الأربعاء، 3 مايو 2023

الاستشراق.. كيف نجح في بثّ الشك في ديننا وحضارتنا؟!

الاستشراق.. كيف نجح في بثّ الشك في ديننا وحضارتنا؟!
محمد شعبان أيوب
باحث ومؤلف في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط


العلاقة بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والغرب علاقة بدأت مع ظهور الإسلام وانتشاره في أرجاء الجزيرة العربية حتى بلغت قوته تخوم الإمبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية في بلاد الشام إبان القرن السابع الميلادي، ولقد أرسل نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم رسالة واضحة يدعو فيها هرقل الإمبراطور البيزنطي إلى الإسلام، ويكشف له في هذه الرسالة أن الإسلام ثقافياً وعقيدياً دين متين يُدرك تماماً الأبعاد الهشّة التي تقف عليها المسيحية من حيث التثليث وعبادة الأقانيم والصور، بل ويدرك الإسلامُ أيضاً أن ثمة قاسماً توحيدياً مشتركاً بينه وبين طائفة في المسيحية تُسمّى بالأريسية نسبة إلى الراهب أريوس المصري السكندري، ذلك الذي رفض التثليث وآمن بأفكاره طائفة من الناس؛ فقد جاء في رسالة النبي لهرقل: "سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ".

وقد أصبح الإسلام تحدياً سياسياً وثقافياً حقيقياً مع سيطرته على بلاد الشام وشمال إفريقيا والأندلس والبحر المتوسط وبلغت قوات المسلمين جُزر هذا البحر المهمة؛ مثل قبرص وكريت وصقلية وسردينيا وميورقة، بل وبلغت قوات المسلمين جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، بل يؤكد شكيب أرسلان في كتابه "تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا" وصول المسلمين إلى شمال إيطاليا وسويسرا واستقرارهم في هذه المناطق لفترة طويلة!

وأما التحدي الثقافي والحضاري الذي لمسه الأوروبيون في الأندلس القريبة منهم، فقد رأوا عياناً ثقة علمية كبيرة لدى المسلمين وهم يُفحمون خصومهم من الأوروبيين في مسائل العقيدة والأديان في المناظرات والمؤلفات الكلامية والعقدية والفلسفية التي كتبها أمثال الغزالي وابن رشد وابن تيمية وغيرهم، كما رأوا تقدماً في المعارف والعلوم، حتى إن الراهب الفرنسي جربرت الذي انتُخب بابا الكاثوليكية باسم "سلفستر الثاني" في روما عام 999م/389هـ كان قد تلقّى تعليمه في الأندلس قبل ارتقائه للمنصب الديني الأعظم في المسيحية. وأمام هذا التقهقر الأوروبي الفكري والسياسي وهزيمة عسكرية في فتوحات الإسلام الأولى، وبعد قرنين في الحروب الصليبية، بزغ التحدي أمامهم بضرورة تعلم العربية وترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية، والإنجيل إلى العربية، وضرورة إنشاء أقسام في جامعاتهم لدراسة العربية والشرق، فعقدوا مجمع فيينا الكنسي في عام 1312م ليقر بضرورة إنشاء كراسي في جامعات أكسفورد وبولونيا وسلامانكا وغيرها لدراسة اللغات الشرقية وتراثها وعلى رأسها اللغة العربية والإسلام.

والحق أن الجهود الغربية لدراسة العالم الإسلامي وفق ما أسموه هم بـ"الاستشراق/ Orientalism" وهو مفهوم يعني دراسة لغات وآداب وتاريخ وعقائد وتشريعات وحضارة وثقافة هذا الشرق بوجه عام، كانت قد تنوعت من حيث الأهداف والغايات، بيد أن السبب الرئيسي في بدايات هذا العلم كان البحث عن الأسباب الكامنة في انتصار الحضارة الإسلامية، وكذلك دراسة القرآن والعقيدة الإسلامية بُغية معرفة مكامن الخلل والضعف فيها لإحداث هجمة عكسية في العالم الإسلامي لنشر المسيحية وتنصير المسلمين، وإفحام الخصوم من العلماء المسلمين.

وبمرور الوقت، يحقق الاستشراق هدفين كبيرين للعالم الغربي؛ الأول أصبحت حملة الافتراء والتشويه ضد الإسلام التي بدأت مع القديس يوحنا الدمشقي المتوفى عام 132هـ/749م والمؤرخ البيزنطي ثيوفانيس المتوفى 202هـ/817م، وباثلميو الأوديسي وغيرهم من الأفراد القساوسة والرهبان والمؤرخين، ومع إنشاء هذه الأقسام الجديدة في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي في أهم الجامعات الأوروبية، "أصبحت أكثر تنظيماً ودقة وبالتالي أكثر تأثيراً على المجتمع الأوروبي ومثقفيه. ولعل أهم أثر لهذه الكتابات وغيرها هو استقرار الصورة المشوّهة والادعاءات المزيّفة عن التاريخ الإسلامي والعقيدة في الذهن الأوروبي وتأكيد القناعة -كما يؤكد المؤرخ ساثرين- بأن مواجهة الخطر الإسلامي يجب أن تكون بتكثيف حملات التحريف والتزييف والتشويه والافتراء على الإسلام وأهله". كما يذكر الدكتور فاروق عمر فوزي في كتابه "الاستشراق والتاريخ الإسلامي".

ورغم أن فوزي يعترف بوجود مستشرقين كانوا ولا يزالون على درجة من الإنصاف للتاريخ والحضارة الإسلامية، وأن تناول الاستشراق يجب أن يكون وفقاً لكل حالة فردية وليس تياراً عاماً، فإنه يعود ويؤكد على أن هذا الانصاف يشوبه الأغلاط والتحريف وعدم الفهم الشامل للإسلام وتاريخه والقيم الروحية الكامنة فيه "بسبب من ثقافته وبيئته المتشبعة بروح العداء للإسلام وتاريخه مهما حاول أن يكون متجرّداً فلابد أن ينحرف أو يشطط شعورياً أو لا شعورياً فيجترّ بعض مظاهر الصورة المشوّهة للإسلام من تراثه الأوروبي المتراكم عبر القرون". على حد وصفه.

ويتفق الدكتور مازن مطبقاني في دراسته "الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس" مع ما ذهب إليه الدكتور فاروق عُمر في أن هدف الاستشراق الأوروبي عامة والإنجليزي والأمريكي خاصة كان بدافع ديني لمعرفة الإسلام وتصويره بصورة كريهة لتنفير الغربيين من الإقبال عليه بالطعن في الرسول والقرآن والشريعة، والهدف الآخر دعوة المسلمين لقبول الديانة النصرانية بأشكال وصور مختلفة.

الاستشراق

وقد أسهم المستشرقون الإنجليز والأمريكان والفرنسيون وغيرهم بدراسات كثيرة منذ إنشاء هذه الأقسام في الجامعات الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا، كثير منها كان متحاملاً عدائياً استعلائياً، وبعضها منصف تغيّ البحث عن الحقيقة، ولكن لم يخلُ من أخطاء منهجية وثقافية، على أن الهدف الثاني الذي قام عليه صرح دراسات الاستشراق في الغرب كان بهدف استعماري، فلم تعمل الآلة الاستشراقية في أكثرها على تشويه الإسلام وتراثه بين الغربيين فقط، بل أخضعت نفسها لحكوماتها الأوروبية التي راحت تعتمد على خبراتهم وثقافاتهم لمعرفة البلدان التي يدرسونها بهدف السيطرة عليها.

فهذه الفئة من المستشرقين كان لابد لها أن تصوّر الشرق في صورة الشعوب المتخلفة فطرياً، وقد ربطت التخلف بالإسلام، والتقدم بالمسيحية، وأن الحكومات المسيحية تحمل على عاتقها مسؤولية تخليص هذه الشعوب الشرقية من التعاسة و"الاستبداد الشرقي" المتولّد من داخل الإسلام ذاته في زعمهم، ولأن الغرب متقدم ومتفوق حضارياً بدأت هذه النغمة تتردد ليس بين الغربيين فقط، بل أصبح لها حمولات ثقافية ومعرفية وخطابات مختلفة حين تتناول دراسة تاريخ وحضارة ولغات وتراث الشرق بهدف تأصيل "نزعة محاكاة الغرب".

ولهذا السبب ظهرت دراسات استشراقية بالغت في الحط من مظاهر سياسية أو دينية أو حضارية معينة لدى المسلمين، ونشرتها بين الناس بهدف تزييف الوحدة الوطنية أو بثّ الفتن الطائفية والنزاعات العنصرية، فدراساتهم عن عصر الإسلام المبكر، وتصويرهم اختلاف المسلمين إلى فرق وجماعات عقدية وسياسية في ذلك الوقت كان يهدف إلى تصوير الإسلام دين العرب "السامانيين" أو "السراسنة" كما يصفون، بأنه السبب في القمع والقهر الذي تعرضت له الشعوب الآرية في إيران وآسيا، ولهذا السبب قامت هذه الأعراق بالانتفاضات الفكرية والانشقاقات الجماعاتية من قدرية وجهمية ومعطلة وبابية وخُرامية وغيرها.

وبالطبع، فإن مثل هذه الدراسات تتجاهل عمداً أن الأعمدة الفكرية الكبرى التي قامت بحفظ متون السُّنة النبوية كانت أيضاً من بين هذه الشعوب، فالنسائي وابن ماجة والبخاري ومسلم والنيسبوري وأبو حنيفة كلهم من هذه البلاد ومن هذه الأعراق غير العربية، ولكن هدفت هذه الدراسات إلى بث مثل هذه الأفكار لإحداث مزيد من الانشطار والانقسام في العالم الإسلامي المعاصر، ومع المبالغة في تصوير تقدم وحضارة وأخلاق وسمو الفكر والعلم الغربي مع تصوير الحضارة والشعوب الإسلامية بالتخلف والهمجية أو روح التنافر فيما بينها يصبح المسلم متشككاً في تاريخه وتراثه وغير مؤمن به، بل يراه سبباً في تخلفه وانحطاطه.

وقد اعترف برنارد لويس بهذه الحقيقة بجلاء منقطع النظير، فهو يقول: "إن ما تعوّدنا عليه في الغرب أن يزداد تمسّكنا بمُثلنا الغربية كلما ازداد اتجاه الشرقيين إلينا، وذلك بجعل أنفسنا مثالاً للفضيلة والتقدم الحضاري، فإذا تشبّه الشرقيون بنا فذلك جيّد والعكس يُعدّ عندنا شرّاً. فالتقدّم هو في محاكاتنا والتقهقر والسقوط هو في عدم التشبّه بنا".

ويؤيد إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" هذه الحقيقة من خلال تتبعه للأعمال الاستشراقية التي تتناول ثقافات الشرق الإسلامي والفارسي والهندي والآسيوي الأدبية والتاريخية، فهذه الدراسات تُصورّ "أوروبا قوية وتستطيع التعبير عن نفسها، وآسيا مهزومة وبعيدة … وأوروبا هي التي تُفصح أو تعبّر عن الشرق، وهذا الإفصاح أو التعبير ليس ميزة يتميّز بها مُحرّك الدُّمى بل خالقٌ حقيقي لديه القوة على أن يهبها الروح وأن يجعلها تُمثّل وتحرك وتشكل ذلك المكان الذي يقع فيه". ص120.

الاستشراق

ولهذا نرى أن أخطر ما قام به الاستشراق في إطار انخراطه في تهيئة الأرضية للحكومات الغربية ودعمها المستمر في "الهيمنة" و"السيطرة" على الشرق، قدرته أيضاً على خلق فئة من المثقفين والأكاديميين العرب والمسلمين ممن أصبحوا "مستغربين" يؤمنون بهذه الأطروحات الاستشراقية دون إعمال لملكة النقد، وقد عاب عليهم الدكتور فاروق عُمر فوزي في كتابه الآنف على الرغم من أن بعض المستشرقين تراجعوا عن آرائهم السابقة بسبب قصور فهمهم للغة العربية أو ظهور حقائق جديدة جعلتهم يتراجعون عن آرائهم المغلوطة؛ إلا أن ذلك لم يؤثّر في مواقف المستغربين العرب الذين تأثروا بهم حتى النهاية، وهكذا صنع الاستشراق أزمة حقيقية في العالم الإسلامي، رغم وجود فوائد ودراسات جادة لا يمكن التقليل من أهميتها!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق