3 سنوات أخرى وتحكم المحكمة لصالح بلجيكا.

لكن هذه ليست نهاية القصة، حيث اتضح أن العثور على محكمة لمحاكمة رئيس دولة أمر صعب.

في إصرار عجيب وعزيمة مذهلة يذهب الضحايا وذووهم إلى السنغال مرارا وتكرارا لعرض قضيتهم على الجمهور والصحافة والسياسيين، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة حين أصبح زعيم المعارضة ماكي سال رئيسا للسنغال في عام 2012.

وبالفعل، يتم تمرير قانون جديد في ديسمبر/كانون الأول 2012 يسمح بإنشاء محكمة "الغرف الأفريقية الاستثنائية" في دكار خصيصا من أجل هذه القضية.

يُعتقل حبري الذي كان في السبعينيات من عمره آنذاك، وفي 20 يوليو/تموز 2015 يمثل أخيرا أمام المحكمة، وهي المرة الأولى التي يحاسب فيها رئيس أفريقي سابق على جرائم مماثلة أمام محكمة في بلد أفريقي آخر.

(6)

اللافت ما ذكره ريد برودي محامي هيومن رايتس ووتش وأحد المكلفين بالقضية "أعتقد أن أول أمر يجب ملاحظته هو أن مهندسي جهود العدالة لم يكونوا الاتحاد الأفريقي، لم يكونوا مجلس الأمن، لم يكونوا المدعي العام في لاهاي، لقد كانوا الضحايا، وتظهر هذه القضية أكثر من أي شيء آخر أنه بالإصرار والمثابرة يمكن لمجموعة من الناجين والمنظمات غير الحكومية الدولية أن تخلق بالفعل الظروف السياسية لتقديم دكتاتور إلى العدالة، سواء في أفريقيا أو في أي مكان آخر".

(7)

وأخيرا، يأتي اليوم الذي انتظره سليمان غونغونغ، إنه الآن في الستينيات من عمره، وها هو يرتقي منصة الشهود في قاعة المحكمة في السنغال ليتحدث بهدوء وثبات عن معاناته قبل 25 عاما على يد نظام حسين حبري.

يصف أولئك الذين تعرضوا للتعذيب، والذين اقتيدوا ليلا، والذين ماتوا من المرض وسوء المعاملة في السجون المروعة التي كانت تديرها شرطة حبري، كان سعيدا أنه أبر بقسمه الذي تعهد به قبل ربع قرن، ويقول للحضور "من أعماق زنزانتي، من أعماق ذلك الجنون أقسمت أمام الله أنني إذا خرجت على قيد الحياة فسأقاتل من أجل العدالة".

تستمر محاكمة حبري 53 يوما، وتضم حوالي 96 شاهدا في القضية، وفي 30 مايو/أيار 2016 يدان الدكتاتور التشادي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي والاغتصاب، ويحكم عليه بالسجن المؤبد وبغرامة تقدر بحوالي 123 مليون يورو تدفع كتعويض للضحايا.

المستبدون دائما في غرور، يعتقدون أنهم أذكى ممن سبقهم، وأنهم سيفلتون من العدالة، وأن أحدا لن ينال منهم، ينسون أن عزيمة الضحايا وإصرارهم على القصاص قادران على أن يوقعا بهم العقوبة التي يستحقونها.

أيها السادة الضحايا، مهما كان دكتاتوركم -صغيرا كان أو كبيرا- ناضلوا لتقديمه إلى العدالة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق