مصر: فستان البنت وبستان الدم
وائل قنديل
من المفترض، حسابيًا، أن يكون اليوم 28 يونيو/ حزيران 2021 هو آخر الأيام الـ 14 للتصديق على قرار محكمة النقض المصرية بإعدام 12 معارضًا مصريًا، أو تخفيف الحكم أو إلغائه، ذلك كله بيد شخص واحد منحه القانون المصري سلطة التصرّف، هو عبد الفتاح السيسي.
الأحكام النهائية الصادرة في قضية فض اعتصام ميدان رابعة العدوية شملت سياسيين ووزراء ودعاة وشبابا، يشتركون في أنهم كانوا ضد الانقلاب العسكري الذي وقع بمصر، في مثل هذه الأيام قبل ثماني سنوات، مدشنًا عشرية قضائية سوداء، وضعت مصر في ذيل الترتيب على مؤشر العدالة والنزاهة العالمي، الأمر الذي جعل إراقة الدماء وهدر القانون عملًا وطنيًا عظيمًا، في عرف الممسكين بالسلطة.
بحسب القانون، فإن مرور 14 يومًا على إعلام الأحكام النهائية الباتّة بالإعدام، من دون تدخل من رأس السلطة التنفيذية، بإبدال العقوبة أو العفو، يعني أنه لم يبق إلا تنفيذها، مع الوضع في الاعتبار أنه في حالات مشابهة سابقة، لم يتم التنفيذ بعد، فيما تم التعجيل بالتنفيذ في حالات أخرى نادرة.
كان من المتصوّر أن تكون الأيام الفائتة نضالًا حقوقيًا وإنسانيًا لا يتوقف في الداخل والخارج من أجل كبح هذه الروح الانتقامية التي تريق دماءً بريئة، كما تذبح سمعة القضاء والعدالة في مصر، غير أن شيئًا كبيرًا لم يحدُث لمنع هذا الجنون في تصفية الخصوم السياسيين.
الأطراف الدولية التي بنت صورتها الذهنية لدى الجماهير المتطلعة إلى العدل والحريات، على إعلان مواقف واضحة ومبدئية ضد عمليات القتل السياسي التي تدور في ساحات القضاء، بدت صامتة، أو بالحد الأدنى مستسلمةً أمام هذا التوحش، بل بدا بعضها وكأنه يكافئ السلطات المصرية بإسكات الأصوات والمنابر التي كانت تنقل مأساة إعدام الأبرياء للرأي العام، كما جرى في حملة إغلاق المنابر الإعلامية في تركيا، ومطاردة المشتغلين فيها في أدغال "السوشيال ميديا".
في هذه الظروف، يبدو المناخ الإقليمي والدولي متكيفًا مع الاستبداد، متصالحًا مع الطغيان، في لحظةٍ تتقدّم فيها المصلحة المادية المباشرة على المبادئ والشعارات والقيم، إذ يصير المكسب الاقتصادي، والربح السياسي، أسبق وأعلى من المعيار الأخلاقي، بل قد يتحوّل الأخير في لحظةٍ إلى اتهام بالجمود والجهل بلغة العصر والانفصال عن الواقع، كما هو حاصلٌ في حالة الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، الذي تحدّث إلى العالم من فوق صهوة جواد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم سرعان ما رأيناه يتريّض مع الطغاة في حدائق الفاشية.
بموازاة ذلك، وجدت المنظمات الحقوقية نفسها متهمةً بخيانة الأوطان والعبث بالأمن القومي للبلاد، ليس فقط عن طريق أحكام القضاء ذاته الذي يصدر قرارات الإعدام السياسي بالجملة، وإنما كذلك بواسطة آلة إعلاميةٍ جبارةٍ تطلق النار على كل من يقول لا لهذه البيئة السياسية والقضائية الكارثية التي تغرق فيها مصر.
في الأثناء، يغوص الداخل حتى رأسه في مواضيع وملفات أخرى، يتم إشعالها وتغذيتها بالوقود على نحو منتظم، حتى تصبح، مع الوقت، هي القضايا الوطنية والاجتماعية الكبرى، التي تحدّد مصير الوطن والشعب، فتجد المجتمع كله مستسلمًا للسباحة في بحيرات الكلام والثرثرة عن فتيات "السوشيال ميديا"، أو تجده مستنزفًا، بنخبه وجماهيره، في مسألة فستان الطالبة التي لاقت تنمّرًا من موظفي لجنة المراقبة على الامتحانات، وكذا معركة المايوه البيكيني ضد المايوه البوركيني، ومنع سيدةٍ ترتدي الأخير من ارتياد الشاطئ.
المشكل في هذه المسائل أن هناك من يناضل لفرضها بوصفها القضايا الرئيسة في جدول أعمال الأمة، لتكتشف أنها تستحوذ على مساحاتٍ من الضوء والاهتمام الإعلامي أكبر من مساحات الكلام في موضوع سد النهضة، مثلًا..
والأخطر هو الاستسلام لاعتمادها المدخل الأساس والعنوان الأكبر لقضية الحريات والعدل وحقوق الإنسان، في مجتمعٍ مخنوقٍ بحالة طوارئ تتجدّد منذ سنوات، من دون أن يحاول استرداد حقه في حياة عادية، يحكمها القانون العادي.
هذا الطقس يوفر ملاذًا سهلًا وغير مكلف للمتواطئين بالصمت على فجيعة أحكام الإعدام بحق السياسيين المعارضين، فيحتشدون، بكل طاقاتهم، لخوض معركة الفستان، باعتبارها معركة تحديد مصير شخصية مصر، والدفاع عن حريتها وحقوق إنسانها، فيما يتم استبعاد، أو إسقاط قضية بستان الدماء المهدرة بأحكام القضاء المسيس من جدول أعمال الثرثرة والجدل، فتنقضي الأيام والساعات، بينما عشرات الأسر تحت مقصلة الانتظار والترقب، وحدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق