سيناريوهات النصر والهزيمة
أكدت القمة العربية الإسلامية التي انعقدت يوم السبت الماضي 11 نوفمبر 2023 م، أن قطاع غزة لا بواكي له، وأن على الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس؛ أن يعتمدوا على أنفسهم -بعد الله- في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وأن يحددوا خياراتهم القادمة الداخلية والخارجية، وفقًا لتطورات الأمر الواقع، ليتمكنوا من إفشال المخطط الصهيو-أميركي الذي استعرضنا مبرراته ومراحله في المقالين السابقين، وهو مخطط إفراغ قطاع غزة وضمّه للكيان الصهيوني، باعتباره الاحتمال الأخطر بين بقية الاحتمالات التي يسوقها الخبراء والمحللون، المبنية على المواقف الغامضة والمعلومات المضللة التي يدلي بها قادة الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية من حين لآخر.
فما الاحتمالات المتوقعة في الفترة القادمة؟ وما الخيارات التي أمام الشعب الفلسطيني وحماس والمقاومة الفلسطينية في إفشال مخطط التفريغ والضمّ؟
فشلت الجهود العربية والإسلامية الجماعية عن طريق جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في اتخاذ أي خطوات تضغط باتجاه إيقاف الحرب، وظلت المواقف الفردية للدول العربية والإسلامية الرئيسية مرهونة بموقف الولايات المتحدة من جهة، ومصالحها القُطرية من جهة أخرى
قبل الحديث عن الاحتمالات والخيارات، لا بد من التنبيه على ضرورة تجاهل التصريحات التي تصدر عن الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية، حول "مرحلة ما بعد حماس"؛ لأنها مجرد تصريحات جوفاء كاذبة ومراوغة، يدلون بها تهدئةً للنفوس ومجاراةً للمزاج السياسي العام فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا، وترضيةً للأطراف العربية المؤيدة للقضاء على حماس بأن مستقبل قطاع غزة بعد حماس سيراعي مصالحهم.
كما يجب الانتباه إلى أن هذه التصريحات ترسّخ مفهومًا خطيرًا، مفاده أن القضاء على حماس والمقاومة المسلحة في قطاع غزة، بات أمرًا مفروغًا منه، بينما العكس هو الصحيح، فالمعركة مازالت على أشدّها، وتداعياتها الكارثية على الكيان الصهيوني عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وشعبيًا، لا تخفى على المتابعين، وبات من المرجح جدًا أن المستقبل السياسي للرئيس جو بايدن وإدارته، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو سينتهي قبل أن تنتهي الحرب، وستنتهي معهم هذه التصريحات.
سياق الأحداث
من الضروري جدًا، ونحن نحاول توقع الاحتمالات والخيارات، أن نأخذ بعين الاعتبار سياق الأحداث المصاحبة لمعركة (طوفان الأقصى) بعد مرور 40 يومًا، على مختلف الصعد والمستويات، والتي نستعرض أهمها فيما يأتي:
أولاً: عسكريًا
احتدام المواجهة بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال الصهيوني التي فشلت في أن تحقق أي انتصار يمسح السواد عن وجوه قادة حرب الكيان الصهيوني، ويبعث الأمل في الشارع الإسرائيلي بقرب انتهاء المعركة وتحرير الأسرى والرهائن.
فرغم الدمار الهائل، الذي ألحقه الجيش الصهيوني الإجرامي بالبنى التحتية والفوقية في قطاع غزة، وح يعجز عن التصريح بها بدقة، رغم تفوّقه الهائل في مستوى التسلّح وعدد القوات والقدرة التدميرية.
ثانياً: مدنيًا
اشتداد قسوة الحياة على المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين يلاحقهم القصف والدمار والموت من مكان إلى آخر، وقد انعدمت مقومات العيش والأمن لديهم، وخاصة في مدينة غزة، التي توقفت فيها معظم المستشفيات عن العمل، بعد أن تحولت إلى أهداف عسكرية لقوات الاحتلال، ونفد فيها الوقود والمواد الطبية والأدوية، واكتظت بالشهداء والجرحى والنازحين.
ثالثاً: سياسيًا
انسداد تام في الأفق السياسي بسبب انخراط الولايات المتحدة في الحرب مع الكيان الصهيوني، ما أدى إلى تعطيل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الداعية إلى وقف إطلاق النار. ولا يزال الموقف الأميركي يهيمن على الموقف الغربي بشكل عام، رغم التحفظات التي تصدر من حين لآخر، من بعض الدول والقيادات الأوروبية، تحت ضغط المشاهد الإنسانية والمعارضات الشعبية، مطالبةً بوقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية.
رابعاً: فلسطينيًا
صعّدت مدن ومخيمات الضفة الغربية مواجهاتها ضد قوات الاحتلال الصهيوني، إلا أنه ظلّ تصعيدًا مكبّلًا بموقف السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية القمعية؛ الملتزم بتوجيهات الولايات المتحدة ووعودها الوهمية. وبالتالي ظلّت نتائج المواجهات محدودة في صفوف قوات الاحتلال والمستوطنين. أما في الشتات، فقد شهدت الحدود اللبنانية مواجهات محدودة؛ بسبب الموقف اللبناني العام، قامت بها كتائب عزالدين القسام وسرايا القدس في لبنان.
في المقابل تميّز المستوى السياسي بالمراوغة والبرود من جهة الأحزاب والقوى السياسية المناوئة والمنافسة لحركة حماس؛ في انتظار إجهاز الكيان الصهيوني عليها، وعلى رأسها حركة فتح التي لم تستطع حتى الآن أن تتغلب على خلافاتها التاريخية مع حركة حماس، وتتخذ الموقف المشرّف الذي يمليه عليها الواجب الوطني والمصير المشترك وحرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، والمواجهة العسكرية المفتوحة ضد الاحتلال على الأرض الفلسطينية لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية.
أما في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، فإن الإجراءات الصهيونية القمعية التي تعرّضوا لها بعد معركة (سيف القدس)، والتحذيرات التي تم توجيهها لهم في معركة (طوفان الأقصى)؛ حالت حتى الآن دون قيامهم بأي دور من شأنه التأثير على سير الأحداث في قطاع غزة.
خامساً: عربيًا وإسلاميًا
كالعادة؛ فشلت الجهود العربية والإسلامية الجماعية عن طريق جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في اتخاذ أي خطوات تضغط باتجاه إيقاف الحرب. وظلت معظم المواقف الفردية للدول العربية والإسلامية الرئيسية مرهونة بموقف الولايات المتحدة من جهة ومصالحها القُطرية من جهة أخرى.
سادساً: إغاثيًا وإنسانيًا
كما فشلت جميع المؤسسات الدولية الأممية والإغاثية والإنسانية والحقوقية في اختراق تعنّت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ولم تتمكن أي مؤسسة من الدخول لمباشرة مهامها في قطاع غزة، باستثناء شاحنات المساعدات الإغاثية محدودة الجدوى.
سابعاً: محور الممانعة
ما زال حزب الله محافظًا على قواعد الاشتباك مع قوات الاحتلال الصهيوني، لا يتخطاها إلى المستوى الذي يخفف فعليًا عن قطاع غزة، نظرًا لتعقيد حساباته السياسية اللبنانية، وتجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية التي هدّدت مرارًا بأنها لن تسمح بدخول أي أطراف إقليمية على خط المعركة الدائرة في قطاع غزة، وأن أي دولة تقدم على ذلك ستدخل في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة.
ومن هنا فإن إيران لن تفرّط في مكتسباتها الداخلية التي حققتها منذ الثورة عام 1978م، ولن تستطيع الدخول في مغامرة عسكرية ضد الولايات المتحدة دون ضمانات روسية، في وقت تقف فيه غالبية الدول العربية (فعليًا) إلى جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وتتخذ موقفًا حادًّا من جماعات وحركات الإسلام السياسي، بعد أن أصبح القضاء عليها هدفًا إستراتيجيًا لهذه الدول.
أما العمليات التي قامت بها قوات الحوثي في اليمن والمجموعات الإسلامية المسلحة على الحدود السورية العراقية، فهي مجرد ذر للرماد في العيون، وليس لها أي تأثير على مجريات الحرب الدائرة في قطاع غزة.
ثامناً: الممرات الإنسانية
مؤخرًا؛ تم فتح الممرات الإنسانية (غير الآمنة) أمام عشرات الآلاف من المواطنين للنزوح باتجاه جنوب قطاع غزة، نحو مصير مجهول، ضمن ظروف شديدة القسوة والقهر والإذلال والمعاناة، على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، ودون وجود أي استعدادات دولية لاستقبالهم، فلا مأوى ولا إغاثة ولا أمان.
تاسعاً: شعبيًا
تتواصل التظاهرات الاحتجاجية الشعبية بحشود استثنائية في العديد من الدول العربية والإسلامية والغربية، دون أن يكون لها أي تأثير مباشر في إيقاف الحرب، ووضع حد للمجازر الصهيونية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني ساعة بساعة.
لن تفرّط إيران في مكتسباتها الداخلية التي حققتها منذ الثورة عام 1978م، ولا تستطيع الدخول في مغامرة عسكرية ضد الولايات المتحدة دون ضمانات روسية، في وقت تقف فيه غالبية الدول العربية (فعليًا) إلى جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني
احتمالات محدودة
في ضوء هذا السياق، تصبح الاحتمالات القريبة القادمة محدودة، ومحكومة بطبيعة المتغيرات التي ترافقها وحجمها وقوتها، وفي مقدمة هذه الاحتمالات:
استمرار الموقف الصهيو-أميركي الرافض لإيقاف الحرب، واتجاهه لتغيير التكتيكات الحربية، وزيادة القدرات التدميرية لتقصير مدة الحرب، وتقليل الخسائر في صفوف الكيان الصهيوني. وهذا يعني اشتداد حدة المواجهات بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال الصهيوني، وخاصة مع تواصل عملية إفراغ شمال قطاع غزة ونزوح سكانه نحو الجنوب. وقد تنتهي هذه المواجهات بأحد الاحتمالات التالية:
- الأول: تمكّن المقاومة من تكبيد جيش الاحتلال خسائر متزايدة متواصلة في الأفراد، ما سيزيد من اضطراب الشارع الصهيوني ودفعه للمطالبة بالدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب، بالتزامن مع المطالبة بإسقاط نتنياهو ومحاكمته، وخاصة إذا طالت مدة الحرب، ولم يتم تحرير الأسرى والرهائن.
- الثاني: تمكّن جيش الاحتلال من القضاء التام على فصائل المقاومة الفلسطينية، باستخدام قنابل ذات قدرة تدميرية عالية لم يسبق له استخدامها من قبل، تصل إلى أعماق بعيدة في الأرض، بعد إفراغ الشمال من ساكنيه. ويتوقع كثير من المراقبين صعوبة تحقيق ذلك بسبب تعقيدات شبكة الأنفاق، وعدم وجود مخططات لها لدى جيش الاحتلال.
- الثالث: اضطرار فصائل المقاومة إلى إعلان إيقاف القتال والانسحاب بفعل كثافة نيران الاحتلال ونجاحه في تدمير الجزء الأكبر من شبكة الأنفاق، حيث سيؤدي ذلك إلى انقطاع التواصل بين فرق المقاومة، وصعوبة الوصول إلى الذخائر والمعدات والمؤن. وسيتم إيقاف القتال والانسحاب بوساطة إقليمية ودولية وأممية. ولكن الأمر الذي يضعف هذا الاحتمال؛ تعارضه مع العقيدة القتالية الاستثنائية لدى كتائب المقاومة، هذه العقيدة التي لا مكان فيها للاستسلام ولا الهروب من الميدان.
- الرابع: حدوث مفاجآت غير متوقّعة عسكرية أو سياسية أو شعبية أو بيئية، تؤثر على سير المعركة، وتدفع باتجاه وقف عاجل لإطلاق النار والدخول في مفاوضات سياسية. ورغم صعوبة حدوث هذا الاحتمال، فإن تأرجح موازين القوى، وتغيّر مصالح الأطراف الإقليمية والدولية يجعلاننا نأخذه في الحسبان.
تواصل عمل الممرات الإنسانية، واستمرار تدفق النازحين باتجاه الحدود الجنوبية مع مصر، ما سيؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني بسبب عدم وجود أماكن للإيواء، والازدحام والفوضى، وغياب السلطات أو المؤسسات المنظمة لشؤون هؤلاء النازحين واحتياجاتهم اليومية. استمرار وصول المساعدات الإغاثية نحو الجانب المصري من الحدود، وإقامة معسكرات لجوء مؤقتة لاستقبال اللاجئين؛ بسبب الرفض المتوقع من قوات الاحتلال الصهيوني لدخول المؤسسات الإغاثية والإنسانية إلى قطاع غزة. استمرار مسلسل المناشدات والإدانات الإنسانية عربيًا ودوليًا، على المستويين: الرسمي والشعبي دون تأثير يذكر على سير المعركة.
وأمام هذا السياق المشحون بالأحداث المتضاربة، وأمام هذه الاحتمالات المحدودة؛ يجد الشعب الفلسطيني نفسه مع فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، أمام خيارات إجبارية صعبة لا مفر منها من أجل الانتصار في مواجهة المخطط الصهيو-أميركي. فما هذه الخيارات؟ وما فرص نجاحها؟
هذا ما سوف نتناوله في المقال القادم بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق