السبت، 6 مايو 2023

السودان حيث خير التفاوض عاجِلُهُ

 السودان حيث خير التفاوض عاجِلُهُ

جعفر عباس

منذ الساعات الأولى للحرب الضروس التي تدور رحاها في السودان، والتي مركز ثقلها عاصمة البلاد، سجلت قوات الدعم السريع انتصارا معنويا على خصمها الجيش السوداني، بأن تمكنت من الاستيلاء على مقر القيادة العامة للجيش، ومطار الخرطوم، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، والقصر الرئاسي، ومقر وزارة الداخلية. ويتحمل عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة، وزر هذا الانتصار الذي كان سهل المنال للغاية، ولم ينتج عن دحر قوات الجيش النظامي في تلك المواقع، فقد كانت قوات الدعم السريع وبأمر البرهان تقوم بحراسة تلك المواقع، وبمجرد انطلاق الرصاصة الأولى في الحرب الحالية بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، أعلنت الأخيرة سيطرتها عليها.

خلال الأسبوعين ونيف من بدء القتال في الخرطوم قبِل الطرفان المتحاربان الدخول في هدن متفاوتة المدد الزمنية سبع مرات، لم يتوقف القتال خلالها كليا، ولكن خفّت حدته في العديد من المواقع. وقبول وقف القتال ولو جزئيا دليل حاسم على أنهما يتهافتان لاستمالة المواطنين المتضررين من الحرب، وكسب ود المجتمع الإقليمي والدولي، بالظهور بمظهر الراغب في السلام، ولكن الإسراع بقبول مقترحات كل هدنة تأتي من بعض الدول، دليل أيضا على أن الطرفين تعرضا للإنهاك منذ الأسبوع الأول للحرب، ويرغبان في التقاط الأنفاس، وحشد المزيد من القوات والعتاد لمراحل لاحقة للحرب.

يصعب تصديق ما يرد في بيانات الطرفين المتحاربين حول سير المعارك، ولكن كل القرائن المحسوسة والملموسة المتاحة، تشير إلى أن أيّا منهما لا يستطيع أن يحسم الحرب، ولو امتدت لعدة أشهر أو سنوات.


ولأن أول ضحايا الحروب هي الحقيقة، فإنه يصعب تصديق ما يرد في بيانات الطرفين المتحاربين حول سير المعارك، ولكن كل القرائن المحسوسة والملموسة المتاحة، تشير إلى أن أيّا منهما لا يستطيع أن يحسم الحرب، ولو امتدت لعدة أشهر أو سنوات. فقوات الدعم السريع منتشرة بكثافة في مدن العاصمة السودانية كافة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، أي إنها فعليا تتخذ المدنيين دروعا بشرية، وبالمقابل فإن الجيش الذي يخوض لأول مرة حربا "متحركة" داخل المدن، لم يجد وسيلة لسحق الدعم السريع، إلا باستخدام الطيران وسائر أنواع الأسلحة الثقيلة داخل تلك المدن، مما تسبب في دمار هائل وخسائر بشرية مروعة.

يدرك عبد الفتاح البرهان حجم الجرم الذي اقترفه بتمكين الدعم السريع من مفاصل العاصمة السودانية، وتسويقه لقائد تلك القوات على أنه بطل وطني صنديد، بل كان يعاير كل من ينتقد وجود قوات سيئة السمعة في الخرطوم وضواحيها وسلوكيات تلك القوات، بأن "الدعم السريع يحرس الحدود والثغور بينما أنتم نائمون". أما الفريق شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة الذي ظهر مؤخرا كالعدو الأول للدعم السريع، فقد قال في قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) على مدى السنوات الأربع الماضية، ما لم يقله قيس في ليلى أو روميو في جولييت.

سقط حتى الآن أكثر من 550 قتيلا ونحو 3000 جريح جراء هذه الحرب، وتعرضت مئات المتاجر للنهب والحرق، والمزيد منها مرشح للنهب والحرق. ففي سياق الحرب تم تسريح آلاف المجرمين من السجون، وفي غياب تام لقوات الشرطة صارت تلك الآلاف مطلقة السراح لتمارس فنون الجريمة كافة، دون خوف من الرصد والاعتقال، فبينما القذائف تدك المصانع والمتاجر والأسواق، تهيئ المناخ لتشكيل عصابات منظمة لممارسة السلب بغزو الأسواق ومستودعات السلع الكبيرة. ويقدر عبد الرحمن عباس، الأمين العام السابق لغرف الصناعة، خسائر قطاع الصناعة في الأسبوعين الأولين من الحرب بأربعة مليارات دولار، مع فقدان مائة ألف شخص لوظائفهم، وتخيل تأثير ذلك في بلد يعاني اقتصاده سلفا من مشكلات هيكلية مريعة.

رغم أن الجيش الوطني يملك القدرات والمهارات لتحقيق انتصارات جزئية على المدى الوسيط أو حتى القريب، إلا أن قياداته التي شاركت في الحروب الطويلة ضد حركات التمرد هنا وهناك، لا شك تدرك أن النصر الحاسم على الدعم السريع غير وارد. ولا شك أن حميدتي يدرك أنه قد ينجح في إنهاك واستنزاف الجيش، ولكنه لن ينجح في الانتصار عليه.


أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت حزب الجبهة الإسلامية القومية يقوم بانقلاب عسكري في عام 1989، كان أن الحكومة المنتخبة وقتها كانت على وشك التوقيع على اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، التي ظلت تقود تمردا على الحكومة المركزية، ورأوا في ذلك نسفا لما كانوا يسمونه بـ"المشروع الإسلامي". وهكذا جاء عمر البشير رئيسا واتسعت رقعة الحرب مع الحركة الشعبية، وسقط خلالها مئات الآلاف قتلى، ثم وجدت حكومة البشير نفسها مضطرة إلى التفاوض مع قرنق الذي كانت تصمه بالكفر والعمالة، وجعلته نائبا للبشير في رئاسة الجمهورية، ثم قبلت بقيام دولة مستقلة في جنوب البلاد.

ثم اندلع تمرد متعدد الأقطاب في إقليم دارفور في غرب السودان، وظلت حكومة عمر البشير تمطر الحمم على الإقليم، ثم استعانت بالعصابات المعروفة باسم الجنجويد (نواة الدعم السريع) لسحق التمرد، دون أن تنجح في استئصال شأفته، بل إن هناك مناطق شاسعة في غرب دارفور وجنوب إقليم كردفان، تدار منذ 15 سنة كـ"مناطق محررة" ولا سلطان لحكومات الخرطوم عليها. والشاهد هنا، هو أنه لم يسبق للجيش السوداني أن نجح في سحق أي حركة تمرد في البلاد، ولم يتوقف القتال في دارفور وغيرها إلا بالتفاوض.

النتيجة الفعلية للحرب الدائرة في السودان هي التعادل السلبي، ولكن قيادات الطرفين تكابر في أمر وقف القتال كليا. فحميدتي يقول باسم الدعم السريع؛ إن القتال لن ينتهي إلا باعتقال البرهان وتقديمه للمحاكمة، وقيام حكم مدني (برعايته؟). بينما البرهان ورهطه يقولون: "لا لأي نهاية للأزمة بالتفاوض".

ورغم أن الجيش الوطني يملك القدرات والمهارات لتحقيق انتصارات جزئية على المدى الوسيط أو حتى القريب، إلا أن قياداته التي شاركت في الحروب الطويلة ضد حركات التمرد هنا وهناك، لا شك تدرك أن النصر الحاسم على الدعم السريع غير وارد.

ما لا يدركه القائدان، هو أن استمرار المعارك يراكم اللعنات والغضب الشعبي والدولي عليهما، وأن خير التفاوض عاجله وليس آجِله؛ لأن التأجيل قد يودي بهما إلى الرحيل.


ولا شك أن حميدتي يدرك أنه قد ينجح في إنهاك واستنزاف الجيش، ولكنه لن ينجح في الانتصار عليه. والراجح هو أن البرهان يريد حفظ ما تبقى من ماء وجهه باسترداد المواقع السيادية والعسكرية الحساسة التي استولى عليها الدعم السريع بدون قتال، ثم يفاوض الخصم بعدها، بينما حميدتي ليس بالسذاجة التي يصوره بها البعض، ويدرك أن قواته ليست مقبولة شعبيا، وأنه مهما حققت من انتصارات هنا أو هناك فلا أحد يصدق أنها نصيرة الحكم المدني، ومن ثم سيقبل بالتفاوض متى ما قدموا إليه جزرة.

ولكن، ما لا يدركه القائدان هو أن استمرار المعارك يراكم اللعنات والغضب الشعبي  والدولي عليهما، وأن خير التفاوض عاجله وليس آجِله؛ لأن التأجيل قد يودي بهما إلى الرحيل؛ أي إن خروج البرهان وحميدتي من المشهدين العسكري والسياسي قد يكون الحل الناجع للأزمة السودانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق