يؤكد الباحث الأمريكي من أصل تركي سونر چاغاپتاي، على أن برنامج أردوغان يطمح ليس إلى خلاص تركيا من إرث أتاتورك فحسب، بل التخلص أيضًا من ممارسات السلطنة العثمانية في طورها الأخير وقبل سقوطها حيث كانت متأثرة بالثقافة الغربية
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تركية تبرز ثلاث قضايا يتمحور حولها الشد والجذب بين تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم ومرشحه رجب طيب أردوغان، وبين تحالف المعارضة ومرشحها كمال كلجدار أوغلو.
هذه القضايا الثلاث هي الدين والاقتصاد واللاجئون.
ولكن كيف يعد الدين من أبرز عناوين السجال بين الحكومة والمعارضة؟
في غياب الإحصائيات الرسمية والتي تتعلق بالديانة، يرى كثير من الباحثين والمطلعين على الشأن التركي أن نسبة تعداد أهل السنة في تركيا تبلغ ما يقرب من 88% من السكان، بينما تبلغ تلك النسبة للطائفة العلوية في حدود 10%0
تجذر الإسلام في تركيا لقرون عديدة، حتى أن الخلافة الإسلامية انتقلت إليها مع تمدد سلطنة آل عثمان ووصولها إلى الشام ومصر، وما لبثت الدولة العثمانية أن أصابها الضعف والهوان، فسقطت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتم تنصيب مصطفى كمال أتاتورك على رأس الأتراك الذي حاول إبعاد الدين عن حياة الأتراك.
على مدى 80 عاماً، أصبحت تركيا إحدى الدول ذات الأغلبية المسلمة الأكثر علمانية، والتي وصفت بالعلمانية المتوحشة، والتي ترفض بعنف أي ممارسات دينية سواء على المستوى المجتمعي أو الشخصي. |
بدأ أتاتورك أولا بفرض العلمانية في الدستور التركي وشدد بقوة على انتماء تركيا لأوروبا وليس لمحيطها الإسلامي، وفي نفس الوقت وكمبرر لإسقاط الخلافة رسم أتاتورك والنخبة من الكماليين صورة للعثمانيين كمتعصبين دينياً ومهووسين بالإسلام.
وفي عام 1928 تمت إزالة عبارة دين الدولة في تركيا هو الإسلام من الدستور، ومنذ عام 1937 تتحدث المادة الثانية من الدستور التركي عن خصائص الجمهورية، بأن تركيا دولة ديمقراطية وعلمانية واجتماعية تحكمها سيادة القانون.
ثم شرع الرجل بخطوات عملية في إبعاد الإسلام، فألغى الأوقاف الإسلامية والمدارس الدينية، وحول الجوامع إلى متاحف ومنع رحلات الحج والعمرة وألغى الحجاب، ونقل الإجازة الأسبوعية ليوم الأحد مثل النصارى، وألزم الناس لبس القبعة الفرنجية، وألغى الأعياد والمناسبات الدينية، ولم يكتفِ أتاتورك بذلك بل ألغى الحروف العربية واستعمل الأحرف اللاتينية وألزم الأتراك بالتعبد باللغة التركية، وشهدت تركيا أكثر من 20 انتفاضة دينية حتى وفاة أتاتورك نهاية العام 1938، انتهت كلها بالفشل.
وعلى مدى 80 عاماً، أصبحت تركيا إحدى الدول ذات الأغلبية المسلمة الأكثر علمانية، والتي وصفت بالعلمانية المتوحشة، والتي ترفض بعنف أي ممارسات دينية سواء على المستوى المجتمعي أو الشخصي.
ظل الصراع بين العلمانية المتوحشة الحاكمة وبعض النخب التركية والتي كانت ترفضها متأججا، حتى دخلت البلاد تحت حكم حزب العدالة والتنمية في نهاية العام 2002، والذي استطاع أن يحوز على غالبية أصوات الشعب التركي في انتخابات حرة، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الأتراك.
وهنا يبرز السؤال كيف تحول الدين في تركيا من محاولة استبعاده من الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية طيلة عقود طويلة، إلى الحرص والتنافس على عودته مرة أخرى.
حاول أردوغان وحزبه، إعادة الإسلام إلى الحياة الاجتماعية التركية ولكن بأسلوب متدرج بطيء. وأطلق على تلك الاستراتيجية منظر حزب العدالة ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في كتابه الشهير العمق الاستراتيجي (إعادة إنشاء سيكولوجية اجتماعية مفعمة بالثقة بالذات) واسترسل في شرح تلك الاستراتيجية فكتب عنها "هي تعني مراعاة التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كافٍ، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، وأنّه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين قوة الأمر الواقع وقوة الحق الأصيل في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود".
ولكن الثقة بالذات التي يقصدها أوغلو ليست هي الثقة المستكينة للواقع، ولكنها كما كتب هي التي تعيد بناء تصورها الاستراتيجي على نحو يتوافق مع الظروف التي تمر بها.
ولكن في السنوات الأخيرة ومع اشتداد الحملة الغربية على أردوغان، أخذت وتيرة إعادة الإسلام تأخذ منحى أسرع.
لعل أبرز التحولات التي قام بها أردوغان في المجال الديني، هي رفع الدرجة الحكومية لرئيس ما يعرف بمديرية الشؤون الدينية، وهي أعلى مؤسسة منوط بها الإشراف على النشاط الديني في تركيا والتي أنشأها أتاتورك وجعل رئيسها برتبة وزير |
ففي أبريل 2016، أعلن رئيس البرلمان التركي التابع لحزب العدالة والتنمية أن الدستور الجديد يجب أن يكون دستورًا اسلاميًا. وشجع على حذف كلمة العلمانية من الدستور، وطالب بإدراج كلمة الله في بنود الدستور، وبالرغم من أن أردوغان وقيادات حزبه لم يؤيدوا هذه المقترحات، وسارعوا الى رفضها، إلا أن مثل هذا التصريح من سياسي بارز هو بلا شك دلالة على ما سيحصل في السنوات التي تليها.
فمنذ نوفمبر 2017، تقوم الشرطة التركية بتعليمات حكومية برصد التعليقات المسيئة للإسلام على الإنترنت، حيث تعاقب بالحبس أو الغرامة من يثبت عليه تلك التهمة، وكمثال على ذلك، خضع عازف البيانو التركي فاضل ساي المشهور عالمياً للمحاكمة مرتين على خلفية ما أطلق عليه قانونًا تعليقات مستفزة بحق الإسلام، وذلك عندما استهزأ بشعيرة الآذان في صفحته على موقع تويتر.
وفي عام 2018، بدأ رسميًا وصف الانتشار العسكري التركي في سوريا بالجهاد، وخلال اليومين الأولين من العملية التي بدأها الجيش التركي في شمال سوريا، أصدرت مديرية الشؤون الدينية التابعة للحكومة توجيها لكافة مساجد تركيا التي يقارب عددها 90,000 بأن تبث سورة الفتح من القرآن عبر مكبرات الصوت من مآذنها.
كما قامت الحكومة رسمياً بإدراج الممارسات الدينية في النظام التعليمي الحكومي، من خلال إلزام كافة المدارس المنشأة حديثاً في تركيا بتخصيص غرف صلاة في حرمها. ونصح مسؤول تعليم محلي في إسطنبول المعلمين اصطحاب التلاميذ إلى المساجد القريبة لتأدية صلاة الصبح.
ولعل أبرز التحولات التي قام بها أردوغان في المجال الديني، هي رفع الدرجة الحكومية لرئيس ما يعرف بمديرية الشؤون الدينية، وهي أعلى مؤسسة منوط بها الإشراف على النشاط الديني في تركيا والتي أنشأها أتاتورك وجعل رئيسها برتبة وزير، ولكن بمجيء أردوغان رفع درجته الى نائب رئيس، وجعله يشارك بانتظام في مناسبات عامة بارزة إلى جانب أردوغان.
وفي يناير عام 2021، أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا غير مسبوق، وصف به الإسلام بأنه ديننا.
ويؤكد الباحث الأمريكي من أصل تركي سونر چاغاپتاي، على أن برنامج أردوغان يطمح ليس إلى خلاص تركيا من إرث أتاتورك فحسب، بل التخلص أيضًا من ممارسات السلطنة العثمانية في طورها الأخير وقبل سقوطها حيث كانت متأثرة بالثقافة الغربية.
لم يكن تأثير الإسلام في سياسة أردوغان الداخلية فقط، بل امتد تأثيره في سياسته الخارجية، فقد اهتم بإعادة الدور التركي وإظهاره كقوة سنية إقليمية.
وعند افتتاح مسجد آيا صوفيا في إستانبول بعد عقود من تحويله لمتحف، كتب أردوغان في حسابه على تويتر يقول: تحويل آيا صوفيا إحياء من جديد يبشر بعودة الحرية إلى المسجد الأقصى، وإحياء يمثل عودة جديدة للمسلمين في أنحاء العالم كافة من أجل الخروج من العصور المظلمة.
ووصف أردوغان هذه الخطوة بأنها سلام مُرسَل من قلوبنا إلى أنحاء المدن كافة التي ترمز إلى حضارتنا بدء من بخارى وصولاً إلى الأندلس.
لقد عاد الإسلام متسللاً إلى قلوب الشعب التركي مرة أخرى، لدرجة أن المعارضة العلمانية باتت تتحدث بنفس اللغة لتصل إلى نفوس الجماهير وتدغدغ عواطفهم بالدين.
ويصل الحال بمرشح المعارضة للرئاسة في تركيا أو ما يعرف بمرشح الطاولة السداسية كمال كلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، والذي تمحور فكره على إرث كمال أتاتورك في علمانيته المتوحشة ينشر في صفحته على تويتر: أنا علوي، أنا مسلم صادق يسير في سبيل الله والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلي بن أبي طالب، هويتنا هي ما تكون شخصيتنا وما نحن عليه الآن، وبالتأكيد يجب أن ندافع عنها ونفتخر بها.
وبصرف النظر عن نتيجة الانتخابات والتي تتحكم فيها عوامل أخرى كالاقتصاد وآثار الزلزال، فإن التغيير الذي حدث في تركيا طيلة العشرين عامًا الماضية، سوف يبقى حاضرا وسيؤثر على مستقبل تركيا ودورها إقليميًا بل عالميًا أيضًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق