تهمة "الأسلمة"!
حلمي الأسمر
لفت نظري في تصريح لمكتب الناطق الإعلامي لقوات الدعم السريع في السودان، في معرض تبريره للحرب الدائرة بين قواته والجيش السوداني، أن هناك تنظيما "إسلاميا" داخل الجيش السوداني، وهو بهذا المعنى يسعى لـ"أسلمة" الدولة، وحسب التصريح هو تنظيم تابع لما سماه "فلول" النظام السابق!
من الواضح هنا أن تعبير "الأسلمة" ورد هنا باعتباره "تهمة" تستدعي رفع السلاح على من "يرتكبها"، وبعيدا عن حيثيات "النزاع" السوداني المسلح، وتضارب الروايات و"التدخلات!" حوله، فما يهمنا هنا التوقف مليا أمام هذا المصطلح الهجين، الذي يكاد لا يستعمل إلا في سياق التحريض على الحركات السياسية التي تتخذ من الإسلام ومبادئه أيديولوجيا تتحرك في فضائها.
والحقيقة أنه حتى في عهد المسلمين الأوائل، لم يكن ثمة ما يسمى "أسلمة" للمجتمع، وحتى كلمة إسلامي لم يكن لها محل في القاموس السياسي القديم، فهناك دار حرب ودار سلام ودار عهد، وفق تعبيرات فقهاء الإسلام، ودار العهد هي الدار التي تدخل في عهد مع المسلمين، ولا تمنع انتشار الإسلام، بمعنى أنه لا يجوز مقاتلة هذه الدول إلا إذا اعتدت.
إن اصطلاح الأسلمة في حقيقته "همبكة" إعلامية، مصنوعة في مختبرات من يحاولون شيطنة كل حركة تغييرية ثورية تستهدف استقلال العرب والمسلمين وتحررهم من الهيمنة والاستعباد، ولا أدل على ذلك مثلا من طريقة تعامل الدول في مسألة بيع الخمور. في تركيا مثلا، أقر البرلمان التركي قانونا يحد من استهلاك المشروبات الكحولية والدعاية لها، كما يحد من الأماكن التي يمكن استهلاك مثل هذه المشروبات فيها، ويمنع بيع الكحول بين العاشرة مساء والسادسة صباحا. وبحسب القانون فهو محظور على شركات الكحول أن تروج لعلاماتها التجارية وشعاراتها، وهو يفرض وضع تحذيرات على زجاجات الكحول من مضارها.
وفي معرض التعليق على هذا القانون، قالت الحكومة في حينه، إنها لا تحاول تقييد حرية الناس، لكنها ترغب في الارتقاء بتركيا التي تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ إلى المعايير الأوروبية من خلال تشديد القيود على بيع الكحول وحماية الشبان، يعني لا "أسلمة" ولا غيره. ومع ذلك تم تصوير الأمر وكأنه محاولة لأسلمة تركيا، مع العلم أن هناك دولا أوروبية تطبق ما يشابه هذه القيود لتحقيق الهدف نفسه. وعلى سبيل المثال، تفرض شركة النقل الجماعي بمدينة كولونيا الألمانية حظر تناول للمشروبات الكحولية في محطات القطارات، وأما تناولها داخل القطارات فممنوع منذ سنوات طويلة، وفي ولاية بادن- فورتمبيرغ الألمانية يمنع بيع المشروبات الكحولية في المتاجر والمقاهي ومحطات البنزين من الساعة العاشرة مساء إلى الخامسة صباحا. وفي إسبانيا يحظر القانون تناول الكحول في الشارع، فهل نقول: إنَّ هؤلاء يسعون لـ"أسلمة" أوروبا؟
تاريخيا، يقال إن مصطلح "الأسلمة" ظهر بعد دخول مصر حقبة توارث أبناء محمد علي الحكم، كرد فعل لعمليات التغريب والعلمنة. أما في الإعلام العربي الحديث فقد استخدم مصطلح الأسلمة للتعبير عن محاولة فرض عادات أو أفكار أو أساليب معينة على المجتمع، علما بأن المصطلح لا يستوي لغة، فقد اعتُرِض على مصطلح الأسلمة لغويا لأنه مصطلح غير منضبط لغة، كما جاء في قواميس اللغة، لأن استخدامات "أسلم" في اللغة لا تساعد على ذلك، فهي تأتي لازمة بمعنى أسلم الرجل أي دخل في الإسلام وأسلم بمعنى أسلف، وتأتي متعدية بمعنى فوّض فتقول أسلم أمره لله، وبمعنى خذل كقولك: أسلم صديقه للعدو. واستخدامها هنا لايصح لغة؛ لأنه يستخدم الفعل المتعدي بمعنى الفعل اللازم. وسبب الخطأ أن "الأسلمة" ترجمة لكلمة الإنجليزية "Islamization"، (بمعنى: جعل الشيء مسلما!) وهي تركيب خاطئ في اللغة العربية.
ونتيجة لهذا الفهم تحوّل المعهد العالمي للفكر والمعرفة من هذا المصطلح بعد تبنيه من خلال تعبير "أسلمة المعرفة"؛ إلى مصطلح "إسلامية المعرفة".
ومن أسف، فإن بعض "الإسلاميين" استعملوه باعتباره شكلا من أشكال مقاومة فرض التغريب والعلمنة من قِبل الأنظمة الحاكمة على الشعوب المسلمة.. في حين يعتبره العلمانيون شكلا من أشكال فرض التفسيرات المتشددة للإسلام، وكلا الطرفين وقع في "فخ" المصطلح المضلل!
مصطلح "الأسلمة" واستعماله باعتباره "تهمة" جزء من حملات "شيطنة" الإسلام والمسلمين، وتصويرهم باعتبارهم "وباء" يتوجب التخلص منه ومقاومته، في حين لا يكاد يجرؤ أحد -خاصة في الغرب- على انتقاد حركات اليهودية الأصولية وتعبيراتها السياسية عبر أحزاب وجماعات تسعى اليوم لبناء "دولة الشريعة" في الكيان الصهيوني، وغدت جزءا رئيسا من الائتلاف الحاكم في الكيان، ولها كلمة حاسمة في سن قوانين "توراتية" لتنظيم حياة مستوطني الكيان وفق ما ورد في كتبهم الدينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق