أبطالنا الخارقون في الأنفاق
ربّما كانت الأساطير التي تصوّرها أفلام الكارتون، والمغامرات، والأكشن، أكثر واقعية، ولربّما كانت خيالات المؤلفين أقلّ جنوناً وجرأة، ولربّما كانت سلاسل الأبطال الخارقين (على فانتازيّتها) أكثر منطقية، من رجلٍ يعيش في نفق، يرصد دبابةً متطوّرةً ترى الذرّة حولها وتسمع دبّة النملة، وداخلها نحو عشرة من نخبة الجنود المسلحين، يخرج إليها بحذر، ثم يسرع نحوها في جرأة، يضع عبوةً ناسفةً على نقطةٍ محدّدة، وهو يلهج بآيةٍ من كتاب الله، ثم يعود لمكمنه مسرعاً، ثم تنفجر الدبابة.
لربّما كانت خيالات المخرجين، وأحلامهم، لا تسعفهم لوضع تفاصيل كتلك في فيلم أو رواية محكمة، لأنّ الحبكة، وإن استطعت التشويق، فيلزمها البناء المعقول، حتى ولو كنتَ تكتب فكرةً سوريالية؛ لكن الذي علّم بالقلم، كتب لنا في فلسطين، على أيدي رجالها، وسواعد المقاومين في غزة، حقائق أخرى، أعظم حبكةً من أيّ نص، بطولة تُرى بالعين، لا تُتخيّل بالذهن، ولا تتحملها فصوص الدماغ.
الأكثر إبهاراً أنّ ذلك الرجل الخارق هو من صنع قنبلته بنفسه، في قطاع لا يدخل إليه عود الكبريت إلا بتصريح، ولا يمرّ إليه ألف شاحنة بضائع كلّ يومٍ إلا عبر بوابة، وجنود يفتّشون كلّ شبر فيها، ولا يجد من الغذاء، ولا الماء، ولا الهواء، ولا الوقود إلا ما هو مكتوبٌ له بالحرف الواحد، لأنّ الاحتلال الإسرائيليّ كذلك يحدّد "الكالوريز" التي ستدخل أجسام الفلسطينيين، خشيةً منه على صحتهم أن تصير أحسن!
كلّ "الآلات" الخوارق التي روّجها الاحتلال على مدار عقود، وصنع منها وطوّر في العقد الأخير أضعاف جيرانه وخصومه وحلفائه، حتى صار أستاذاً يصدّر كفاءاته لجيوش العالم ليطوّروا فيها، ويبيع لهم إنتاجاته الحربية العصيّة على الفشل، يصعد إليها رجل عاديٌّ، كان ربّما يأكل الخبز والزعتر والزيتون قبل قليل، بيدين طبيعيّتين كثيفتي الشعر، وبنطالٍ مقلدٍ من ماركة "أديدوس" لا أديداس، يباع الـ3 منها بـ10 شواكل في سوق الشجاعية، و"فانلة" حمالات قطنية تكشّ عند غسلها من أوّل مرة، لونها رصاصيّ باهت، تقبل أن يخرط عليها أي كائن آخر في غسالة الملابس، يمسك الرجل عبوته، ويمضي في ثباتٍ مذهل، وإيمان صادق، وعزمٍ مبهر، وتوديع للدنيا كأنّها لا تساوي شعث نعله، فيصنع البطولة الخارقة، ويكتب الرواية الخالدة، بأنفاسه المتهدجة، وتكبيره المزلزل، ثم يعود إلى النفق، الذي يُخيّل إلى ذهني أنّه عبارة عن مصنعٍ للأبطال الخارقين، الذين يرتدون من ماركات مقلّدة تحت بير السلم، ويأكلون الخبز والزيتون والزعتر، وحين ينتصرون فقط في نهاية الحرب يمكنهم أن يأكلوا الفتة والمسخّن والشاورما!
المقاوم في غزة يصنع البطولة الخارقة، ويكتب الرواية الخالدة، بأنفاسه المتهدجة، وتكبيره المزلزل، ثم يعود إلى النفق
يترك الواحد منهم حياته، وأهله، وماله، وعياله، وكلّ أغراض الدنيا، وبعض متعها، ليعيش في نفق تحت الأرض بعشرات الأمتار، يقضي حياةً تقشفية قاسية، يكلّف بمهمات لا يفعلها إلا جنودٌ بأجنحة، وستائر حمراء خلف ظهورهم، ولهم في أرساغهم مخزن تنطلق منه شبكة عنكبوتية تأخذه إلى أيّ مكان، وحولهم جسمٌ مكثفٌ مدرّع يقيهم الصدمات والرصاص والتفجيرات، وعيونهم ثاقبة بها ماكينة تجعلهم يرون ما وراء الحديد والصفائح ويخترقون ما وراء الجدران، لكنه (ياللعجب) لا يملك أيّاً من ذلك، إلا إيمانه وعمله.
الأهم أنّ تلكم البطولات العظيمة، والأفعال الجريئة الخارقة ليست وليدة اللحظة، لا أحد يولد بطلاً فجأة، وإنّما هي نتيجة لسنوات طويلة من الصناعة، والكثير من الدماء والعرق والجهد، وآلاف الأيام من العمل والإرهاق والكبَد، وآلاف الليالي من السهر والرباط وتبديل النوبات، وآلاف الأميال من السير والتدرّب والمناورة، وآلاف الصفحات من القراءة والتدبّر والإدراك، وآلاف المواد من الدراسة والتطبيق والاختراع، وآلاف الهمم والعزائم والقيم، من تربية هؤلاء تحت الأرض، ليحرّروا بعزةٍ وكرامةٍ وجمالٍ ما فوقها، منفقين أعمارهم فداء تلك القضية التي فتحوا عليها عيونهم، فأبوا إلا أن يغلقوا عليها عيونهم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق