الجمعة، 25 يونيو 2021

علامة استفهام (30) لماذا علينا أن ننصحكم؟ ولماذا عليكم أن تتمرَّدوا؟

 علامة استفهام (30) لماذا علينا أن ننصحكم؟ ولماذا عليكم أن تتمرَّدوا؟

أسعد طه

(1)

إليكم بداية هذه العملية الحسابية:

كم مرة استمعتم فيها لنصيحة؟

كم مرة عملتم بها؟

كم مرة خالفتموها ثم ندمتم؟

كم مرة حمدتم ربَّكم على أنكم لم تعملوا بها؟

(2)

يحار المرء في وصف حياته.

أكانت طويلة وهي الحافلة بالأحداث؟

أم أنها مرت هكذا في غمضة عين؟

قبل كل رحلة يُرتّب الراحل حقيبته، يجمع فيها ما يحتاجه، إلا هذه الرحلة بالذات، إنها الأخيرة، لا حاجة فيها لحقيبة.

على العكس، يودُّ ذاك الذي يستعد للرحيل أن يَهب كلّ ما في حقائبه من ثروة إلى الناس، أولئك الذين لا يزالون في بداية الطريق، وفي حاجة لها.

إنه نوع من الحب وليس الوصاية.

إنها النصيحة.

(3)

عندما يعود المسافر في الجغرافيا إلى داره يتوجَّه بنصائحه إلى الذين يُزمعون السفر إلى نفس الوجهة، يتمنَّى أن ينتبهوا فلا يقعوا فيما وقع فيه، وأن ينتبهوا فيفوزوا بما فاز به.

كذلك المسافر في الزمن.

إنه ذهب بعيدا، أبعد منك كثيرا، ويريد أن يُخبرك بما خبره.

بما شاهده وعاينه ومرَّ به واختبره.

النصيحة لا عُمرَ مُحدّدا لصاحبها، لكنَّها واجبة على من بلغ الـ50 وزاد، لقد عاش على الأقل نصف قرن من الزمان، إنها مدة طويلة جدًّا، سفر بعيد، ولا بد أنه جمع ثروة هائلة من التجارب والخبرات.

في المدرسة ثُم في الجامعة تتعلم أمورا كثيرة، وعندما تخرج إلى الحياة، وتقطع فيها شوطا؛ يتملَّكك شعور بأنك لم تتعلم شيئا ذا قيمة، وأن النفع كله إنما فيما تتحصل عليه في حياتك العملية.

الدروس الحقيقية تتحصل عليها في الشارع، في الزقاق، في العمل، عند وقوع المصيبة، في التجربة، في المغامرة، في المرض، في السفر، عندما تُفْلس، عندما تنهض من جديد، عندما يحاربك زملاؤك، عندما تكشف لك المحنة معادن أصدقائك، عندما تحارب، عندما تهاجر، عندما تنجح، عندما تفشل.

وفي النهاية تكتشف أنك مررت بدورة تدريبية مثيرة ومكثفة، خرجت منها بدروس قيّمة، ومعلومات عظيمة.

لكنْ عندي لك خبر سيئ.

مع الأسف لن تستفيد منها بشيء، فقد بتَّ كهلًا.

تحتاج إلى حياة أخرى لتُطبِّق فيها ما تعلمته من دروس، وفيها لن تُفوّت تلك الفرص التي تجاهلتَها، ولن تُضيع وقتا في التردّد بأن تسلك الطريق الذي اخترته أو ربما تختار غيره، وستعرف كيف تتجنب الانخراط في معارك جانبية تستنزفك ولا طائل من ورائها.

ولأنْ لا حياةَ أخرى في هذه الدنيا؛ فإنَّ المأزق الآن هو:

ماذا تفعل بهذه الدروس؟

كيف تتصرف في هذا الكنز من الخبرات المتراكمة؟

أتدسُّه في التراب؟

إن كان قلبك من ذهب ستوزع ثروتك على الآخرين.

على هؤلاء المبتدئين.

إنها الزكاة الواجبة عند الحصاد.

 يدركون أنَّهم سيتعثرون، لكنَّهم سينهضون أكثر قوَّة ممَّا لو استمرُّوا في السير معتمدين على سواعد الكبار وعقولهم وطرائق حياتهم.

(4)

أما أنت أيها المتلقِّي فعليك واجب غريب!

أنصت إلى النصيحة، فكّر بها جيدا، لكنك لست ملزما بالعمل بها.

هل في الأمر من تناقض؟

بالطبع لا، وسأشرح لك:

واجبنا نحن الذين بلغنا من العمر عتيًّا أن ننقل إليك خلاصة تجاربنا.

وواجبكم أنتم الشباب أن تُنصتوا لنا باهتمام، وتتفكروا فيما نقوله جيدا، ثم تتمردوا ما استطعتم.

الإنصات غير الطاعة، الإنصات يستلزم التَّفكّر ليختار المتلقي ما يناسبه من خبرات من سبقه، وليصنع هو تجربته الخاصة به.

لا يجب أن نخلق من أبنائنا نسخا مطوَّرة منَّا، هذه أنانيّة بالغة.

لماذا نحب أنفسنا حتى إننا نسعى لاستنساخها صورا مشوَّهة في أولادنا؟!

الفيصل في الأمر هو الحلال والحرام، لا العادات والتقاليد، ولا المفاهيم السائدة، والقيم المُتحكمة في المجتمع.

فلْيتمرَّد الشباب، ولْيثوروا، ولْيَخلقوا عالمهم الخاص بهم، بأذواقهم، بأساليبهم، بطرائق حياتهم، بمذاقهم الخاص.

فليغامروا، وليكتشفوا، وليستكشفوا.

وليخطئوا كثيرا، وليتعثروا، وليُصحّحوا مسارهم.

(5)

قد يبدو في النصيحة استعلاء وأستاذية، نعم قد يقع في ذلك بعضنا، لكن معظمنا لا يفعل.

نحب لكم الخير ولا نستطيع أن نُخفيه عنكم.

ثم نحترم خياراتكم وقرارتكم.

أنصتوا إلى كل كبير.

أنصتوا باهتمام إلى كل نصيحة.

الدقائق التي تمضي في استماعك لها قضى صاحبها سنوات ليخلص إليها.

لا تخبرونا أننا "دقّة قديمة"، و"أولد فاشين".
نحن نعترف بذلك ونُقرّ به.
فهل تُقرون أنتم أيضًا أن ليس كلّ جديد بصحيح؟

البشرية لم تتطوَّر إلا باعتماد الجديد على القديم ثم تطويره.

آلاف وملايين الكتب، معارف فلسفية وعلمية وأدبية على مدار قرون طويلة من عمر البشر.

كل واحد يكتب ويُسجل خبرته، يُنصت إليها من يليه، يَقبل ما يقبل، ويرفض ما يرفض.

الصورة المثالية هي ألا يقطع الشباب الخيط الواصل بينهم وبين الكبار أبدا.

وأن يُقرّ الكبار بحقّ الشباب في أن يكونوا كما يريدون.

أن يَدعوهم يكبرون ويتمرَّدون، ينمون في الهواء، وتحت الشمس، وليس في أنابيب اختبار بمعاملهم.

أن يدركوا أنَّهم سيتعثرون، لكنَّهم سينهضون أكثر قوّة ممَّا لو استمرّوا في السير معتمدين على سواعد الكبار وعقولهم وطرائق حياتهم.

الكبار يقومون بدور المستشار الذي يُقَدِّم استشارته وخبرته.

ولا يفرض رأيه وخبرته على أتباعه.

الشباب يرفضون المستبد، حتى لو كان هو من أنجبهم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق