في ذكرى عادل حسين
(1932-2001)
بقلم: دكتور محمد عباس
أضنيتنى يا عادل حسين..
أضنانى فقدك..
فمنذ تلك اللحظة المروعة التى جاءنى فيها صوت عامر عبد المنعم ينقل إلىّ عبر الهاتف بحزن لا يوصف انفجار النزيف فى رأسك الحبيب، انفجرت فى رأسى مشاهد دنا لا كبقية الدنا، ورؤى لا كبقية الرؤى، هرعت إليك، وأنبأنى قلبى رغم طمأنة الأطباء أنه الوداع الأخير ، فرحت أستعيد أيها المجاهد الشهيد ملامح من حياتك..
هل قلت : أستعيد؟!..
لا.. بل راحت تلك الملامح تفيض كطوفان تلطمنى أمواجه فكلما لطمتنى موجة بكيت..
والدموع العصية راحت تتهاطل فلا أعرف كيف أوقف طوفانها..
عندما ذهبت لزيارتك فى المستشفى، كنت قد أجريت اتصالات كى يستثنونى من منع الدخول إليك فى غرفة العناية المركزة..
وكنت أريد أن ألثم وجهك و أودعك الوداع الأخير..
فى اللحظة الأخيرة لم يسمحوا لى..
وجلست مع أحبائك و أصحابك وتلاميذك..
وامتلأت بالفخر والعزة..
كانت القلوب تنزف لكن الجباه كانت عالية وشامخة..
كانت الجوارح ترسف فى أغلال صاغها الطواغيت وغلمانهم لكن الأرواح كانت محلقة فى السماء تيها وفخارا وكل واحد منهم كان يستعيد بكل العزة معاركهم بك ومعك..
كان كل واحد منهم عادل حسين.. وكل واحد كان فخورا بكل معركة وكأنما هو بطلها الوحيد..
نعم.. كان كل واحد منهم ، لا يفخر برصيده فى البنك، ولا بنصيبه من السلطة، ولا بقدر ما أخذ واستولى، بل كانوا يفخرون بقدر ما أعطوا، بقدر ما سجنوا ظلما وعدوانا، فكلما كانت مدة السجن والاعتقال أطول كان الفخار أكثر، بقدر التنكيل الذى تعرضوا له من الطواغيت وغلمانهم كانوا يتفاخرون..
كانوا مدرسة عادل حسين.. مدرسة البنيان المرصوص الذى يشد بعضه بعضا..
لا مدرسة الطاغوت.. مدرسة : " تمام يا فندم" ومدرسة : "بناء على توجيهات سيادته" ..
كان إدراكهم لطبيعة التناقض شاملا وواضحا.. لم أر واحدا منهم نادما على خوض أى معركة، ولا حتى على أى جزئية فى أى معركة مما خضناها خلفك ومعك، وما من أحد منهم كان نادما على تداعيات الأحداث، ولا حتى على تجميد الحزب و إيقاف الشعب، كان ثمة إدراك شامل لجوهر التناقض ولطبيعة القضايا، ففى قضية الوليمة لم يكن الأمر خلافا على كتاب ولا حتى على توجه خاطئ لجزء رسمى من الدولة، بل كانت قضية مفاصلة نكون فيها أو لا نكون، وعندما أقول نكون فلست أقصد الحزب ولا الصحيفة بل أقصد الإيمان.. كان عادل حسين وكل تلاميذه و أصحابه يشعرون أنها معركة كمعركة سيدنا ومولانا أبو بكر رضى الله عنه مع الردة .. لم تكن من أجل الزكاة بل من أجل لاإله إلا الله كانت .. وكان كل واحد منا يردد بين ذاته قسم الخليفة العظيم بالقتال ولو بقى يقاتلهم على حجر بالبيداء وحده.
نعم.. كان هناك اقتناع كامل بضرورة خوض معركة الوليمة.. وكان هناك فى نفس الوقت اقتناع آخر بأن قرار تجميد الحزب و إغلاق الصحيفة لم يكن متعلقا بأزمة الوليمة، كان القرار سابق التجهيز، وكان معدا من قبل، وكانوا ينتظرون أى ذريعة، ولو لم تكن الوليمة لاخترعوا أى ذريعة غيرها، كان التناقض قد بلغ منتهاه بين خيانات لا ترتدع ومعارضة حقيقية لا ترتعد.. بين فساد مدعوم من الخارج وصحيفة ترفض الاستسلام.. وكان الطواغيت عاجزون عن الاستمرار مع كل ما كانت الشعب تكشفه من خياناتهم.. وكان لا بد من إغلاقها.. ولكن الله جلت حكمته أن تكون الذريعة التى استندوا إليها لإغلاق الصحيفة وتجميد الحزب هى بالذات ذريعة الدفاع عن لا إله إلا الله كى تكون فضيحة الطواغيت شاملة وكاملة..
كانوا مدركين لذلك.. وكانوا مدركين أيضا أنه مع تكرار أحكام الإدانة القضائية للطواغيت.. تلك الأحكام النهائية بعودة الشعب وبعدم شرعية تجميد الحزب.. تلك الأحكام التى صدرت بقوة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ القضاء.. كان ثمة إدراك.. بأن شخصا ما.. فوق القانون .. يستطيع.. لا بما يخوله القانون له من سلطات بل بقدرته على أن يدوس القانون بحذائه هو الذى يصدر الأوامر بعدم تنفيذ أحكام القضاء.. و بأن هذا الشخص(..)..!!
كان كل من حولك يا عادل حسين يدرك ذلك.. ولشدما كان فخارهم بالمعركة.. وكانو جميعا يضرعون إلى الله أن يعيدك إلينا نخوض بك ومعك المعارك.. كنت كبيرا وعلمتنا كيف نكون كبارا..
كان كل من حولك رجالا.. حتى الأطفال قد أنضجهم النضال..
أما الطواغيت وغلمانهم فقد كانوا أطفالا حتى ولو بلغوا أرذل العمر..
***
عندما حم قضاء الله بدأت الذاكرة تحت وطأة الألم تخوننى كما تخون الإنسان ساقاه فيهوى..
وفصلت تماما ما بين خبر الموت وكونك أنت يا عادل موضوعه..
ضبطت نفسى متلبسا بخاطر ملح أخذ يجلدنى بسياط من ألم ، خاطر يقول : " هذا حدث جلل.. أمر خطير جدا.. نكبة للأمة.. علىّ إذن أن أهاتف عادل حسين على الفور كى أخبره وأستمد منه العون والعزاء والنصح"..
لا..
لم يكن هذيانا ولا كان ذهول الصدمة التى كنت أتوقعها..
كانت آلية نفسية بالغة التعقيد، لم نكمل المعركة بعد، وكنت عاجزا عن تصور الساحة الفكرية والسياسية دون عادل حسين.. آلية نفسية تشبه تلك الظاهرة العضوية المعروفة فى الطب بظاهرة " الشبح" حين يعانى المريض آلاما مبرحة فى طرفه الذى تم للتو بتره!!.. فلأنه يرفض تصديق بتر ذراعه تعاونه كل تلافيف النفس البشرية التى لا يعلم خافيتها إلا الله، تعاونه تلك التلافيف بالألم العضوى المتوهم فى العضو المبتور، لأن هذا الألم العضوى المتوهم أخف وطأة من الألم المعنوى للفقد.
***
حول المسجد الذى أقاموا عليك الصلاة فيه كان هناك جيش كامل..!!
نعم.. هذه هى الكلمة التى يجب أن تطلق على الحشود الهائلة التى أحاطت بالمسجد ثم بالمقابر بعد ذلك وتلك السلسلة الهائلة من الجند ما بين المسجد والمقابر.. عشرة كيلومترات كاملة يصطف الجنود فيها وكأنهم قد اصطفوا لتشييع ملك..
هل قلت ملكا؟!..
لا والله.. فما من ملك ولا من رئيس ولا من أمير تطاول هامته أقل صفة من صفاتك..
***
فى المسجد، عندما أمّ مجدى حسين صلاة الجنازة راحت الذاكرة المراوغة تعذبنى مرة أخرى، إذ ضبطت نفسى متلبسا بالعتاب لعادل حسين، إذ دهمنى خاطر يقول: " مجدى حسين حبيب وكبير .. لكن هذا حادث جلل يجب أن يتصدى له عادل حسين بشخصه .. وكان ينبغى أن يؤم الصلاة عادل حسين نفسه" ..
***
كان ثمة أشخاص بعينهم بذلت الجهد كى أتحاشى رؤيتهم.. كنت أعلم أننى لو رأيتهم فسوف تشارك العين القلب فى نحيبه..
كان من هؤلاء سلمى عادل حسين.. فذلك المشهد الفاجع منذ أعوام ما زال يزلزل وجدانى كوصمة عار لم تفلت من الطواغيت طاغوت.. عندما تفتت أداء بعض مؤسسات الدولة لينحدر إلى مستوى أداء العصابات وقطاع الطرق.. فألقوا القبض على عادل حسين دونما تهمة حقيقية ولو على سبيل التلفيق المتقن، كان فى مؤتمر فى الخارج، وكان موعد خطوبة ابنته قد حان، لكنهم أخذوه من المطار إلى السجن، وبعد أيام أخذوه أمام النيابة، وكانت كل جبهات المعارضة قد حذرت من مؤامرة لقتله فى السجن، كانوا قد أخذوا ملابسة، وكنا فى الشتاء، واستعار ثوبا ممزقا رثا من سجين، ذهب به إلى النيابة، وهو هناك، والقيود فى يديه، وبجلباب صيفى ممزق استعاره من سجين، وتحت وطأة أربعة وستين عاما، عقد فى مشهد فاجع حفل خطوبة ابنته الوحيدة.
فى فناء المقبرة، رأيت سلماه فبكيت..
***
لله دركم آل حسين..
ثلاثة أبطال قدمتموهم تضحية وفداء.. فأى رجال أنتم.. وأى جلادين من يحاربوكم..
أنظر إلى حالكم فتتداعى إلى الذكرة حال المؤمنين والمجاهدين..
أولئك الذين عليهم أن يعطوا دائما.. وألا يأخذوا أبدا.. وتراءى لى النبراس العظيم لسيد الخلق إذ تطلب منه ابنته السيدة فاطمة الزهراء أن يعينها من بيت مال المسلمين بأجر خادمة تعينها على عمل البيت بعد أن أصاب الأذى يديها الشريفتين من كثرة العمل.. وكان هذا الحق حقا متاحا لعامة المسلمين على بيت المال.. لكن سيد الخلق قال قولته لفلذة كبده: " إنما جعلتم آل البيت لتُرزؤون لا لترزءون"..
مشهد القيود فى يدى عادل حسين فى حفل خطوبة ابنته و فلذة كبده.. ذلك المشهد الفاجع استدعى إلى الذاكرة المنهكة المتعبة الحزينة مشهدا آخر..
بل جرحا آخر..
فمنذ شهور، وفى نفس الوقت الذى كانت فيه الفضائيات تنقل أحداث الانتفاضة راحت تنقل أيضا أحداث انتفاضة الانتخابات فى أشمون المصرية.. الجنود نفس الجنود.. والحجارة ذات الحجارة.. والأطفال ذات الأطفال حتى لقد كدت ألمح بينهم محمد الدرة..
المنهج أيضا كان ذات المنهج والبيانات كانت نفس البيانات.. وكان أطفال الحجارة فى مصر هم الذين استفزوا رجال الشرطة الأبرياء فاضطروهم إلى إطلاق الرصاص وقنابل الغاز عليهم..
وراحت عيناى تبحثان فى خلفية الصورة عن شارون..
قبلها بشهور أخرى كان نفس الشىء يحدث فى أزمة الوليمة.. وكان الجنود هم نفس الجنود.. والطلبة هم ذات الطلبة.. والحجارة هى عين الحجارة.. وكان شارون مصرى يجترئ على المقدسات فلا يرده أحد..
نفس الشىء.. والعلاقة وثيقة بين الأحداث هنا وهناك.. والنتيجة فى النهاية واحدة..
قلت لنفسى أن الرصاص الذى يقتلنا فى مصر والرصاص الذى يقتل الفلسطينيين واحد.. والقنابل واحدة وتدريب الجنود واحد.. والمنهج أمريكى صليبى..
فى قاعة محكمة الجنايات كان المستشار يحيى الرفاعى- شيخ القضاة وضمير العدالة فى مصر والذى يعمل الآن بالمحاماة- قد جاء للدفاع عنى وعن مجدى حسين.. كنا نحاكم لأننا اعتدينا على وزارة الثقافة فى مصر!!.. تماما كما اعتدى أطفال الحجارة فى أشمون وفلسطين على جنود الأمن والصهاينة!!..
كانوا قد أتوا بالأسير مجدى حسين رئيس تحرير صحيفة الشعب الأسيرة من محبسه.. كان القيد فى يديه.. والتفت إلى الجلاد الذى يصطحبه راجيا إياه أن يوسع من القيد قليلا فقد جرح يده.. ونظر إليه الجلاد نظرة رأيت فيها عينى ذئب غادر.. عينى شارون آخر.. ورفض..ونظرت إلى الجرح.. وتأكدت أنه ينتمى بصلة قرابة وثيقة لذلك الجرح الذى رأيته فى غرة محمد الدرة.
بعد تأجيل القضية، اصطحب الجلاد أسيره.. ودونما اتفاق لم نتحدث - أنا والمستشار الكبير- عن جرح مجدى حسين وجرحنا.. كنا نتحدث عن الجرح العربى.. عن الانتفاضة.. عن التخاذل والخيانة.. وعلاقة ذلك بالكتاب الخطير الذى أصدره المستشار الكبير بعنوان" استقلال القضاء.. ومحنة الانتخابات" والصادر عن المكتب المصرى الحديث..
كان الرجل الجليل يحمل هم الأمة فى قلبه الكبير.. كانت ملامح وجهه تتقلص بالألم.. ورفع يده ليضعها على صدره..
فى المساء كنت أقرأ فى كتابه حيث كتب ينتقد الاعتداء على الدستور وخرق القانون : "بأساليب ممقوتة.. جمّدنا حزبا وصادرنا صحفه، وحبسنا من نشاء" .. ثم يستطرد "ولكن فى بلاد العالم الثالث لا يسمح السلطان لرعاياه بمجرد الأمل فى وجود إنسان غيره.." صباح اليوم التالى كنت أهاتفه كى أطمئن عليه.. لم يكن فى منزله.. دهمته أزمة
فى القلب.. نقلوه إلى المستشفى.. وقرروا ضرورة إجراء جراحة عاجلة فى القلب..
وكان المستشار يحيى الرفاعى واحدا ممن أخشى لقاءهم.. بل لقد تجنبت الحديث معه منذ مرض عادل حسين..
بعد الوفاة بأيام، هاتفته مترددا وجلا وأنا أخشى أن أكون أول من ينقل الخبر إليه..
واندفعت الكلمات من أعماق روح شامخة وقلب مكلوم بما يحدث للوطن:
- - لا .. لم أستطع حضور الجناز ولا حتى العزاء فى الفقيد الكبير.. لقد قتلوه.. قتلوه بالقهر وبالفساد .. تماما كما يفعلون فى إسرائيل حين يقتنصون أبطال الانتفاضة فيقتلونهم.. نفس الشىء يحدث هنا..
وراح يحدثنى عن علاقته بعادل حسين.. عن عمقه الفكرى وصلابته ، عن كم الحماس الهائل الذى كان يتحدث به، حتى لكأن داخله مرجلا يغلى بالغضب وبالحزن مما آل حالنا إليه فما كلماته سوى الذوب المنصهر للألم والإيمان بالقدرة على النهوض من قاع المستنقع الذى دفعنا إليه الطواغيت، و عن طاقاته الخلاقة وبطولته الفذة وسرعة بديهته.. ففى إحدى القضايا وكان وزير الداخلية هو الطرف الآخر فيها.. وكما يليق بوقار العدالة والمحكمة وبعادل حسين وصحبه فإنهم لم يصطحبوا من الحزب أحدا.. وفوجئوا بما يشبه عملية احتلال لقاعة المحكمة من رجال الوزير وضباطه- كان ما يزال وزيرا- .. وراحوا يهتفون ضد حزب العمل وصحيفة الشعب.. وفجأة.. بتوثب وطاقة شاب فى العشرين اعتلى عادل حسين - وهو فى الخامسة والستين من عمره - المقعد الأمامى فى المحكمة وراح يهتف ضد الفساد وبيع البلاد.. و أخذت النائحة المستأجرة بالمفاجأة ففرت من المواجهة.
حاولت إنهاء الحديث بأقصى سرعة خشية على رجل يمثل ضمير العدالة الباقى من فرط الانفعال ..
فقد كنت أبكى..
وكان الرجل الجليل والضمير الفذ والقلب الكبير على الطرف الآخر من الهاتف يبكى..
***
كنت أهرب أيضا من لقاء الأستاذ محفوظ عزام.. رأيته ينتحب.. وبكيت..
فى الانتخابات الماضية كان ترشيح مجدى حسين وهو سجين مواجهة سافرة للطواغيت.. وكان جزءا من ملحمة الصراع الشريفة الهائلة التى مثلت أزمة الوليمة ذروتها..وراح عادل حسين يقود المعركة بروح بطل شهيد.. و أدرك الطواغيت خطورة انتصار مجدى حسين .. فراحوا فى سابقة لم تحدث فى العالم يلقون القبض على كل من يشارك فى الجولات الانتخابية مع الدكتورة نجلاء القليوبى زوجته ووكيلته.. قبضوا على ابن الأستاذ محفوظ عزام فى المساء و أودعوه السجن.. وعندما علم الأستاذ محفوظ باعتقال ابنه كان أول شىء فعله .. أن أرسل ابنه الثانى كى يكمل الجولة الانتخابية بدلا من أخيه المعتقل..
أى رجال كانوا حولك يا عادل حسين..
وأى نظام يحارب مثل هؤلاء الرجال..؟..
لله دركم.. أى رجال أنتم..
***
كنت أحاذر الالتقاء أيضا بعامر عبد المنعم..
عقل ذكى وقلب تقى وروح خاشعة وثقافة عميقة ونضج يزيد عن عمره الحقيقى عشرات الأعوام.. وكان قد خاض المعركة التى سموها زورا معركة الوليمة بينما هى فى الحقيقة معركة لا إله إلا اللله.. خاض المعركة ليتحول من صحافى قدير إلى مجاهد كبير..
فى دفقة حزنه كنت أحس و أشم قلبا يحترق وكانت تسرى إلىّ عبر الهاتف لوعة صوته.. لوعة اليتم..
كنت أحس أنه ينظر إلى الجميع بعتاب عاجز حتى ليكاد يصرخ فينا أنه أولى بالعزاء منا جميعا.. وأن حقه فى ذلك لا يقل أبدا عن حق أبناء عادل حسين..
لم أسمع أبدا صوتا يحتوى على هذا الألم كله.. كنت أقود السيارة.. وجاءنى صوته عبر الهاتف المحمول ينقل إلى ترتيبات الجنازة.. و من مجرد رنة الحزن فى صوته وقبل أن أستوعب فحوى ما يقول انحرفت بالسيارة حين أجهشت بالبكاء..
***
هل يمكن أن نتحدث عن الحزب الذى كان عادل حسين أقوى دعائمه كحزب سياسى..
لشدما نظلم عادل حسين وحزب العمل لو فعلنا ذلك ..
فالحديث عن حزب سياسى يستلزم أن يكون فى الجانب الآخر حزب حقيقى وليس قراصنة..
فالأحزاب تتنافس أو حتى تتصارع فيما بينها ويكون موضوع الصراع ما يراه حزب منهما خيرا لكن حزبا آخر يرى أن هناك خيرا أكثر منه. الوضع فى عالمنا الثالث ليس كذلك.. الوضع هو معركة شرسة بين فئتين، فئة القراصنة التى استولت على البلاد عنوة وتستنزفها حتى الرمق الأخير غير آبهة بما يحدث لهذه البلاد بعد ذلك فأرصدتهم فى بنوك الخارج وقصورهم كما قبورهم هناك،وفئة أخرى تحاول إنقاذ الوطن. فئة لا تنافس على صندوق الانتخابات بل على تزويره وفئة أخرى تحاول أن يكون مفهوم الانتخابات كمفهومه فى باقى بلاد الدنيا، فئة تقدم للناس الغذاء المسموم وفئة تفضح ذلك وتشهر به.. فئة توالى أعداء الدين والوطن وتبرم اتفاقات الخنوع والتفريط سرا وفئة تجاهد كى لا يباع الوطن.. فئة تنشر الفاحشة بين المؤمنين وفئة تأبى ذلك.. وكل هذا ليس صراعا بين أحزاب..
نعم لم يكن عادل حسين يخوض معاركه من أجل حزب العمل ولا من أجل صحيفة الشعب بل من أجل الأمة والوطن والدين.. من أجل لا إله إلا الله..
***
فى الليل، فى صوان العزاء كنت أجلس، أذوب مع آيات القرآن، وكان قلب مصر وضميرها حاضرين وكانا يبكيان..
وضبطت عينىّ تبحثان وسط الزحام عن عادل حسين .. وضبطت أذنى وسط الضجيج تبحثان عن رنين صوته.. ما من اجتماع قبل ذلك إلا وكان هو شمسه وقطبه ترنو إليه الأبصار وتهفو له القلوب وتنصت له الآذان..
كنت مطرقا وقد حنى الحزن هامتى، وكل حين أرفع رأسى، فتفاجئنى من بين الجموع لمحة ويحذبنى مشهد فكأنه هو وكأننى أراه، هذه مشية عادل حسين، هذا ظهره، هذا عنقه فأكاد أركض خلفه، أتشبث به قبل أن ينسرب منى مرة أخرى، و أبثه همى وشكاتى و أهمس له بالفاجعة التى ألمت بنا : " عادل حسين مات"..!!..
كان الدكتور محمد عمارة يؤبنه.. وكان يسرد كيف بدأ الثلاثة المعروفون وسط المفكرين " برهبان الفكر " جهادهم الفكرى: عادل حسين وطارق البشرى ومحمد عمارة.. تصورت للحظة أن المستشار طارق البشرى سيتحدث بعده ثم تكون الخاتمة لعادل حسين نفسه.
لكن عادل حسين لم يتحدث.. ولن يتحدث بعد الآن أبدا.. ومحمد عمارة يخبرنا أنه مات شهيدا ويروى لنا كيف أبنه الشيخ يوسف القرضاوى فى مسجد عمر فى قطر وهو يبكى.. وكيف أقام صلاة الجنازة على روحه الطاهرة هناك..
***
ثمة ألم خاص يمزق شغاف القلب ويتسلل وئدا كشظية غادرة تشق طريقها بين العظم واللحم ..
لقد بدأنا معركة الوليمة وهى بعد لما تنته..
كنا نريد يا حبيبنا أن تكملها معنا و أن نرشف معك رحيق الانتصار..
انتصار ما من أحد منا إلا وهو واثق منه.. ليس انتصار الآخرة فقط فذلك يقين لا ريب فيه.. وإنما انتصار الدنيا أيضا.. فذلك وعد الله .. صدق الله وعده.. وصدق وعيده لمن يريدون للفاحشة والكفر أن يشيعا بين المؤمنين.. لا بالعذاب الأليم فى الآخرة فقط.. بل بخزى الدنيا أيضا..
ما من أحد منا إلا وهو واثق أن نهاية أولئك الطواغيت الذين حاصروك يا عادل حسين بعد مواقفك العظيم فى كل معاركك عموما ومن أزمة الوليمة على وجه الخصوص هى نهاية وشيكة نترقبها وندرك أنهم سيكونون عبرة للأولين والآخرين ..
تنحدر الذكرى كالسيل.. كنت قد كتبت مقال : " من يبايعنى على الموت" و أرسلته إلى الصحيفة.. وهاتفنى عامر عبد المنعم مدير التحرير: أنا معك فى كل ما تقول.. لكن هذا المقال خطير جدا وقد يترتب عليه تداعيات هائلة أقلها إغلاق الشعب.. وذلك يتعدى صلاحياتى.. ودار حوار طويل بينى وبينه.. قلت له أن الأمر الآن ليس أمر حزب ولا صحيفة.. من ناحيتى كيف أستطيع أن أواجه نفسى إذا عجزت عن الدفاع عن قداسة اسم الله جل جلاله وعن القرآن الكريم وعن الرسول صلى الله عليه وسلم.. كيف أستطيع بعد ذلك أن أكتب فى أى موضوع آخر.. كيف يصدقنى القراء بل كيف أصدق أنا نفسى.. إن صحيفة الشعب هى أعظم صحيفة إسلامية فى العالم.. وهى ليست مسئولة أمام القارئ المصرى فقط.. بل أمام الأمة الإسلامية كلها.. و أنها إن لم تتصد لهذه الكارثة فمن سواها؟ .. هذا موقف ليس للسياسة ولا للأحزاب دور فيه.. هذا موقف لله.. موقف أوافقك أننا أغلب الظن سوف نستشهد فيه؟.. لكن أليس نبراسنا أن الشهادة انتصار و أنها إحدى الحسنيين.. ورد علىّ قائلا أنه لا يختلف معى فى أى كلمة قلتها لكنه فقط يقول أن أمرا كهذا أخطر من أن يبت فيه وحده. قلت له : فلتعرض الأمر على رئيس التحرير بالنيابة: الأستاذ طلعت رميح.. لكنه أخبرنى أنه يحضر ندوة فى الولايات المتحدة الأمريكية..وفى داخلى حمدت الله.. فالأستاذ طلعت رميح يمثل عقلا استراتيجيا فذا شديد التماسك والمنطقية وهو كقائد ماهر لا يتخذ قرارا دون حسابات بالغة التعقيد على أرض الواقع .. وتصورت أنه لو كان موجودا لما وافق على نشر المقال ربما درءا لخطورة تداعيات هو محق تماما فى حساب مداها .. وكنت أختلف مع وجهة النظر التى تصورت أنه سيتبناها.. فقد كان الأمر بالنسبة لى كارثة لا تصلح معها الحسابات.. وأننا إزاء موقف لا يحتمل إلا الفوز بإحدى الحسنيين.
كان مجدى حسين رئيس تحرير الشعب سجينا بتهمة سب يوسف والى وكانو هم يسبون الله والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم..
وطلب منى الأستاذ عامر أن أهاتف الأستاذ عادل حسين لأعرض الأمر عليه..
أشهد أمامك يا رب أنه لم يتردد لحظة واحدة فى الانتصار للدفاع عن قداسة اسمك وقرآنك ورسولك صلى الله عليه وسلم..
أشهد أمامك يا رب أن المخاطر كلها كانت ماثلة أمامه وهو يتخذ القرار بالموافقة على نشر المقال و أنه بالرغم من هذه المخاطر لم يتردد ولو لثانية واحدة..
أشهد أمامك يا رب أن المخاطر المطروحة ليلتها كانت بالغة الوضوح أمامه.. وكان أقلها ما حدث.. فقد كان مطروحا أن نستشهد جميعا فى سجون الطاغوت فور النشر.. ولم يكن مطروحا أمامنا أى احتمال لفوز دنيوى.. فنحن نعرف شراسة الهجمة على الإيمان و أنهم لن يسمحوا لنا الآن بتحقيق نصر عليهم فليس أمامنا إلا الاستشهاد.
أشهد أمامك يا رب أنه لم يطلب منى أن أحذف حرفا واحدا مما كتبت.. بل طلب منى أن أضيف إلى عناوين المقالة لفظ: "القرآن".. وقد فعلت..
أشهد أمامك يا رب أننى كنت أشعر عبر الهاتف بغضبته الهائلة فى سبيلك.. غضبة بطل شهيد..
أشهد أمامك يا رب أننى فوجئت بأنه ينزل إلى الساحة بنفسه.. ويحمل هو لواء الدفاع عن دينك.. ويكرس الصحيفة بعناوينها الرئيسية ذودا عن الإيمان بك..
***
هنيئا لك يا عادل حسين أنك نلت شهادة ظللت عمرك تسعى إليها فشاء الله جل جلال جلاله أن تنالها فى أعظم وأشرف و أقدس قضية..قضية الدفاع عن أصل الإيمان..
هنيئا لك .. تركت سجنك بالدنيا إلى جنتك فى الآخرة.. وتركت أعداءك و أعداءنا فى جنتهم فى الدنيا والتى لن يروا بعدها جنة أبدا.. إلا من تاب و آمن وعمل صالحا .. وما أحسبهم - عبيد ذواتهم والشيطان - يفعلون..
هنيئا لك.. والعقبى لنا أن نحشر معك ومع من أحببت و أن نكون من حزبك يوم الفصل..
هنيئا لك.. حزبا للأبرار - لا يطاله الطاغوت - تحمل لواءه إن شاء الله يوم القيامة..
و إنا لله وإنا إليه راجعون..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق